أزمة الديون المُستمرة في البلدان النامية
الاحد / 3 / جمادى الآخرة / 1445 هـ - 19:18 - الاحد 17 ديسمبر 2023 19:18
تستمر أزمة الديون في البلدان منخفضة الدخل في التفاقم. في الواقع، يبدو أن مجتمع السياسة الدولي بدأ يفقد قدرته للتعامل مع هذه المشكلة. فهل سيتمكن من التغلب على الأزمة أم أن كارثة الديون في البلدان النامية أصبحت حتمية؟
لقد ارتفع بالفعل عدد الاقتصادات التي تعاني من ضائقة الديون بشكل حادّ بين الأزمة المالية العالمية في الفترة ما بين عامي 2008 و2009 ووقت اندلاع جائحة فيروس كوفيد 19، وفقًا لتقديرات البلدان التي حصلت على تصنيف متوسط أو أقل من قبل وكالة التصنيف الائتماني «موديز». وعندما اندلعت الجائحة، توقف عدد البلدان المُتعثرة عن الارتفاع، حيث قرر زعماء العالم معالجة ما أصبح الآن حالة طوارئ إنسانية فضلًا عن الأزمة المالية.
وقد أطلقت دول مجموعة العشرين «مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين» (DSSI)، التي أعفت مؤقتا حكومات البلدان المُثقلة بالديون من ضرورة السداد. مع ذلك، وبمجرد انتهاء صلاحية مبادرة تعليق سداد خدمة الديْن في نهاية عام 2021، بدأ عدد الدول المتعثرة في الارتفاع مرة أخرى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى حقيقة مفادها أن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية جعل خدمة الديون أكثر صعوبة. ويتجاوز عدد البلدان التي تعاني من ضائقة الديون، حاليا 40 دولة، وفقا لقياسات وكالة موديز. في نهاية عام 2020، تم استكمال مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين من خلال مبادرة «إطار العمل المُشترك لمعالجة الديون». وكان الهدف من هذه المبادرة يتلخص في تسهيل اتفاقيات إعادة الهيكلة بين البلدان التي تعاني من ديون غير مُستدامة، ودائنيها من البلدان المتقدمة، وحاملي السندات.
ومع ذلك، استمرت جهود إعادة الهيكلة هذه لسنوات عديدة، دون إحراز أي تقدم واضح. في الشهر الماضي، تم الترحيب بالاتفاق الذي تم بين زامبيا ودائنيها باعتباره خطوة إيجابية. ولكن عرض تخفيف الديون المُقدم إلى زامبيا كان غير كاف بشكل واضح. وما إن تم الإعلان عن الصفقة المُقترحة حتى انهارت. اشتكت الصين من أنه يتم التعامل مع دائنيها من البنوك المملوكة للدولة بشكل أقل تفضيلا من حاملي السندات. وتحتاج مبادرة الإطار المشترك، كما لاحظ اثنان من منتقديها، إلى «إعادة ضبط كبرى في العام الجديد».
ومن قبيل الصدفة، يصادف عام 2024 الذكرى المئوية لخطة دوز، التي تمت بموجبها إعادة هيكلة ديون ألمانيا لخصومها في الحرب العالمية الأولى. وهنا يكمن تاريخ قديم.
فقد خلّفت الحرب شبكة مالية مُعقدة: حوالي 30 مليار دولار من التعويضات المُستحقة على ألمانيا للحلفاء الأوروبيين المُنتصرين، و10 مليارات دولار من ديون الحرب المُستحقة على الحلفاء للولايات المتحدة. وكان من الواضح أن هذه الالتزامات مُرتبطة ببعضها البعض -وذلك أن الحلفاء لن يوافقوا على خفض التعويضات المُستحقة على ألمانيا إلا إذا ألغت الولايات المتحدة ديونهم-.
