عمان العلمي

كيف نفهم الاتصالات وتطوراتها المتسارعة؟

 
يُعدّ نظام «التلجراف» أول وسيلة اتصالات تمكّن نقل المعلومات بين المسافات الطويلة والذي يعمل بواسطة شفرة مورس، ويعتبر الكثيرُ من الخبراء أنَّ اكتشاف «التلجراف» أحدث النقلة النوعية الثانية -بعد اكتشاف آلة الطباعة- في الثورة الصناعية التي نقلت المجتمع الصناعي إلى مستويات تتجاوز مفهوم الحركة الميكانيكية والكهربائية؛ إذ بات -بعد ظهور التلجراف- من السهل تحويل النبضات الكهربائية إلى لغة تُشفّر وتُترجم بواسطة «شفرة مورس» التي تعمل على تمثيل النبضات الكهربائية إلى نقاط وشرطات وتحويلها إلى حروف أبجدية لاتينية وأرقام عربية يستطيع المُستقبِل أن يفهمها. ظهر التلجراف لأول مرة في عام 1792م بنظامه البدائي -غير الكهربائي- بواسطة المهندس الفرنسي «كلاد شابي» «Claude Chappe» إلا أن قيام المخترع الأمريكي «صاموئيل مورس» «Samual Morse» باختراع شفرة مورس ساهم في تفعيل نظام «التلجراف» الذي أرسل بواسطته أول عملية اتصال كانت في شكل رسالة تحمل نبضات كهربائية تنتقل من مكان إلى مكان -بينهما مسافات طويلة- أمكن فك شفرتها بواسطة شفرة مورس وتحويلها إلى كلمات مفهومة تحمل عبارة «What Hath God Wrought?» «ماذا خلق الله؟»؛ فكانت هذه النقلة النوعية التي أحدثها نظام التلجراف وتفعيله عبر شفرة مورس بداية لتكنولوجيا الاتصالات التي واصلت تطورها بعد مرحلة «التلجراف» باكتشاف «إلكسندر جراهام» «Alexander Graham» للهاتف في عام 1876م الذي يُعدّ مرحلة جديدة لعالم الاتصالات ما بعد التلجراف رغم أن الأخير واصل فاعليته لحين تطوير الهاتف بمنظور متقدم.

إنَّ ظهور مخاضات أخرى من رحم الحراك العلمي -تجهيزا لولادة تطويرات تقنية أكبر- كان نتيجة حتمية للصراعات التي حدثت إبان الحرب العالمية الأولى؛ فكانت بداية بارزة لولادة الراديو في عام 1920م، أحدث بروز الراديو ثورة جديدة ومتقدمة في عالم الاتصالات. بدأت فكرة الاتصالات اللاسلكية تنبثق في أذهان المخترعين؛ فتمخضّ من هذه الأفكار المتصاعدة اختراع «مارتن كوبر» في عام 1973م للهاتف المحمول - تحت مظلة شركة «موتورولا»-؛ ليكون تتويجا استثنائيا لتطويرات الاتصالات النامية، مع ذلك فإن ظهور الهاتف المحمول بشكل تجاري ورسمي كان في عام 1983م.

بعيدا عن أنظمة الاتصال اللاسلكية؛ تُعدُّ ستينيات القرن العشرين حقبة ذهبية للاتصالات؛ إذ قامت «ناسا» في عام 1961م بتطوير مشروع نظام التموضع أو الملاحة العالمي «Global Positioning Systems» «GPS» الذي أخذ يتطور بشكل سريع بجانب الإنترنت الذي اسْتُعمل حصريا وبشكل سرّي من قبل الجيش الأمريكي بداية منذ عام 1969م تحت مظلة مشروع الأبحاث المعروف بـ«أربانت» «ARPANET»، ولم يُعلن عن مثل هذه الأنظمة المعنية بالاتصالات إلا مع بداية تسعينيات القرن العشرين تزامنا مع انخماد الحرب الباردة وذبولها بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي؛ إذ يمكن اعتبار أن هذه الحرب الباردة ساهمت في تشكيل مخاضاتٍ لأنظمة تقنية كثيرة منها أنظمة الاتصالات بتعدد أنواعها وفق مشروعات بحثية علمية سرية لم يُعلن عنها إلا بعد استنزاف ممارستها الحصرية للمؤسسات العسكرية والأمنية وبعد التيقّن من وجود تقنيات أخرى أكثر تطورا.

