الاستدارة الكاملة لأردوغان في حرب غزة تكشف الفارق بين إخفاق العرب وكفاءة غيرهم
السبت / 3 / جمادى الأولى / 1445 هـ - 22:26 - السبت 18 نوفمبر 2023 22:26
تقدم حرب طوفان الأقصى ما يسميه الأكاديميون دراسة حالة نموذجية IDEAL CASE STUDY لطريقة صنع قرار السياسة الخارجية أو بعبارات الأدباء كيف يصنع التاريخ أمام عين الجمهور.
منذ نصر ٧ أكتوبر في هجوم طوفان الأقصى الذي قلب كل معادلات الشرق الأوسط وفتح الباب لإعادة رسم خرائطها بح صوتي أنا وكثير من الكتاب والمعلقين العرب مع المنصفين من الأجانب عن كيف أخفق العرب على مدى شهر ونصف في استثمار أكبر فرصة تاريخية - منذ انتصار حرب أكتوبر 1973 - لتغيير الهندسة المجحفة التي أقامتها الولايات المتحدة منذ عهد كيسنجر - نيكسون.
هذه الهندسة كانت قد وضعت كل البيض في سلة واشنطن أي بالتبعية في سلة إسرائيل (أذكر نفسي والقراء بأننا نعيش منذ ٥٠ عاما في أسطورة ٩٩٪ من أوراق اللعبة بيد أمريكا).
فيها تحول العرب وثرواتهم إلى تابع لا يملك أي هامش حرية في صنع قراره الإقليمي والدولي.
تحدثت وغيري أيضا عن البطء الذي اتسم به رد الفعل العربي ومحدودية خياله السياسي وامتناعه عن فك قيود كان بوسعه فكها لم تكن حتى لتؤدي لقصم ظهر تحالفه مع أمريكا.
لكن العيب الأكبر في أداء السياسة الخارجية العربية ربما تمثل في التجاهل المتعمد لقواعد صنع السياسة الخارجية في وقت الأزمات أو الأحداث الكبرى. وهو تعامل يفرض على صناع القرار التحول من الوضع المسترخي العادي إلى وضع متأهب يتسم بالديناميكية والمرونة الكاملة. وضع قادر على أن يستجيب للتبدلات المتلاحقة وربما الانقلابات التي تتميز بها حالة الأزمة.
اتخذ العرب وضعا ثابتا من الأزمة واكتفوا بالثبات شبه التام على تسجيل مواقف الأيام الأولى من إدانة أو مطالبات (إدانة العدوان، رفض التهجير القسري، والمطالبة بضمان تدفق الوقود والغذاء والدواء لغزة، والمطالبة بوقف إطلاق نار).
ديناميكية أردوغان في مقابل جمود العرب
يقدم لنا الأداء الميكافيلي والديناميكي للرئيس أردوغان مع تطورات حرب غزة نموذجا مضادا لنموذج الأداء العربي الساكن والذي قصر بالتالي عن ملاحقة الأحداث وبدلا من أن يكون فاعلا فيها صار متفرجا عليها.
يعلم كثيرون حالة السياسة الخارجية لتركيا عضو حلف الناتو مع كل من إسرائيل وواشنطن والناتو في اليوم السابق على هجوم ونصر ٧أكتوبر. كان أردوغان مدفوعا بالأزمة الاقتصادية لتركيا قد أنهى التوتر في علاقاته مع واشنطن وزملائه في حلف الناتو عندما فاجأ الجميع بالموافقة على انضمام السويد للحلف بعد رفض طويل، وبدأت واشنطن تلمح بأنها ستمنح تركيا نسخا من طائرات (إف ١٦) ومعدات أخرى كانت قد جمدتها طويلا كما تحركت محادثات لدعم الاقتصاد التركي من الاتحاد الأوروبي. لكن الأهم أنه كان قد أصلح علاقات تركيا القديمة مع إسرائيل وطلب لقاء مع نتانياهو في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة قبل نحو أسبوع تحدثوا فيه عن شراكة مصالح ضخمة في ثروات غاز شرق المتوسط التي تطمح تركيا للحيلولة دون أن ينفرد بها تحالف الغاز بين مصر واليونان وقبرص وإسرائيل ويقصي أنقرة عنها سواء كثروة أو كممر تصدير لأوروبا.
