أعمدة

المجزرة في فيديو فائق الجودة

 
تجلس بارتخاء على الكرسي المقابل، تتصفّح آخر صيحات القتل الفلسطيني اليومي على مرآة هاتفها بحثًا عن مجزرة جديدة في فيديو جديد، قبل أن تجد ضالتها في مشهد يخرج الآن من فرن الحاضر طازجًا ساخنًا، ليذيب جليد الدموع المجمّدة خلف نظارتها الطبية، وعلى طريقة المقاطع التشويقية القصيرة في يوتيوب (شاهد قبل الحذف): مذبحة حصرية يبثها أحد المصورين في مخيم جباليا إلى الفضاء الخارجي. كأن غزة شيء والعالم كله شيء آخر، عليك أن تستقبل الأمر على هذا النحو حتى يبدو المشهد أكثر إقناعًا.

مجزرة جديدة في مقطع فيديو جديد وسريع يمر في أقل من ستين ثانية من الدهر على امرأة تجلس قبالتي، وعلى ملايين حول العالم يمررون بإصبع واحدة هذا الفيديو فائق الجودة ليسجلوا حضورهم كشهود سلبيين على الجريمة الموثقة التي تتدفق بالصوت والصورة، ثانية بثانية، إلى وعي الجمهور العالمي المشلول على مقاعد الفُرجة المخزية. أهو العجز أم الجُبن أم الكسل؟ أم هي حيلة أخرى من حيل التبرير للذات حين «يرى الجبناء أن العجز عقلٌ/ وتلك خديعة الطبع اللئيمِ» كما يقول المتنبي؟ لا يهم الآن ما دام بوسعنا أن نمتلئ في هذه الأثناء بتفاصيل المشهد المقتبس وأن نحترف الانتظار لوقت أطول.

أتذكر أن المرأة التي تتصفح هاتفها الآن قبالتي كانت قد توقفت عن مشاهدة المسلسلات والأفلام منذ اندلاع الحرب على غزة، ألغت اشتراكها الشهري في «نتفليكس» بعد السابع من أكتوبر وانصرفت لمشاهدة البث الحي على قناة الجزيرة. هل يعني هذا الأمر شيئًا أعمق بالنسبة لها؟ هل الإضراب عن الشيء هو طريقتها المعتادة في الاحتجاج على كل شيء؟ أم أن احترافية المشهد الواقعي «الإباحي» قد طورت قدرتها على النقد إلى درجة تفضح التمثيل والممثلين وتجعل من المحاكاة الدرامية فنًّا زائفًا بالغ الركاكة للحقيقة، الحقيقة المعجونة باللحم والدم؟ أتذكر أنني أنا الآخر قد أهملتُ تجديد اشتراكي على «نتفليكس» بعدما جاءت الحرب فسدَّت شهيتي في استقبال أي صنف من أصناف التراجيديا السينمائية الفاخرة، فضلًا عن الكوميديا التمثيلية أو المرتجلة التي لم تعد تجرني سوى لمزيد من عتمات الكآبة. لكنني أحاول أن أتفحص حقيقةً ما في هذه العلاقة العكسية بين بهتان الخياليّ مقابل سطوع الواقعيّ؛ أحاول أن أقبض على وقع الفرق بين صورة القتيل في السينما، الملطخة بالدم الاصطناعي والمؤثرات البصرية، وصورته الحقيقية الحية على شاشة الأخبار، دون أن أنسى واحدة من أكثر المفارقات فظاعة في تاريخ الفن والأدب؛ مفارقة تفيد بأن الحرب لطالما كانت أكثر الظواهر البشرية تأثيرًا في تطور الإبداع البشري وانتقاله من مرحلة إلى أخرى وحسبنا أن نتأمل كيف خرجت ملامح الحداثة الشعرية الأولى من دمار الحرب العالمية الثانية، وكيف طارت لنا عبر قصيدة «الأرض اليباب» لت.س. إليوت.

كأنني أقترب من تفسير يبدو لي من خلاله أن السينما والدراما التلفزيونية ما هي إلا ذخيرتنا الاحتياطية حين تأسن المياه في البِرك وتصبح الحياة مملة فوق العادة. في الأيام الراكدة ندق أبواب أصدقائنا الموثوقين لنسأل عن توصيات سينمائية جديدة تلائم مزاج اللحظة المحايدة شغفًا بالمزيد من التشويق والإثارة كلما تراخت أوتار واقعنا أكثر. ونعرف أننا نستعين بالفن لتمرين المخيلة على الطيران، لنستضيف فيها ما يحررنا من الملل والمباشرة عندما نجلس على مائدة الحاضر البارد. أما اليوم فكيف سنخرج من واقعية الواقع الشرسة إلى ما يحاكيها؟! كيف سنصدق السينما التي تقلد الكارثة بينما نقف على السفح شهودًا على الكارثة الحرفية نفسها؟! ستخذلنا سينما الحرب بعد الحرب على غزة، ستخذل أجيالًا من عشَّاقها اللاحقين بعدنا، أولئك الذين سيقارنون حتمًا ملاحمها التمثيلية بالوثيقة التاريخية التي يستشهد من أجلها المصورون والصحفيون في قطاع غزة (كان آخرهم، قبل أمس، مصور قناة الجزيرة سامر أبو دقة) الوثيقة البصرية المؤرخة منذ أكتوبر 2023 بأحدث تقنيات التصوير وأدقها، دون أن تغير الدقة والتصوير الاحترافي أي شيء يذكر في مسار الكارثة، إلى درجة صار المجرم فيها هو من يتبجح بنفسه فيصور جريمته بالفيديو إمعانًا في إهانة العالم الذي تحول من شاهد عيان إلى جمهور.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني