أفكار وآراء

ميلاد السيد المسيح وخلاص غزة

يحتفل الغرب المسيحي بميلاد السيد المسيح في 25 ديسمبر، وفقا لمجمع نيقية (325م) الذي حدد ميلاده من منتصف ليلة 24 ديسمبر، وحتى ظهر يوم 25 ديسمبر، وعلى هذا الكاثوليك والبروتستانت، في حين أغلب الكنائس الشرقية الأرثودكسية تحتفل به في 6 يناير، والأرمن في 7 يناير، والذي يوافق أيام عيد الغطاس.

مولد المسيح وإن كان الاحتفاء به كعادة موالد الأنبياء والقديسين تظهر بعد وفاتهم، وقد تظهر بعد قرون، ثم تدخل شيئا فشيئا في الدين، وترتبط بطقوس معينة، ولكن يبقى ميلاد المسيح له رمزيته، حتى في القرآن الكريم، (وَالسَلَامُ عَلَيَ يَوْمَ وُلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا) (مريم: 33)، ورغم أن الأناجيل الأربعة لم تتحدث كثيرا عن ميلاد المسيح، إلا أن إنجيل الطفولة، والذي تعتبره الكنائس غير قانوني؛ تحدث بشكل أكبر عن ميلاد المسيح، وفحوى نصوصه تقترب من سورة مريم في القرآن في بعض المشاهد والجوانب القصصية.

المتفق هنا أن المسيح ولد في مجتمع يهودي فريسي متشدد، عانى منهم قبله يحيى أو يوحنا المعمدان ومن الصدوقيين أيضا، والذي وصفهم بـأولاد الأفاعي عندما أتوا إليه، «فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته قال لهم: يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا، لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم» [متى، 3: 7-9]، والذي كان مصيره القتل من قبل الرومان، وأصبح رمزية كبرى في المندائية والمسيحية والإسلام، وفي التيارات الغنوصية عموما.

المسيح وأمه كذلك سيعانون من اليهود الفريسيين خصوصا، وقد ولد حسب الرواية الإنجيلية في بيت لحم بفلسطين، وكان بينه وبينهم سجال كبير، ولفصاحته وبيان حجته ما كان من اليهود، إلا أن شكوه أكثر من مرة إلى الرومان، مع المطالبة بسجنه وقتله، وأخيرا شكوه إلى بيلاطس الروماني، «وكان الوالي معتادا في العيد أن يطلق للجمع أسيرا واحدا من أرادوه، وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى باراباس، ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم، باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح؛ لأنه علم أنهم أسلموه حسدا، وإذ كان جالسا على كرسي الولاية؛ أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار؛ لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله، ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع، فأجاب الوالي: وقال لهم: مَن مِن الاثنين تريدون أن أطلق لكم؟ فقالوا: باراباس، قال لهم بيلاطس: فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟ قال له الجميع: ليصلب، فقال الوالي: وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين: ليصلب، فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئا، بل بالحري يحدث شغبا، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلا: إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم، فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا، وعلى أولادنا» [متى، 27: 15-25].

والمشهد اليوم يتكرر في ذات الأرض أي فلسطين، وهي أرض لها رمزيتها في الأديان الإبراهيمية الثلاثة وما انبثق منها، لكن المشهد خصوصا اليوم في غزة، ليس عن طريق محاكمة، أو دعوى مظلومية، وبيلاطس اليوم المترأس على أكبر دولة في العالم لم يكن على الأقل محايدا كبيلاطس الرومان والذي قال «إني بريء من دم هذا البار»، بل أن بيلاطس اليوم مبارك وداعم ومؤيد لقتل أكثر من عشرين ألفا، العديد منهم من الأطفال والنساء والعجزة.

وإذا كان الحدث في ذات الأرض؛ فإن الفاعل والمجرم بانتماءاته اليمينية المتطرفة من ذات الفريق، والذين يعودون دينيا مذهبيا إلى الربانيين وهم امتداد للاتجاه الأرثوذكسي الفريسي المتشدد، بيد أن من يرى نفسه اليوم مجسدا ليسوع المسيح، والذي كرز الأرض حاملا شهادة «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة» [لوقا، 2: 14]، وكرزها من بعده الحواريون الرسل، وقد قال لهم: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا» [متى، 10: 34] وهي كناية - كما يرى العديد من المفسرين للكتاب المقدس وآخرهم شنودة (ت 2012م) - عن الاضطهاد الذي سيتعرضون له في كرازتهم وتبشيرهم باسمه كما حدث فعلا بعد وفاة المسيح من اليهود والرومان معا قبل اعتناق قسطنطين الأول للمسيحية في القرن الثالث الميلادي.

