أعمدة

قصة «مفبركة» وصالحة للتعاطف!

 
لفتني ما وُصف به الكاتب الياباني هاجيمي إيساياما، مؤلف مسلسل الإنمي الأكثر شهرة في الآونة الأخيرة «هجوم العمالقة»، باعتباره كاتبا مُعاديا للسامية، فلقد «جعل اليهود وحوشا يتحولون إلى عمالقة ويفسدون في الأرض». قرأتُ ذلك وأنا أقطعُ حلقات الجزء الرابع بصحبة أبنائي المشغولين بتحليل نظرياته وأبعاده وأزمانه المتداخلة والعميقة في آن. فمنذ الحلقات الأولى أربكتنا الدلالات المتعلقة ببناء الأسوار وعزل الناس عن ذكرياتهم وعن علاقتهم بالعالم الأكثر اتساعا، وكيف أنّ مادة الأسوار هي «العمالقة» التي تُشكل تهديدا ساحقا للمحتجزين بداخلها!

كما لا يفوت أحدنا كثافة الترميزات الدينية والأسطورية، وقد برر أحدهم نجاح المسلسل لكونه: «يُغذّي أكثر ما يُحيّرُ وجودنا كبشر ويلتقطَ أكثرَ فصول إنسانيتنا هشاشة».

ولعل عين المشاهد الحذق وحواسه المتقدة، تكشفُ تشابها غامضا بين قصّة «الإلديانيين» في مارلي، وقصّة اليهود في أوروبا الشرقية، فثمّة شروحات تُعيدنا إلى أماكن حقيقية لها أسوار عالية وبوابة ذات حراسة مُشددة -كتلك التي فرضها هتلر- وشارات مُعلقة على الأذرع لتمييزهم عن الآخرين!

إنّ أحد أهم الأسئلة التي تجول في خاطرنا منذ بدء الأحداث المروعة في فلسطين: لماذا يُصدق العالم قصّة إسرائيل؟ رغم أنّه من اليسير على أحدنا بمجرد القراءة العابرة للتاريخ أن يُدرك الضغينة التي زجّت فلسطين إلى منعطفٍ حادٍ كهذا! لكن وكما يبدو فإنّ الذي يُمنح التعاطف العالمي هو الذي يقصُّ سردية جذابة وقابلة للتصديق، وهذا ما فعله الصهاينة باقتدار لأكثر من سبعة عقود، وقد تلقف الخيال الغربي الحكايات «الملفقة» باستحسان هائل. تناول أحمد الغندور على قناته اليوتيوبية «الدحيح» هذه الفكرة اللافتة في حلقة بعنوان: «حكاية الأرض»، وقد ذهب لتفصيل بالغ الدقة حول أنّ اليهودي الذي ينتقد الصهاينة، يُسمى «باليهودي الذي يكره نفسه»، لمجرد أنّه يحاول إفساد قصّة التعاطف التي ينسجونها، قصّة «عودة اليهود الشجعان إلى أرض الأجداد للبدء بتعميرها»!

وجد الغندور مقاربة بين ما يفعله الصهاينة وبين تعاطف الرجل الأبيض معه، ربما لأنّه يستعيد هو الآخر تاريخه عندما غيّر ملامح أمريكا بإبادة الهنود الحمر! فهم يملكون مسوغات فعل ذلك، لبناء حضارة ذات طراز رفيع حتى وإن كانت فوق مقابر بشرية! فما نشرته الصحيفة الأشهر نيويورك تايمز عام ١٩٤٨ بأنّ: «اليهود في خطر مميت على أراضي المسلمين»، يجعلنا نتأكد بأنّ القصّة المفبركة يُراد تصديقها منذ بدء تخلقها!

وضع مسلسل «هجوم العمالقة» أسبابا لإبادة رعايا «يومير» باعتبارهم شياطين في الأرض ولا حق لهم في الحياة، الأمر الذي يُذكرنا بشيطنة بعض الأعراق والحق في إبادتها لتطهير الأرض منها. بينما في الجهة المقابلة تظهر لنا صورة الوالدين الذين يُلقنان ابنهما «زيك» ما يمكن أن نفسره الآن بأنّهم شعب الله المختار! يُضيء المسلسل أيضا تلك الرغبة المحمومة في الحصول على الوقود الأحفوري «الغاز»، فهل يمكن أن تُبنى هذه القصّة على صدفة الأطماع التي تتوحش في العالم بأسره؟

عندما تردد اليهود بشأن فكرة الانتقال إلى فلسطين قبل عام 48 -كما تشير الحلقة- اضطلع صانعو القرار لحبك أسطورة مؤثرة، فالسفر إلى المجهول مخيف دوما، لكن ماذا لو قلنا لهم: «نحن لن نهاجر بل سنعود إلى وطننا»! فالرؤية الصهيونية تُقدم لنا اليهود باعتبارهم حالة فريدة في التاريخ، العداء ضدهم ثابت وقدري «معاداة السامية مرض وراثي بلا شفاء وعدوى عمرها 2000 سنة»، ولذا استُخدم الدين مسوغًا لتحقيق فكرتهم الاستعمارية، وغُرس في أعماقهم أنّ كراهيتهم تتم لمجرد أنّهم يهود، لذا فالحل أن تكون لهم دولة مستقلة ووطن خاص دون اندماج بالآخرين. هذا ما رآه هرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية، فاختلاق تصور معاداة العالم للسامية -المستمر حتى اللحظة- هو الحل الذي سيُمكن اليهود من بناء قصتهم الأسمى، ولذا يُجرم أي رأي أو قول أو موقف لمجرد أنّه يثير حساسيتهم!

حتى لحظة كتابتي لهذا المقال لم أجد للكاتب الياباني «إيساياما» موقفا مُحددا في هذه الديستوبيا المرعبة، فهو يدفعنا لتورط عاطفي ثمّ يسحقنا بحقائق أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح المتوتر، لكنه ينفي وجود عالم مثالي وحكاية مكتملة «فمن يمتلك المستقبل يُباح له انتهاك خطوط التاريخ»!