صاحب ظهور الهاتف المحمول الانطلاقة الأولى لتقنيات الأنظمة الخلوية اللاسلكية بداية مع الجيل الأول المعروف بـ«G1» الذي يعمل بها نظام الإشارات التقليدية «التناظرية» «Analog» وفقا لتقنية «أنظمة الهاتف المحمول المتقدمة» «AdvancedMobilePhone Systems» الذي يوفّر قدرات جيدة -في وقتها- في نقل البيانات الصوتية إلا أنه يتطلب قدرات تخزينية عالية للطاقة؛ مما يعني تطلّب بطاريات كبيرة، وكذلك قدراته المحدودة في التعامل مع البيانات الصوتية فقط دون النصية؛ ليأتي بعدها مع نهاية ثمانينيات القرن العشرين الجيل الثاني «G2» الخاص بالأنظمة الخلوية اللاسلكية ليحل محل الجيل الأول الذي استطاع أن ينتقل في آلية عمله من الإشارات «التناظرية» «Analog» إلى الإشارات الرقمية «Digital» التي أضافت لأنظمة الاتصالات تحسينات كبيرة تتمثل في تخفيض استهلاك الطاقة عبر استيعابها في بطارية أقل حجما من تلك المستعملة في أنظمة اتصالات الجيل الأول، والقدرة على انتقال بيانات صوتية ونصية، وكذلك الصور والمرئيات -بجودة جيدة في حياتها وإن كانت تعتبر بدائية وبسيطة-.

أُعلنَ عن تدشين الجيل الثالث للاتصالات الخلوية اللاسلكية «G3» مع بداية الألفية الثانية؛ ليحدث ثورة جديدة في عالم الاتصالات وانتقال البيانات؛ إذ تضاعفت جودة الاتصال ونقل البيانات بما فيها سرعة الإنترنت، وأمكن لأول مرة الولوج إلى الإنترنت بواسطة الهواتف المحمولة بعد أن كان الإنترنت حكرًا على الحواسيب. بدأت ملامح الجيل الرابع لأنظمة الاتصالات اللاسلكية «G4» -يُعرف أيضا بمصطلح IMT-Advanced- تلوح في عام 2010م، وهذا الجيل من الاتصالات أحدث تطورا ملموسا في جودة انتقال البيانات وسرعتها واستعمالاتها مثل البث المرئي بما في ذلك الأنظمة المرئية مثل «HD» و«TV»؛ فأصبحت الاتصالات بوجود الجيل الرابع أكثر جودة وسرعة عبر الهواتف الذكية المحمولة.

دَخَلَتِ الاتصالات اللاسلكية جيلها الخامس «G5» -المعروف بـIMT-2020- بشكل فعلي عام 2019م، وتمكنت بعض الهواتف الذكية -التي تمتلك تقنيات حديثة تواكب نظام الجيل الخامس- من التفاعل والارتباط بشبكة هذا الجيل، وهذا ما يمكن تطبيقه أيضا مع أجهزة ذكية أخرى مجهّزة بنظام «إنترنت الأشياء» «Internal of Things» -غير الهواتف المحمولة- مثل التي تُستعمل في السيارات والمنازل والمُدن الذكية؛ إذ أمكن لهذه الهواتف المحمولة والأجهزة الذكية عبر تفعيل نظام الجيل الخامس من تطوير كبير لسرعتها وانتقال البيانات فيما بينها. لدى «G5» قدرات أفضل مقارنة بـ«G4» من حيث سرعة تنزيل «Download» البيانات -بجميع أنواعها-؛ فهي أسرع 200 مرة من «G4»، وسرعة التحميل «Upload» أسرع بـ100 مرة من «G4».