مع ذلك، رفض الكونجرس الأمريكي، بعد أن اتخذ موقفًا انعزاليا، التنازل عن التزامات الحلفاء. فقد كانت أمريكا جديدة على تحمل المسؤوليات المُترتبة على كونها دائنا صافيا للعالم، بعد أن كانت مدينة صافية قبل الحرب. ففي عام 1923، اعترفت الولايات المتحدة متأخرة بخطورة أزمة الديون في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي جعلت التضخم المفرط الألماني تجاهلها أمرا مستحيلا تجاهله. وقد سمحت تشارلز جيتس دوز، المصرفي في شيكاغو ونائب رئيس الولايات المتحدة فيما بعد، برئاسة لجنة دولية لمراجعة مشكلة الديون في مرحلة ما بعد الحرب. كانت مشاركة دوز مُهمة حيث أشارت إلى إعادة انخراط الولايات المتحدة في الشؤون العالمية. صحيح أن خطة دوز قلّصت التزامات ألمانيا الفورية، إلا أنها لم تُساهم بشكل كبير في تخفيف عبء الديون طويلة الأجل، وقد أدت إلى تأجيل مدفوعات البلاد إلى وقت غير مُسمى. ثم تم تمويل التحويلات الحكومية الألمانية إلى الحلفاء من خلال قرض بالدولار تم طرحه في السوق الأمريكية من قبل بنك الاستثمار الأمريكي جي بي مورجان وشركاه.
ساهمت ترتيبات العمل التصحيحية هذه في وقف التضخم المفرط في ألمانيا وسمحت باستئناف النمو الاقتصادي الأوروبي. ولكن كل شيء انهار بعد عام 1929. فمع غرق الاقتصاد العالمي في أزمة الكساد العظيم، تم الاتفاق في عام 1931 على تعليق أو تأجيل سداد جميع مدفوعات الديون والتعويضات لمدة عام واحد. في عام 1932، عندما كان الأوان قد فات لمنع التحول السياسي الكارثي في ألمانيا، وافقت الحكومات الأوروبية أخيرًا على إلغاء مطالباتها بالتعويض. وقد قامت بعد ذلك بالتخلي عن ديونها المُستحقة للولايات المتحدة، الأمر الذي أوقعها في عداء دائم مع الكونجرس. يمكن استخلاص دروس عديدة لأزمة ديون البلدان النامية الحالية من هذا التاريخ المأساوي.
أولًا: يتعين على الدائنين حتى عند افتقارهم إلى الخبرة، أن يعترفوا بدورهم في حل أزمات الديون. واليوم، هذا يعني أن كل الأنظار تتجه نحو الصين، التي تُعَد الدائن الأكثر أهمية للدول الفقيرة المُثقلة بالديون.
ثانيًا: كان تقديم قروض للدول المتعثرة، على غرار ما فعله جيه بي مورجان عام 1924، سببًا في تسريع دورة الأزمة. وتقدم الصين حاليًا مقايضات وإعانات بعملة الرنمينبي الصيني للحكومات التي حصلت في السابق على قروض البنية الأساسية كجزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية، مما يُمكنها من الاستمرار في سداد مدفوعاتها للبنوك الصينية. هذه الوسيلة لا تحل المشكلة، بل تجعل البلدان المتعثرة أكثر مديونية.
وأخيرًا، فإن منح البلدان المثقلة بالديون عروض تخفيف كافية لمساعدتها على تخطي الأزمة من شأنه أن يُعرضها للخطر في حالة تعرضها لأزمة أخرى. وكان هذا هو النهج الذي تم اتّباعه في إطار خطة دوز، لكنه فشل في حل أزمة الكساد العظيم. وهو النهج المُتبع بموجب مبادرة إطار العمل المشترك، التي تُلزم الدائنين فقط بتقديم الحد الأدنى من تخفيف عبء الديون، وهو ما يكفي من التخفيف للسماح لصندوق النقد الدولي بالإعلان عن تحمل ديون البلاد. وهذا لا يترك أي مجال للخطأ. وكما ذكرتنا الأحداث، فإن الأخطاء لا بد أن تحدث.