الذي يرى نفسه اليوم مجسدا ليسوع المسيح متمثلا في الدول المسيحية الكبرى، بكاثوليكيتها وبروتستانتيتها أصبح حاميا لذات الإجرام ضد المسيح ذاته، ومن ذات الاتجاه الديني، بل ما نراه اليوم أشد وأطغى، خصوصا من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي اعتبرت نفسها ديمقراطية برجماتية ذات نفس ديني مسيحي بروتستانتي إنجيلياكني، مستحضرة للكتاب المقدس في بداية كل رئاسة جديدة، يكون القسم عليه كتقليد ديني، يحمل أبعادا روحية ودينية، ولديها مئات الإرساليات التبشيرية والكرازية، وكما يرى أودون فاليه في كتابه «بوذا ويسوع المسيح» أن الكتاب المقدس «نجده عند كل جندي أمريكي في الحرب العالمية الثانية على اختلاف اختصاصاتهم»، فهي أكبر حام لما يحدث في غزة وفلسطين من إجرام ضد الحياة والإنسان والمسرة والسلام.

لا يمكن الاحتفاء بمولد السيد المسيح وفق المشهد المسيحي عموما بعيدا عن نظرية الخلاص، فمجيء المسيح لأجل الخلاص، هذا الخلاص ليس خلاصا روحيا فحسب، والمتمثل في غفران الذنب ودخول الملكوت، بعد التوبة والتطهير، بل هو خلاص للبشرية ضد الاستبداد، وإقرار كما يرى تولستوي (ت 1910م) لأعظم قيمة جاءت بها المسيحية وهي قيمة المساواة، لهذا تعتبر موعظة الجبل من أعظم المواعظ في إقرار المساواة بين البشر، والتي خلدتها الذاكرة الدينية من خلال العهد الجديد من الكتاب المقدس.

ومما جاء في هذه الموعظة مثلا: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون ... طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون» [متى، 5: 3 - 9]، فأين هذه الأدبيات الرفيعة عن غزة وحصارها لأكثر من عشر سنين، ومنع الإغاثة عنهم، وتدمير المستشفيات والمنازل ودور العبادة، مما يتنافى مع أدنى حقوق الإنسان، لقد خلص المسيح المرأة السامرية ومريم المجدلية ويعقوب بن زبدي ومتى العشار والشهيد تداوس وغيرهم؛ فلم لا يكون الخلاص أيضا لأمة مضطهدة لثمانية عقود، من تجويع وتشريد وقتل.

ومن يفتخر اليوم بانتمائه إلى المخلص الأول، يستحضر تلك الأدبيات الإنسانية التي جاء بها مبكرا ورافعا لأصر الغلاة من قومه، رغم الإيذاء الذي تعرض له بذاته أولا، ثم ما تعرض له أتباعه من تقتيل ذكر مشاهد منه القرآن الكريم في بداية سورة الكهف، وفي سورة البروج، وكما قام بتصويره النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه عن هذه الأمم ممن سلف: «يحفر للواحد منهم، ثم يوضع في الحفرة، ثم ينشر بالمناشير، ويمشط بأمشاط الحديد؛ ما يصده عن دينه»، أي عن مبادئه التي يؤمن بها.

لقد بين المسيح لأتباعه منذ الفترة الأولى أنه ما جاء لينقض بل ليكمل، فما جاء لنقض الناموس، وما فيه من الوصايا العشر، وعلى رأسها وصية لا تقتل، فقد بين «فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى، وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات» [متى، 5: 19]، وقد قال بعدها: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم، ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم» [متى، 5: 21 - 22].

واليوم ما يحدث في غزة أمر لا يتصوره عقل، ولا يتحمله قلب ولا سمع، فليس قتلا لمحارب، أو سفكا لدم لسبب طيش أو غضب أو سفه، وليس رقا أو سبا لكرامة، بل هي مجزرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وبمباركة من دول كبرى تدعي أنها تنسب إلى رسالة السيد المسيح - عليه الصلاة والسلام -.

ما قلته آنفا لا يعني تلك الدول المسيحية الحرة في أمريكا اللاتينية مثلا، ولا الرهبان ورجال الدين وأحبار الكنائس الذين وقفوا بحق ضد الظلم والعدوان، بل من ومن أحرار اليهود أنفسهم أيضا، ولا من الشعوب الحرة في الشرق والغرب، على اختلاف أطيافها وأديانها ومذاهبها، وإنما ما أردته والعالم المسيحي خصوصا يحتفي بهذه المناسبة، وإن كان المسيح رمزية كبرى لأديان متعددة، إلا أن الاحتفاء بمولده هذا العام، يحدث في فترة عصبية ومظلمة في الأرض التي ولد ونشأ فيها، ومن أمة خرج منها، وعاش في ظلها، ومن أمة أخرى انتسبت إليه، وتبركت باسمه دينا وخلاصا، فلا أقل أن يلتفت إلى هذه المناسبة لخلاص أمة غزة من الظلم والقتل والعدوان الذي كتب عليهم ظلما وعدوانا، فما لا ترضاه أمة لأبنائها ونفسها فكيف يرضونه في أمة أخرى، تغتصب ديارهم، وتسلب أموالهم، وتسفك دماؤهم، والعكس صحيح في جانب بعث المساواة من حيث الحرية والكرامة وتحقيق الإنسانية بين الأمم جميعا بلا تفريق بينهم كما قال السيد المسيح: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم؛ افعلوا هكذا انتم أيضا بهم؛ لأن هذا هو الناموس والأنبياء» [متى، 7: 12].

بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»