في الجانب البيئي وتقليل استهلاك الطاقة، تقترح بعض المصادر تفوق اتصالات الجيل الخامس على الأجيال السابقة مثل «G4»؛ إذ وفقا للمعايير الدولية فإن الجيل الخامس «G5» يتطلب استهلاكًا أقل بكثير من الطاقة مقارنة بالجيل الرابع «G4»، وهذا يعني استعمال طاقة أقل حتى مع نقل كميات كبيرة من البيانات؛ فمثلا يَتطلب كيلوواط-ساعة (kWh) من الكهرباء لتنزيل 300 فيلم عالية الدقة في شبكة الجيل الرابع «G4»، بينما في الجيل الخامس «G5»؛ فيمكن تنزيل 5000 فيلم عالية الدقة بنفس القْدر من الكهرباء (kWh) «وفقا لما نشره Columbia Climate School في موقعه الإلكتروني». ووفقا للمصدر السابق؛ يذكر أن تقنية الجيل الخامس «G5» المرتبطة بإنترنت الأشياء (IoT) تسهم كذلك في تقليل استهلاك الطاقة؛ حيث ستكون الأجهزة الذكية المتصلة مع بعضها البعض قادرة على التشغيل والإيقاف تلقائيًا عند غير الحاجة إليها، وستقوم أجهزة استشعار مُثبتة في الأجهزة المنزلية وشبكات النقل والمباني والمصانع وأعمدة الإنارة والمساكن وغيرها بمراقبة احتياجاتها واستهلاكها للطاقة وتحليلها في الوقت الفعلي وتحسين استخدام الطاقة تلقائيًا؛ فمثلا ساعدت عدادات الكهرباء الذكية المُثبتة في مبنى «إمباير ستيت» «Empire State Building» -في مدينة نيويورك- على تقليل تكاليف الطاقة بنسبة 38%، وحصل مصنع الطاقة الرقمي للبخار التابع لشركة «جنرال إلكتريك» في فرنسا -المزود بعشرة آلاف جهاز استشعار لتحسين كفاءة المصنع- على رقم قياسي عالمي من موسوعة جينيس لأكثر محطة توليد طاقة فعّالة في العالم. في المقابل لا يمكن إنكار التوسّع والانتشار الكبير للأجهزة الذكية المرتبطة بأنظمة الاتصالات المتطورة مثل «G5» والأنظمة الذكية مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي الذي سيؤثر سلبا على النظام البيئي بسبب الأعداد الكبيرة لهذه الأجهزة ومخاطرها الناتجة رغم كل المؤشرات الإيجابية التي ذكرناها آنفا من حيث استعمال اتصالات الجيل الخامس -الذي يقلل من استهلاك الطاقة- في هذه الأجهزة والمستشعرات الذكية؛ فوفقا لتقرير شركة «إريكسون» أنه بحلول نهاية عام 2025م، سيكون هناك ما يقرب من 2.6 مليار مشترك في شبكات الجيل الخامس «G5»؛ ومن المتوقع أن تصل إجمالي الاشتراكات لخدمات الهواتف المحمولة إلى 5.8 مليار اشتراك بحلول ذلك الوقت، وبحلول عام 2030م، يمكن أن يصل عدد الأجهزة المتصلة بإنترنت الأشياء (IoT) في جميع أنحاء العالم إلى 125 مليار جهاز؛ فيُتوقع حينها أن تكون تكنولوجيا المعلومات مسؤولة عن خُمسي استهلاك الكهرباء العالمي، ويُتوقع لهذا السبب مع عام 2040م أن تصل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى 14%.