باري آيكنجرين أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. مؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك «الدفاع عن الدين العام».
خدمة بروجيكت سنديكيت
لقد ارتفع بالفعل عدد الاقتصادات التي تعاني من ضائقة الديون بشكل حادّ بين الأزمة المالية العالمية في الفترة ما بين عامي 2008 و2009 ووقت اندلاع جائحة فيروس كوفيد 19، وفقًا لتقديرات البلدان التي حصلت على تصنيف متوسط أو أقل من قبل وكالة التصنيف الائتماني «موديز». وعندما اندلعت الجائحة، توقف عدد البلدان المُتعثرة عن الارتفاع، حيث قرر زعماء العالم معالجة ما أصبح الآن حالة طوارئ إنسانية فضلًا عن الأزمة المالية.
وقد أطلقت دول مجموعة العشرين «مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين» (DSSI)، التي أعفت مؤقتا حكومات البلدان المُثقلة بالديون من ضرورة السداد. مع ذلك، وبمجرد انتهاء صلاحية مبادرة تعليق سداد خدمة الديْن في نهاية عام 2021، بدأ عدد الدول المتعثرة في الارتفاع مرة أخرى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى حقيقة مفادها أن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية جعل خدمة الديون أكثر صعوبة. ويتجاوز عدد البلدان التي تعاني من ضائقة الديون، حاليا 40 دولة، وفقا لقياسات وكالة موديز. في نهاية عام 2020، تم استكمال مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين من خلال مبادرة «إطار العمل المُشترك لمعالجة الديون». وكان الهدف من هذه المبادرة يتلخص في تسهيل اتفاقيات إعادة الهيكلة بين البلدان التي تعاني من ديون غير مُستدامة، ودائنيها من البلدان المتقدمة، وحاملي السندات.
ومع ذلك، استمرت جهود إعادة الهيكلة هذه لسنوات عديدة، دون إحراز أي تقدم واضح. في الشهر الماضي، تم الترحيب بالاتفاق الذي تم بين زامبيا ودائنيها باعتباره خطوة إيجابية. ولكن عرض تخفيف الديون المُقدم إلى زامبيا كان غير كاف بشكل واضح. وما إن تم الإعلان عن الصفقة المُقترحة حتى انهارت. اشتكت الصين من أنه يتم التعامل مع دائنيها من البنوك المملوكة للدولة بشكل أقل تفضيلا من حاملي السندات. وتحتاج مبادرة الإطار المشترك، كما لاحظ اثنان من منتقديها، إلى «إعادة ضبط كبرى في العام الجديد».
ومن قبيل الصدفة، يصادف عام 2024 الذكرى المئوية لخطة دوز، التي تمت بموجبها إعادة هيكلة ديون ألمانيا لخصومها في الحرب العالمية الأولى. وهنا يكمن تاريخ قديم.
فقد خلّفت الحرب شبكة مالية مُعقدة: حوالي 30 مليار دولار من التعويضات المُستحقة على ألمانيا للحلفاء الأوروبيين المُنتصرين، و10 مليارات دولار من ديون الحرب المُستحقة على الحلفاء للولايات المتحدة. وكان من الواضح أن هذه الالتزامات مُرتبطة ببعضها البعض -وذلك أن الحلفاء لن يوافقوا على خفض التعويضات المُستحقة على ألمانيا إلا إذا ألغت الولايات المتحدة ديونهم-.
