أفكار وآراء

فيسبوك.. «بابل» العصور العربية الحديثة!

بحسب الرواية التوراتية، كان الناس يتكلمون لغة واحدة في بابل القديمة، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم أي تفرقت لغتهم الواحدة إلى لغات عديدة، وما صاروا يفهمون بعضهم بعضا.

وحين لا يفهم الناس بعضهم بعضا يصبح هناك نقص في التأويل وخطأ في الفهم وتترتب على النقص والخطأ الكثير من مسائل سوء الفهم التي تورث مشكلات عديدة في حياة البشر وتخريب علاقاتهم البينية. لكن سوء الفهم أحيانا لا يكون فقط لعدم معرفة اللغة بل تكون له تأويلات عديدة ومختلفة.

ونحسب أن واقع تعامل الناس في المنطقة العربية مع ظاهرة السوشيال ميديا مثل فيسبوك (بسبب التخلف الذي أصبح هوية ظاهرة لحياتهم) هو شكل من أشكال البلبلة الحديثة التي أصابت الكثيرين ليس لناحية سوء الفهم فحسب، بل كذلك لناحية التغيير الكبير في ما يمكن أن توفره منصات السوشيال ميديا - مثل فيسبوك - حيال القدرة على التسبب بخلخلة القواعد التي تحكم سوية قوانين مجال نشر الأخبار والمعلومات ونظم تداولها منذ القدم بترتيب مطرد لحياة الناس الفكرية والعملية.

هناك صور كثيرة لتلك البلبلة التي ضربت رواد فيسبوك والمزاعم التي طورتها علاقتهم معه وطبيعة تفاعل تلك العلاقة مع استخدامات رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى درجة أصبحت تتجلى فيها اليوم مؤشرات واقع خطير فيما يتصل بالمرجعيات الموثوقة التي كان يتعين على الناس عادة - حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين - أن يستقوا منها الأخبار والمعلومات كمصادر معروفة في الصحافة ووسائط الإعلام والتلفزة والتي كان يترتب عليها في العادة ضبط واقع ذهنيات الناس من ناحية، ثم واقع حياتهم العملية، من ناحية ثانية.

طبعا هذا لا يعني أنه لم تكن هناك - منذ القدم - مصادر مضللة للأخبار والمعلومات كالإشاعات والأكاذيب المتبادلة، بل ولا يعني كذلك أن خطاب أنظمة الإعلام الحديثة من صحافة وتلفزة خطاب بريء وخال من التوظيف والرسائل، لكن انتشار ظاهرة الأكاذيب المضللة كان محدودا من ناحية، وكان في الوقت ذاته مقتصرا على متخصصين في صناعة تلك الشائعات من ناحية أخرى.

مع ظهور ثورة السوشيال ميديا - عربيا - حدثت تلك البلبلة التي يعاني اليوم كثيرون جدا من آثارها، سواءً في عمليات سوء الفهم اللامتناهية، أو في التضليل، أو في الإمكانات المتاحة لصناعة الأكاذيب أمام الجميع نحو الجميع، مع القدرة على انتشارها على نطاق أسفيري عالمي سريع ومخيف.

لكن الأخطر من ذلك هو أن هذه الصناعة التي تبشر بها وسائط الإنترنت الجديدة أي السوشيال ميديا كما هي في منصات فيسبوك وواتساب وغيرهما؛ أنها إمكانات مغرية (بسبب القدرة التقنية الهائلة للانتشار الواسع والسريع في فضائها) ويمكن استخدامها في واقع متخلف كواقع المنطقة العربية على نحو بالغ السوء تترتب عليه مشكلات لا متناهية في أكثر من صورة للواقع الاجتماعي والسياسي والنفسي للبشر.

إن هذه الوسائط التي وفرتها السوشيال ميديا هي، في بعض صورها، تنطوي على إمكانات خطيرة جدا لإنتاج وإعادة إنتاج مشكلات لا متناهية من سوء الفهم والتضليل والكذب وغير ذلك في الأوساط الاجتماعية والسياسية للمجتمعات المتخلفة نظرا للإمكانات التي وفرها منتجو هذه الوسائط وهم يتصورون - نظريا وعلى مثال مجتمعاتهم المتقدمة - انطلاقا من أن الظن في الحق المتصل بالاستخدام الذي تكفله حقوق الإنسان هو أمر كافٍ ذاته لإطلاق تلك الوسائط الرقمية ومنصاتها على هذا النحو الذي أصبح عليه حال عالمنا اليوم في المنطقة العربية.

في تقديري أن لجوء فيسبوك مؤخرا إلى تقنية تحد من انتشار منشورات مستخدمي المنصة بحيث لا تتجاوز إمكانية تصفحها 25 عضوا من قائمة الأصدقاء هو شكل من أشكال محاولة احتواء تلك الآثار العدوانية التي تنتج عن الاستخدامات العشوائية والسيئة في منصته وتحدث ردود فعل وإشكالات في واقع المجتمعات سياسيا واجتماعيا.

ستظل المشكلة الكبرى في عالم الناطقين بالعربية اليوم هي: كيفية الخروج من نفق التخلف الذي ظل يطبع تفاعلاتهم مع التطورات التقنية للعالم الحديث بصورة نكتشف معها في كل مرة قناعا جديدا لذلك التخلف!

واليوم تجسد استخدامات الوسائط الرقمية مثل منصة فيسبوك في عالمنا العربي ما يصلح مثالا واضحا لتعبيرات ذلك التخلف المقيم، إذا ما قارنّا طبيعة استخدامنا لتلك الوسائط باستخدامات مجتمعات أخرى متقدمة!