أفكار وآراء

القضية الفلسطينية في حاجة إلى قيادة جديدة

ستظل القضية الفلسطينية في ضمير أجيال متعاقبة من العرب، وستبقى هي القضية المحورية التي لم نُحسن إدارتها عبر ما يزيد على خمسة وسبعين عاما، خضنا خلالها حروبا راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشباب، وبسببها تعثرت التنمية في بعض أقطارنا العربية، ورغم ذلك لم نحصد إلا الدماء التي نراها صباح مساء، بينما العالم الغربي ما يزال يدعي بأنه يدافع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدعم هذه الحرب غير المتكافئة، والتي أتت على الأخضر واليابس، وأعتقد أن الكثير من الشعوب العربية تتطلع إلى وقف هذه الحرب التي تحصد آلاف الشهداء يوماً بعد آخر.

تابعت الجولات المتعاقبة التي قام بها بعض وزراء الخارجية العرب، وهو جهد دبلوماسي مطلوب، إلا انه جاء متأخرا وخصوصا وأن مفتاح الحل ما يزال بيد الولايات المتحدة الأمريكية، وقد صدمني موقف مندوبتها في الأمم المتحدة، حينما راحت تعيد المشهد يوم ٧ أكتوبر الماضي بشكل درامي تأكيداً على ثبات الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل دون الإشارة إلى ما أعقب ذلك من دمار وقتل وحصار لشعب كاد أن يقتله اليأس بعد أن فقد الأمل وسط عالم ظالم لا يرى إلا ما تقول به إسرائيل، وهو مشهد مأساوي لا مثيل له في التاريخ الحديث.

ستبقى القضية الفلسطينية قضية معقدة مستعصية على الحل، في ظل انقسام عربي وصراع فلسطيني فلسطيني، حكومة في رام الله تعترف بها الكثير من دول العالم، وأخرى في قطاع غزة والخلاف بينهما لا يقل عن خلافهما مع إسرائيل، وفي الوقت الذي تطالب فيه معظم دول العالم بقيام دولتين متجاورتين، وهو ما تسعى إليه الدول العربية، لكن السؤال: ما هو الفصيل السياسي الذي يمثل الجانب الفلسطيني؟ هل ستقبل حماس أن يتولى أبو مازن وجماعته التفاوض مع إسرائيل؟ وهل ستقبل بما ستسفر عنه المفاوضات؟ أتذكر منذ عدة عقود ما قاله المرحوم معمر القذافي في أحد اجتماعات القمة العربية، مقترحاً دولة واحدة تجمع الفلسطينيين والإسرائيليين معا (إسراطين) وهو مقترح تلقاه الإعلام العربي بقدر من السخرية!

أعتقد أن إسرائيل لن تقبل أبداً بهذا الحل، الذي لو توفرت له كل الشروط اللازمة، بقيام دولة علمانية يتساوى فيها العرب والإسرائيليون أمام الدستور والقانون على قدم وساق، وينعم فيها الجميع بفرص متساوية في التعليم والخدمات، أنا على ثقة بأن هذا الحل لن توافق عليه إسرائيل، ولا حتى الفلسطينيين، وسيبقى شعار حل دولتين متجاورتين كلام مرسل، تشوبه الكثير من التعقيدات، لعل في مقدمتها صعوبة التواصل بين غزة والضفة الغربية، وستظل إسرائيل متمسكة بالسيطرة على الحدود والمطارات، حتى هذا المقترح الذي قال به معمر القذافي لن ترضى به إسرائيل ولا الفلسطينيون، وفكرة قيام دولة منزوعة السلاح هو الآخر لن يقبل به الفلسطينيون ولا الإسرائيليون.

ما يحدث الآن من مفاوضات غير مباشرة مع حماس بشأن الأسرى هو قضية هزلية، ففي مساء كل يوم تُفرج فيه إسرائيل عن بضعة أفراد من الفلسطينيين يحدث في صباح اليوم التالي اقتحام للقرى والمدن في الضفة الغربية والقدس لإلقاء القبض على مئات الفلسطينيين والزج بهم في السجون دون محاكمة، ولم يلتفت المفاوضون إلى هذه القضية، التي لم يكتف فيها الإسرائيليون على مجرد السجون، وإنما يُستشهد كل يوم عشرات الفلسطينيين، في القدس ورام الله ومختلف مدن الضفة الغربية، يحدث هذا دون أن يتحرك ضمير العالم لهذه المأساة.

أعتقد أن الفلسطينيين في حاجة ملحة إلى قيادات جديدة تحظى بثقة الشعب الفلسطيني - ونحن على ثقة بأن الفلسطينيين في الداخل والخارج لديهم قيادات واعية منتشرون في معظم دول العالم، ولعل ممثل الحكومة الفلسطينية في بريطانيا (حسام الزملط) الذي فاجأنا بأدائه الرائع ولغته الإنجليزية الراقية، ومقدرته على مخاطبة الغرب بخطاب سياسي مقنع، فضلاً عن ممثل فلسطين في الأمم المتحدة، الذي شاهدناه متحدثا واعياً مدركاً للقضية التي يدافع عنها، وغيرهما من الفلسطينيين الأكاديميين والدبلوماسيين والمفكرين، وجميعهم منتشرون في معظم دول العالم، لأن القضية ستبقى مستعصية على الحل ما بقيت القيادات القديمة التي تجاوزها الزمن، وما نجم عنها من ظهور تيارات راديكالية عنيفة يصعب أن يتقبلها العالم.

أعتقد أن الشعب الفلسطيني الجسور يملك قراره، بالدفع بقيادات جديدة يقبلها الفلسطينيون وتحظى بدعم عربي ودولي، يمكنها من الوصول إلى حلول عملية، لكي يعيش الفلسطينيون في ظروف اجتماعية واقتصادية وإنسانية بعيدا عن ثقافة الموت، عندئذ ستفقد إسرائيل مبرراتها أمام العالم، وخصوصاً وأن القضايا المعقدة في التاريخ، والتي اتخذت من الحروب وسيلة لتحقيق أهدافها قد انتهى بها الأمر إلى مفاوضات شاقة حققت حلولاً عملية وفق قواعد قانونية وسياسية، وهي تجارب مر بها العالم منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى نهايات الحرب العالمية الثانية.

المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قضية صعبة ومعقدة، وهي في حاجة إلى قيادات جديدة لديها القدرة على اتخاذ قرارات جسورة، في ظل سيطرة إسرائيل على الأرض والبحر والجو، وستبقى القضية بتعقيداتها ما بقيت هذه القيادات القديمة التي تورطت في استقطابات إقليمية ودولية أضرّت القضية ضررا بالغا.

إن أعظم ما تملكه فلسطين هو شعبها، الذي استطاع عبر هذه العقود الطويلة أن يحافظ على هويته ويتمسك بحقوقه، سواء في الداخل أو الخارج، رغم أن معظم من عاشوا في بلاد الشتات لم يشاهدوا فلسطين، لكنهم حريصون على أن تظل القضية حاضرة في وجدانهم، أعرف الكثيرين منهم، مثقفين، فنانين، شعراء، خبراء في كل مناحي الاقتصاد والتعليم، من أمريكا اللاتينية وحتى الأقطار العربية، وجميعهم يعيشون قضيتهم لحظة بلحظة، رغم القيود الصارمة التي وضعتها إسرائيل للحيلولة دون العودة إلى وطنهم، حتى لو كان ذلك لمجرد الزيارة والبحث عن الجذور.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).