يحتدم الكثير من الجدل فيما يتعلق بالجانب الصحي للإنسان والتأثيرات المحتملة بسبب تعرّض الإنسان لموجات الراديو الترددية «Radio-frequency» الناتجة من «G5»؛ فخرجت آراء تُشكك في سلامة استعمالات شبكات الجيل الخامس، وتطرح سيناريوهات مخيفة لمثل هذا الجيل المتطور من أنظمة الاتصال إلا أن هذه الآراء بحاجة إلى تحقق علمي مستقل عن أي تأثيرات خارجية لها مصالحها سواء التجارية أو السياسية؛ فهذه الآراء -حتى اللحظة- تفتقر إلى الدليل العلمي المُقْنِع، في حين عرضت إحدى الدراسات التي نشرها باحثون في مجلة «Nature» -تعتبر من أشهر المجلات العلمية المحكمة وأقواها- في عام 2021م دراسة علمية عن موجات الراديو الترددية الأعلى من 6 GHz الناتجة من شبكة الاتصال «G5»، وخَلصت الدراسة إلى تفاصيل محورية ونتائج مهمة تنفي وجود الخطر -المبالغ فيه- لهذا النوع من شبكات الاتصال اللاسلكية مع الإقرار بإمكانية وجود أضرار طفيفة محتملة، وأنها توصي بمتابعة الأبحاث في هذا الشأن، ومما أشار إليه الباحثون -كما نُشر في المجلة المذكورة-: «أظهرت الدراسات الوبائية أدلة ضئيلة على وجود تأثيرات صحية بما في ذلك السرطان في مواقع مختلفة، وتأثيرات على الإنجاب وأمراض أخرى. لم تظهر هذه الدراسة أدلة مؤكدة على أن حقول الراديو الترددي على مستوى منخفض فوق 6 جيجاهرتز مثل تلك المستعملة في شبكة «G5» تشكل خطرًا على الصحة البشرية. يجب أن تعمل الدراسات التجريبية المستقبلية على تحسين تصميم التجارب مع اهتمام خاص بقياس الجرعات ومراقبة درجة الحرارة. يجب أن تستمر الدراسات الوبائية المستقبلية في مراقبة تأثيرات الصحة على المدى الطويل في مواقع السكان المرتبطة بالاتصالات اللاسلكية».

يتزامن تطور الاتصالات مع تطور تقنية ذكية أخرى مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكوانتمية اللذَيْنِ سبق تناولهما في مقالات سابقة لي نُشرت في الملحق العلمي -لجريدة عُمان-؛ فترتبط كل هذه التقنيات مجتمعة لتشكّل مجتمعات صناعية ذكية، وتتصل فيما بينها وفق منطلقات علمية واضحة؛ فالتطويرات التي تشهدها الاتصالات ببلوغها الجيل الخامس الذي تبين قدرته على مضاعفة استعمالات أجهزة مرتبطة بتقنية إنترنت الأشياء وتحسين أدائها وتقليل تكلفة استهلاكها للطاقة تقود إلى تدفق مضاعف وكثيف للبيانات التي تُغذّي خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتمكّن أنظمة الذكاء الاصطناعي من التعامل المحترف لهذه البيانات التي تحقق لها بيئة تّقنيّة مكتملة -عبر توفّر حوسبة قوية مثل الحوسبة الكوانتمية-. لن تتوقف تطويرات التقنيات المتقدمة مثل أنظمة الاتصالات وشبكاتها عند هذا الحد؛ فتُظهر حركة هذه التطويرات في عالم الاتصالات اللاسلكية أن التحديثات تتجدَّدُ كل عشر سنوات تقريبًا ، ومن الممكن أن تتقلص هذه المدة ليكون التحديث التّقنّي في غضون سنوات قليلة؛ لنشهد تقدما سريعا في عالم الاتصالات والتقنيات المتقدمة، ويحمل هذا الكثير من التساؤلات العلمية والأخلاقية المعنية بدور العلم في حياتنا من حيث الجانب الإيجابي والجانب السلبي، وعن شكل المدن الصناعية والذكية وبشكل عام المجتمعات الإنسانية في قادم المستقبل، وعن وجود الوعي العلمي والوجودي في حياة الإنسان وكيفية تعايشه مع هذه الطفرات التّقنيّة التي أضحت تجرّه دون هوادة إلى مصير تتضاءل فيه فرص السلام الداخلي والخارجي في ظل غياب وتغييب متعمد للأسس الأخلاقية التي تحكم هذه الطفرات التقنية وتَضبط استعمالاتها؛ لتعيدها إلى أهدافها الساعية لتحسين حياة الإنسان ورقيّه.

د. معمر بن علي التوبي / أكاديمي وباحث عُماني