أردوغان الشعبوي الذي يطمح لأن يبقى رئيسا لأطول فترة حكم لزعيم تركي منذ أتاتورك اتسم موقفه في الأيام الأولى بالتحفظ الشديد وعدم التورط في خطاب سياسي حاد ضد عدوان إسرائيل حتى لا يفسد التقارب المصلحي مع بايدن ونتانياهو. إلا أن ارتفاع فاتورة الدم الفلسطيني خلق تهديدا خطيرا لطموحات أردوغان كزعيم منتخب. فالشارع التركي المسلم بدأ يغلي وبدأت الانتقادات لموقفه المتحفظ والضعيف تنتقل من السياسيين مثل رفيقه وفيلسوفه المفكر السابق داود أوغلو إلى قاعدته الشعبية الإسلامية التوجه وهي القاعدة التي ضمنت لحزبه حكم البلاد منذ ٢١ سنة كاملة ومتصلة ونقلته من رئيس بلدية اسطنبول إلى رئيس جمهورية.
مع هذا الخطر بفقدان الشعبية على مستقبله السياسي سجل أردوغان نموذجا مدهشا ليس فقط للبراجماتية السياسية ولكن أيضا لمهارات صانع قرار السياسة الخارجية في التموضع بشكل ديناميكي والاستجابة المرنة للأزمة وفي الوقت نفسه عدم اتخاذ مواقف دراماتيكية فعلية قد تمنعه من إعادة العلاقات إلى دفئها مع تل أبيب وواشنطن في حكومات وإدارات قادمة. بخطاب سياسي مفارق لخطابه في بداية الأزمة ومستديرة بما نسبته ١٨٠٪ هاجم أردوغان بقسوة العدوان الإسرائيلي وترأس مظاهرات حاشدة وتعهد بأن يدعم كل جهد عالمي لتحويل إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية وعرف كيف يتعامل مع مشاعر شعبه مركزا هجومه ليس على الكيان الإسرائيلي وكل نخبته السياسية ولكن فقط على شخص نتانياهو الذي قال إنه بات مشطوبا من قاموس التعامل التركي.
غازل أردوغان حركة حماس بعد أن كانت علاقته معها قد توترت في الشهور الأخيرة وفضلت معها قيادة حماس السياسية البقاء لأطول فترة في قطر وليس في تركيا، ورفع من مستوى المعونات التركية لأهالي غزة واستفاد من التحسن الواضح في علاقاته مع مصر في إيصال هذه المساعدات والتأكد من وصول مغزاها المعنوي لشعبه المتعاطف والفلسطينيين وفصائل تيار الإسلام السياسي المتماس معه في جذوره الأيديولوجية . كثف أردوغان من وتيرة اتصالاته مع مصر والأردن والعراق ودول الخليج ومع إيران وعرض على الأمريكيين ومن خلالهم على الإسرائيليين أنه يتمتع بوضع يمكن فيه أن يلعب دورا رئيسيا في الوساطة حول الأسرى الموجودين في قبضة المقاومة في غزة بل وحتى في ترتيبات مؤتمر لإقامة اتفاق سلام يقود لحل الدولتين.
على أن الاعتبارات السياسية الداخلية وعمل ألف حساب للناخبين في بلد يعتمد آلية ديمقراطية ومحاولة مطابقة السياسة مع الرأي العام التركي لم يكن وحده السبب الوحيد في الديناميكية المتغيرة في تطوير وتطويع المواقف التركية مع أزمة متفجرة وتتغير معطياتها يوميا.
ما يمكن وصفه بالتنافس على الدور الإقليمي بين كل من أنقرة وطهران كان سببا رئيسيا.
إيران باعتبارها الداعم الإقليمي الأكبر للمقاومة الفلسطينية التي شنت هجوم٧ أكتوبر العبقري مرشحة لأن تكون تلقائيا أكبر طرف سيجني مكاسب استثماره الصبور في «محور المقاومة» في صورة زيادة نفوذها الإقليمي زيادة قدرتها على التفاوض مع القوى الدولية أمريكا والصين وروسيا على شؤون الشرق الأوسط ومنع أن تتحول مسارات الأزمة إلى مسارات تضر بمصالحها وأمنها.
ولاحظت تركيا السنية أن تعاظم توسل الأمريكيين وكل القوى الغربية لإيران لمنع توسع الحرب وضبط حلفائها في ٤ دول عربية اقترن كذلك بفشل وامتناع الدول العربية السنية عن لعب دور مؤثر. هنا تقدمت أنقرة بما يشبه الإيحاء والرمز السياسي لموازنة الغياب السني العربي والبروز كقوة إقليمية سنية تعادل القوة الإقليمية الشيعية وبالتالي تربح المزيد من التدفقات المالية الخليجية للاقتصاد التركي ويضمن لأنقرة مقعدا بجانب إيران وإسرائيل في أي مائدة مفاوضات لوضع ترتيبات ما بعد الحرب. مرة أخرى يترك العرب غيرهم في الإقليم والعالم يحددون مصير قضيتهم المركزية ومصيرهم الوجودي كأمة، ومرة أخرى يضع العرب أنفسهم بأنفسهم خارج التاريخ.