مع ذلك، رفض الكونجرس الأمريكي، بعد أن اتخذ موقفًا انعزاليا، التنازل عن التزامات الحلفاء. فقد كانت أمريكا جديدة على تحمل المسؤوليات المُترتبة على كونها دائنا صافيا للعالم، بعد أن كانت مدينة صافية قبل الحرب. ففي عام 1923، اعترفت الولايات المتحدة متأخرة بخطورة أزمة الديون في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي جعلت التضخم المفرط الألماني تجاهلها أمرا مستحيلا تجاهله. وقد سمحت تشارلز جيتس دوز، المصرفي في شيكاغو ونائب رئيس الولايات المتحدة فيما بعد، برئاسة لجنة دولية لمراجعة مشكلة الديون في مرحلة ما بعد الحرب. كانت مشاركة دوز مُهمة حيث أشارت إلى إعادة انخراط الولايات المتحدة في الشؤون العالمية. صحيح أن خطة دوز قلّصت التزامات ألمانيا الفورية، إلا أنها لم تُساهم بشكل كبير في تخفيف عبء الديون طويلة الأجل، وقد أدت إلى تأجيل مدفوعات البلاد إلى وقت غير مُسمى. ثم تم تمويل التحويلات الحكومية الألمانية إلى الحلفاء من خلال قرض بالدولار تم طرحه في السوق الأمريكية من قبل بنك الاستثمار الأمريكي جي بي مورجان وشركاه.
ساهمت ترتيبات العمل التصحيحية هذه في وقف التضخم المفرط في ألمانيا وسمحت باستئناف النمو الاقتصادي الأوروبي. ولكن كل شيء انهار بعد عام 1929. فمع غرق الاقتصاد العالمي في أزمة الكساد العظيم، تم الاتفاق في عام 1931 على تعليق أو تأجيل سداد جميع مدفوعات الديون والتعويضات لمدة عام واحد. في عام 1932، عندما كان الأوان قد فات لمنع التحول السياسي الكارثي في ألمانيا، وافقت الحكومات الأوروبية أخيرًا على إلغاء مطالباتها بالتعويض. وقد قامت بعد ذلك بالتخلي عن ديونها المُستحقة للولايات المتحدة، الأمر الذي أوقعها في عداء دائم مع الكونجرس. يمكن استخلاص دروس عديدة لأزمة ديون البلدان النامية الحالية من هذا التاريخ المأساوي.
أولًا: يتعين على الدائنين حتى عند افتقارهم إلى الخبرة، أن يعترفوا بدورهم في حل أزمات الديون. واليوم، هذا يعني أن كل الأنظار تتجه نحو الصين، التي تُعَد الدائن الأكثر أهمية للدول الفقيرة المُثقلة بالديون.
ثانيًا: كان تقديم قروض للدول المتعثرة، على غرار ما فعله جيه بي مورجان عام 1924، سببًا في تسريع دورة الأزمة. وتقدم الصين حاليًا مقايضات وإعانات بعملة الرنمينبي الصيني للحكومات التي حصلت في السابق على قروض البنية الأساسية كجزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية، مما يُمكنها من الاستمرار في سداد مدفوعاتها للبنوك الصينية. هذه الوسيلة لا تحل المشكلة، بل تجعل البلدان المتعثرة أكثر مديونية.
وأخيرًا، فإن منح البلدان المثقلة بالديون عروض تخفيف كافية لمساعدتها على تخطي الأزمة من شأنه أن يُعرضها للخطر في حالة تعرضها لأزمة أخرى. وكان هذا هو النهج الذي تم اتّباعه في إطار خطة دوز، لكنه فشل في حل أزمة الكساد العظيم. وهو النهج المُتبع بموجب مبادرة إطار العمل المشترك، التي تُلزم الدائنين فقط بتقديم الحد الأدنى من تخفيف عبء الديون، وهو ما يكفي من التخفيف للسماح لصندوق النقد الدولي بالإعلان عن تحمل ديون البلاد. وهذا لا يترك أي مجال للخطأ. وكما ذكرتنا الأحداث، فإن الأخطاء لا بد أن تحدث.
باري آيكنجرين أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. مؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك «الدفاع عن الدين العام».
خدمة بروجيكت سنديكيت