أفكار وآراء

وهم الامتياز في زمن السوشيال ميديا !

كتبنا كثيرا؛ بأن المتغيرات الجديدة لثورة المعلوماتية والاتصال على وقع محددات نشاط وسائل التواصل الاجتماعي، فيما هي توهم الناشطين أنهم يمارسون عملا أسفيريا عاما - وربما ذا أهمية فائقة - إنما هم في الحقيقة يتوهمون ممارسة ما يشبه قطيعةً مع أساليب وقواعد زمن «قديم» بدا في التلاشي لكنهم في الوقت ذاته (ونظرا لبدايات هذه المتغيرات الجديدة) غير مدركين ما يمكن أن تفضي إليه النهايات غير المعلومة لمثل هذه الممارسات الأسفيرية.

مصطلح «ناشط» ذاته الذي بدا بديلا مثل «الجوكر» بدا مصطلحا يمكن إدخاله في أي مجال: ناشط سياسي/ اقتصادي/ اجتماعي.. وأصبح بمثابة النموذج التفسيري لرموز التواصل الاجتماعي، وأحد أهم علامات هذه المرحلة غامضة النهايات؛ لذا فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: إذا كانت بنيات ووسائل إدارة الشأن العام التي كانت تعتمد في الزمن «القديم» على أدوات عمل عام أساسية كالمنظمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهل يمكن القول إن هذا النشاط الأسفيري سيصلح بديلا لأي شيء؟.

وإزاء دعاوى ظهرت مع العولمة (التي هي أحد تمظهرات نشاط ثورة المعلوماتية والاتصال) مثل: «ما بعد المواطنة» و«ما بعد الدولة القومية» وغيرها من المابعديات هذه، هل يمكننا إدراك مدى الوضع المزعج الذي دخل فيه عالمنا حدودا متداخلة يتوهم البعض معها مثلا: أن مجرد ممارسة وسائط التواصل الاجتماعي وملاذاتها الوهمية ستكون بذاتها كافية لتلاشي حدود صلبة بين كيانات عالم عريض ذي صيرورات تاريخية مختلفة في صلابة كياناته ودوله القومية التي بطبيعة الحال ليست هي تلك التي تصورها وسائط السوشيال ميديا حين يتوهم رواد تلك الوسائط أن مجرد معاصرة العالم ضمن وسائط متساوية من التواصل سيعني سويةً واحدة، كما يذهب إلى ما يشبه هذا الناقد السعودي د. عبدالله الغذامي في بعض آرائه حول ما سمي الربيع العربي في حينه قبل ١١ عاما. أو الرأي الذي يزعم فيه أن هوية «المحافظة» هي هوية واحدة تصلح للقياس الاجتماعي بسوية جامعة ومنضبطة كمحافظة المجتمع الإنجليزي وبعض دول الخليج!

لقد أدخلنا العالم مع ثورة المعلوماتية والاتصال، في شرط اتصالي وعولمي واحد لكننا داخل ذلك العالم ليسوا سواءً، ومتى ما توهمنا ذلك (كما تغري به وسائط السوشيال ميديا) لن ندرك ما نحن عليه أبدا بل ولا نعود نملك أداةً تفسيرية لما أصبح عليه حالنا من تشوهات مميتة، فيما نحن نتوهم أننا بالفعل نعيش في زمن جعلت منه السوشيال ميديا عالما واحدا!

إن ظاهرة التعاطي مع السوشيال ميديا وتوهماتها وعوالمها الافتراضية التي أنتجت لنا في النهاية طبقة تسمى بطبقة «المؤثرين» وهي طبقة يمكن القول إنها طبقة تم ترفيعها من مصطلح ناشط لكي تضم في مشمولاتها ما هو أوسع وأكبر من المجال العام السياسي، وليدخل فيها كل من كان مؤثرا في الطبقة التي يفرض سلطتها عليه من خلال وسائط السوشيال ميديا. ونظرا لأن مؤثرات تلك الوسائط هي بالأساس من إنتاج شركات عولمية كبرى مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«تيك توك» فإن الشرط الربحي هو الذي يتحكم في القيمة التي تنتجها - أيا كان محتوى هذه القيمة - وبالتالي فإن استخدام تلك الوسائط للتأثير على عامة الناس كلما كان محتوى المؤثرين فيها مثيرا ولافتا لمطلق النظر ومهيجا للغرائز كانت حظوظ كثير من المؤثرين فيها لجني المال هي الأكثر شهرة.

ومن هنا فإن سلطة الكثرة الكاثرة للجماهير في وسائط السوشيال ميديا هي التي أحيانا تغير قناعات كثيرين من البسطاء بأهمية أولئك المؤثرين، فيما الحقيقة هي أن تلك السلطة السطحية هي مؤثر سطحي وسريع الذوبان، لكن الإشكالية ليست في أي معنى لبنية تلك السلطة أو تأثيرها، وإنما في ثبات تسارعها ذاك مع تغير عناصر المؤثرين مع مرور الزمن السريع للمحتوى السطحي الذي يؤثرون به على عامة الناس.

إن الدرس الذي نستنتجه من رسالة السوشيال ميديا يكمن في أن طبيعتها التواصلية تلك هي توسع شامل في نقل شفاهيات الناس من حيث كونها عاديات يومية، لكن الجديد فيها أنها عاديات تزامنت مفرداتها في فضاء أسفيري واسع منح طبيعتها تلك قابلية للانتشار، كما منح إغراءً للأفراد العاديين بأن يتوهموا في أنفسهم إمكانات غير عادية لمجرد أنه قد أتيح لهم ممكنات نشر غير متناهية عبر فضاء أسفيري مجاني. والحقيقة أن الذي تغير هو الوسيط الإلكتروني الناقل الذي وفرته ثورة المعلوماتية والاتصال، دون أن يكون المحتوى كذلك بالضرورة.

يوما بعد يوم ربما سيتشكك الناس في أنفسهم وإمكاناتهم أمام التطورات الاتصالية للعالم عبر قفزاتها الجبارة مع التقنيات التي كشفت عنها إمكانات الذكاء الاصطناعي، لكن ثمة حدود لذلك الذكاء الاصطناعي الذي أصبحت تطبيقاته تخيف الكثيرين، فمثلا يمكن للذكاء الاصطناعي تحويل عناصر القصيدة إلى لوحة، لكن بكل تأكيد إذا طلبنا منه العكس سيعجز بالضرورة!