حسين عبد الغني إعلامي و كاتب من مصر
منذ نصر ٧ أكتوبر في هجوم طوفان الأقصى الذي قلب كل معادلات الشرق الأوسط وفتح الباب لإعادة رسم خرائطها بح صوتي أنا وكثير من الكتاب والمعلقين العرب مع المنصفين من الأجانب عن كيف أخفق العرب على مدى شهر ونصف في استثمار أكبر فرصة تاريخية - منذ انتصار حرب أكتوبر 1973 - لتغيير الهندسة المجحفة التي أقامتها الولايات المتحدة منذ عهد كيسنجر - نيكسون.
هذه الهندسة كانت قد وضعت كل البيض في سلة واشنطن أي بالتبعية في سلة إسرائيل (أذكر نفسي والقراء بأننا نعيش منذ ٥٠ عاما في أسطورة ٩٩٪ من أوراق اللعبة بيد أمريكا).
فيها تحول العرب وثرواتهم إلى تابع لا يملك أي هامش حرية في صنع قراره الإقليمي والدولي.
تحدثت وغيري أيضا عن البطء الذي اتسم به رد الفعل العربي ومحدودية خياله السياسي وامتناعه عن فك قيود كان بوسعه فكها لم تكن حتى لتؤدي لقصم ظهر تحالفه مع أمريكا.
لكن العيب الأكبر في أداء السياسة الخارجية العربية ربما تمثل في التجاهل المتعمد لقواعد صنع السياسة الخارجية في وقت الأزمات أو الأحداث الكبرى. وهو تعامل يفرض على صناع القرار التحول من الوضع المسترخي العادي إلى وضع متأهب يتسم بالديناميكية والمرونة الكاملة. وضع قادر على أن يستجيب للتبدلات المتلاحقة وربما الانقلابات التي تتميز بها حالة الأزمة.
اتخذ العرب وضعا ثابتا من الأزمة واكتفوا بالثبات شبه التام على تسجيل مواقف الأيام الأولى من إدانة أو مطالبات (إدانة العدوان، رفض التهجير القسري، والمطالبة بضمان تدفق الوقود والغذاء والدواء لغزة، والمطالبة بوقف إطلاق نار).
ديناميكية أردوغان في مقابل جمود العرب
يقدم لنا الأداء الميكافيلي والديناميكي للرئيس أردوغان مع تطورات حرب غزة نموذجا مضادا لنموذج الأداء العربي الساكن والذي قصر بالتالي عن ملاحقة الأحداث وبدلا من أن يكون فاعلا فيها صار متفرجا عليها.
يعلم كثيرون حالة السياسة الخارجية لتركيا عضو حلف الناتو مع كل من إسرائيل وواشنطن والناتو في اليوم السابق على هجوم ونصر ٧أكتوبر. كان أردوغان مدفوعا بالأزمة الاقتصادية لتركيا قد أنهى التوتر في علاقاته مع واشنطن وزملائه في حلف الناتو عندما فاجأ الجميع بالموافقة على انضمام السويد للحلف بعد رفض طويل، وبدأت واشنطن تلمح بأنها ستمنح تركيا نسخا من طائرات (إف ١٦) ومعدات أخرى كانت قد جمدتها طويلا كما تحركت محادثات لدعم الاقتصاد التركي من الاتحاد الأوروبي. لكن الأهم أنه كان قد أصلح علاقات تركيا القديمة مع إسرائيل وطلب لقاء مع نتانياهو في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة قبل نحو أسبوع تحدثوا فيه عن شراكة مصالح ضخمة في ثروات غاز شرق المتوسط التي تطمح تركيا للحيلولة دون أن ينفرد بها تحالف الغاز بين مصر واليونان وقبرص وإسرائيل ويقصي أنقرة عنها سواء كثروة أو كممر تصدير لأوروبا.
أردوغان الشعبوي الذي يطمح لأن يبقى رئيسا لأطول فترة حكم لزعيم تركي منذ أتاتورك اتسم موقفه في الأيام الأولى بالتحفظ الشديد وعدم التورط في خطاب سياسي حاد ضد عدوان إسرائيل حتى لا يفسد التقارب المصلحي مع بايدن ونتانياهو. إلا أن ارتفاع فاتورة الدم الفلسطيني خلق تهديدا خطيرا لطموحات أردوغان كزعيم منتخب. فالشارع التركي المسلم بدأ يغلي وبدأت الانتقادات لموقفه المتحفظ والضعيف تنتقل من السياسيين مثل رفيقه وفيلسوفه المفكر السابق داود أوغلو إلى قاعدته الشعبية الإسلامية التوجه وهي القاعدة التي ضمنت لحزبه حكم البلاد منذ ٢١ سنة كاملة ومتصلة ونقلته من رئيس بلدية اسطنبول إلى رئيس جمهورية.
