رأي عُمان

فلسفة السلام مع إسرائيل.. ووهم «حل الدولتين»

 
أحد أهم الأسئلة التي على العرب الحصول على إجابة دقيقة عليها يتمثل في: هل «حل الدولتين» كان، وما زال ممكنا؟ أو أنه كان، وما زال خيارا من أجل تبرير بعض المسارات السياسية في المنطقة منذ أوسلو وحتى اتفاقيات أبراهم في عام ٢٠١٩؟ الإجابة على هذا السؤال مهمة جدا في هذا المنعطف التاريخي التي تمر به القضية الفلسطينية والذي تمارس فيه إسرائيل أحد أبشع عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ.

وتحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى فهم فكر الدولة «اليهودية» والأيديولوجية التي قامت عليه.

كان حل الدولتين أحد أهم بنود اتفاقية أوسلو «١٩٩٣» وكان من المنتظر، وفق الاتفاقية، أن تعلن في عام ١٩٩٩، ثم قررت اللجنة الرباعية في ذلك الوقت تأجيلها إلى عام ٢٠٠٥.. لكن بعد ثلاثة عقود لم ترَ الدولة الفلسطينية النور، بل إن الأراضي التي كان من المفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية قد تآكلت بفعل بناء المستوطنات الإسرائيلية.

ولا يبدو منطقيا أن الدولة الفلسطينية المستقلة التي عاصمتها القدس الشرقية يمكن أن تعلن وفق مسارات أوسلو؛ لأن أوسلو تفترض مسارا تفاوضيا سلميا وهذا ما يمكن مع جميع الحكومات الإسرائيلية. لكن هناك عائقا أهم بكثير من العائق السياسي الذي يحول دون الوصول إلى حل الدولتين.. إنه العائق الأيديولوجي الذي تؤمن به إسرائيل «اليهودية».

تعود جذور مفهوم «الدولة اليهودية» إلى الأيديولوجية الصهيونية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر كرد فعل على انتشار معاداة السامية والرغبة في إقامة وطن قومي «للشعب اليهودي»، وتطور المفهوم في الثقافة اليهودية منذ ذلك الوقت إلى إعلان قيام «دولة» إسرائيل في عام 1948، ورغم التحولات التي شهدتها المنطقة وما صاحبها من حروب دامية بين العرب وإسرائيل منذ ١٩٤٨ ومرورا بحرب ١٩٥٦ وحرب ١٩٦٧ وحرب ١٩٧٣ والحروب المحدودة الأخرى التي لم تتوقف أبدا إلا أن إيمان أغلب الإسرائيليين ما زال يدافع عن فكرة دولة يهودية أوسع تشمل كامل أرض «فلسطين» التاريخية (من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط). صحيح أن هناك فئات تدعم فكرة التعايش وترحب بفكرة حل الدولتين إلا أن هذه الفئة تبقى بسيطة ولا تملك سلطة سياسية ولا حتى سلطة ثقافية معتبرة قادرة على تغيير السرديات التي يؤمن بها اليهود.

ولذلك يواجه خيار حل الدولتين الكثير من التحديات البنيوية التي تبدو في المسارات السياسية والتفاوضية مستحيلة الحل، فكيف يمكن عبور تحدي التفسيرات اليهودية لسردية «الحدود الوطنية الإسرائيلية»؟! وكيف يمكن إقناع الكثير من مكونات الدولة اليهودية المتأثرين بالأيديولوجيات الدينية والقومية بفكرة التنازل عن السيطرة على أجزاء من «الأرض التاريخية» والتي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة.

وخلال الحرب الجارية الآن كرر نتنياهو رفضه لاتفاقية أوسلو عشرات المرات واعتبرها توقيعها خطأ استراتيجيا كبيرا، وقبل أيام نقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن مسؤولين إسرائيليين طلبهم من الرئيس الأمريكي بايدن التوقف عن الحديث العلني عن مسار حل الدولتين.

ومن نافل القول إن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة لا يمكن أن يفهم منها أي رغبة أو توجه إسرائيلي، على المدى القريب أو المتوسط، نية الذهاب إلى خيار حل الدولتين أو أي مستوى من مستويات السلام.

وفي مقابل ذلك فإن إسرائيل اختارت مسارا آخر هو مسار التطبيع المنفرد مع الدول العربية، وهو مسار يتجاهل فلسطين تماما ليس بدءا باتفاقية كامب ديفيد وليس انتهاء باتفاقية أبراهم التي وقعت في عام ٢٠١٩. ولو كانت إسرائيل تضع في اعتبارها حضور القضية الفلسطينية في علاقات التطبيع التي برمتها مع بعض الدول العربية لراعت ذلك خلال هذه الحرب الإجرامية التي تشنها على قطاع غزة والتي حصدت حتى الآن أرواح أكثر من ٢٠ ألف فلسطيني جلهم من الأطفال والنساء إضافة إلى آلاف ما زالوا حتى اليوم تحت الأنقاض.

لذلك لا يمكن أن نتصور بكل المقاييس الأيديولوجية أو السياسية أن ترضخ إسرائيل لخيار حل الدولتين.. اللهم إلا إن حدث ذلك في مسار تفاوضي يعقب مواجهة عسكرية تستطيع أن تكبد إسرائيل فيها خسارة استراتيجية كبرى، وإلا فإن الفلسفة التي تقوم عليها دولة إسرائيل في كل أبعادها لا تعترف بالسلام أبدا ولا تعترف لفلسطين بدولة وعلى هذا الفهم لا بد أن تقوم استراتيجية المواجهة بين العرب وإسرائيل.