مع هذا الخطر بفقدان الشعبية على مستقبله السياسي سجل أردوغان نموذجا مدهشا ليس فقط للبراجماتية السياسية ولكن أيضا لمهارات صانع قرار السياسة الخارجية في التموضع بشكل ديناميكي والاستجابة المرنة للأزمة وفي الوقت نفسه عدم اتخاذ مواقف دراماتيكية فعلية قد تمنعه من إعادة العلاقات إلى دفئها مع تل أبيب وواشنطن في حكومات وإدارات قادمة. بخطاب سياسي مفارق لخطابه في بداية الأزمة ومستديرة بما نسبته ١٨٠٪ هاجم أردوغان بقسوة العدوان الإسرائيلي وترأس مظاهرات حاشدة وتعهد بأن يدعم كل جهد عالمي لتحويل إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية وعرف كيف يتعامل مع مشاعر شعبه مركزا هجومه ليس على الكيان الإسرائيلي وكل نخبته السياسية ولكن فقط على شخص نتانياهو الذي قال إنه بات مشطوبا من قاموس التعامل التركي.
غازل أردوغان حركة حماس بعد أن كانت علاقته معها قد توترت في الشهور الأخيرة وفضلت معها قيادة حماس السياسية البقاء لأطول فترة في قطر وليس في تركيا، ورفع من مستوى المعونات التركية لأهالي غزة واستفاد من التحسن الواضح في علاقاته مع مصر في إيصال هذه المساعدات والتأكد من وصول مغزاها المعنوي لشعبه المتعاطف والفلسطينيين وفصائل تيار الإسلام السياسي المتماس معه في جذوره الأيديولوجية . كثف أردوغان من وتيرة اتصالاته مع مصر والأردن والعراق ودول الخليج ومع إيران وعرض على الأمريكيين ومن خلالهم على الإسرائيليين أنه يتمتع بوضع يمكن فيه أن يلعب دورا رئيسيا في الوساطة حول الأسرى الموجودين في قبضة المقاومة في غزة بل وحتى في ترتيبات مؤتمر لإقامة اتفاق سلام يقود لحل الدولتين.
على أن الاعتبارات السياسية الداخلية وعمل ألف حساب للناخبين في بلد يعتمد آلية ديمقراطية ومحاولة مطابقة السياسة مع الرأي العام التركي لم يكن وحده السبب الوحيد في الديناميكية المتغيرة في تطوير وتطويع المواقف التركية مع أزمة متفجرة وتتغير معطياتها يوميا.
ما يمكن وصفه بالتنافس على الدور الإقليمي بين كل من أنقرة وطهران كان سببا رئيسيا.
إيران باعتبارها الداعم الإقليمي الأكبر للمقاومة الفلسطينية التي شنت هجوم٧ أكتوبر العبقري مرشحة لأن تكون تلقائيا أكبر طرف سيجني مكاسب استثماره الصبور في «محور المقاومة» في صورة زيادة نفوذها الإقليمي زيادة قدرتها على التفاوض مع القوى الدولية أمريكا والصين وروسيا على شؤون الشرق الأوسط ومنع أن تتحول مسارات الأزمة إلى مسارات تضر بمصالحها وأمنها.
ولاحظت تركيا السنية أن تعاظم توسل الأمريكيين وكل القوى الغربية لإيران لمنع توسع الحرب وضبط حلفائها في ٤ دول عربية اقترن كذلك بفشل وامتناع الدول العربية السنية عن لعب دور مؤثر. هنا تقدمت أنقرة بما يشبه الإيحاء والرمز السياسي لموازنة الغياب السني العربي والبروز كقوة إقليمية سنية تعادل القوة الإقليمية الشيعية وبالتالي تربح المزيد من التدفقات المالية الخليجية للاقتصاد التركي ويضمن لأنقرة مقعدا بجانب إيران وإسرائيل في أي مائدة مفاوضات لوضع ترتيبات ما بعد الحرب. مرة أخرى يترك العرب غيرهم في الإقليم والعالم يحددون مصير قضيتهم المركزية ومصيرهم الوجودي كأمة، ومرة أخرى يضع العرب أنفسهم بأنفسهم خارج التاريخ.
حسين عبد الغني إعلامي و كاتب من مصر