أعمدة

أدب الضحيّة «1»

 
ممّا يُحمَد في تفاعل النقد الغربيّ، وعدم ثباته، وحيويّته أنّه دوما منفتحٌ على الممكن وألاّ صنميّة فيه ولا قداسة، على نقيض ما تعيشه الجامعات العربيّة من «نقد الدكاكين»، يعني أن يلتزم كلّ أستاذ للنقد جهبذ بنهج في التحليل لا يُفارقُه إلى أن تُفارقه الروح، فإن فارقه فإلى صَنَم نقديّ آخر يرى منه الأدب ونصوصَه ويُكفّرُ ما سواه من مناهج النقد وأدواته.

أدب الضحيّة، أو أدب الشهادة، أو الأدب الشاهد، هو نمط من الكتابة التي شاعت وسادت أساسا بعد الحروب أو الكوارث أو الأوبئة أو المرور بتجربةِ المرض ومعاناته، توثيقا ذاتيّا لتجارب عايشها أشخاصٌ لهم القُدرة على الكتابة، فتولّد عن هذا النمط نقدٌ يستخلص الخصائص وينظرُ في السمات ويطرح الإشكالات الخاصّة بالتجنيس وبالعلاقات مع أنماط الكتابة المُجانبة، فأُعيد طرح مشكلة «أدب الذات»، ومشكلة التخييل والواقع، ومشكلة علاقة الرواية تحديدا بالتاريخ، وكلّ هذه الإشكالات صادرة عن مسألتين منهجيتين، الأولى مفادها إذا كان الأدب في حدّه هو تخييل وأدب الشهادة مرتبط بالصدق فكيف يُمكن أن نعتبر هذا الشكل من الكتابة أدبا؟ والمسألة الثانية ناتجة عن الأولى وهي ماثلة في المراوحة بين الموضوعيّة والذاتيّة في طرح الإشكال، فكيف يُمكن اعتبار هذا الأدب أدبا موضوعيّا -حسب ما يدّعي من تسجيل للوقائع- وهو صادرٌ من منظور الضحيّة؟ يطرح المهتمّون بنقد أدب الشهادة العديد من الأسئلة في نطاق تحديده وتجنيسه، بعضها موصول بالذاتيّ والموضوعيّ وبعضها متّصل بالصدق والكذب، وبعضها متّصل بوظائف الأدب وأدواره، وبعضها متّصل بعلاقة الأدب بالواقع وبالتاريخ. إنّ أدب الشهادة أو الأدب الشاهد (littérature de témoignage Testimonial literature)، مصطلحٌ شافّ عن نمط من الأدب يتركّزُ شاهدا على مرحلة من الزمن أو على حَدَثٍ فارق في تاريخ البشريّة أو على شخصيّة فاعلة في مسار تحقُّق التاريخ، أدب الشهادة إذن يعني «مجموع الأعمال التي يروي فيها الكاتب وقائع تاريخيّة هامّة أو مرهبة يكون فيها الكاتب شاهدا عليها»، وهو يضمّ في نطاقه جملة من الأجناس الأدبيّة، التي يُمكن أن يدخل فيها أدب الشهادة، منها المذكّرات، أدب الرحلة، الرسائل»، وقد ظهر هذا المفهوم وشاع بعد الحرب العالميّة الثانية وغذّاه أساسا الناجون من عنف هذه الحرب ودمارها، فكتبوا سُرُودا مختلفة، منها المذكّرات واليوميّات والروايات الداخلة في باب الكاتب الشاهد على موقف أو لحظة أو حرب أو أزمة، وقد تلقّف اليهود هذا الباب من الأدب لبناء سرديّة قاطبة جاذبة فيها تأكيد للمحارق التي حصلت لليهود أيّام عنفوان النازية، وبنوا عليه أسطورة المحرقة وأثّثوا الحكاية التي ستُصبح معرّة في جبين العالم الغربي، يجهد نفسه للتكفير عنها، ويستعملها قوم الصهاينة لإشادة سرديّة المظلوميّة التاريخيّة والعمل على مطالبة العالم باستخلاص الدَيْن، ووظّفوا هذه السرود من منزلة «الأدب الشاهد» من زاوية نظر «المظلوم» إلى «الحقائق التاريخيّة».

وقد برع في هذه الكتابة أدبا ونقدا جملة من الكُتّاب الذين أسّسوا «الأدب الشاهد»، وترقّت نصوصهم إلى مرتبة العالميّة، ومن أهمّ الأمثلة في الكتابة السرديّة على أدب الشهادة في إظهار آثار الحرب العالميّة الثانية ما كتبه الكيميائي الإيطالي «بريمو ليفي Primo Levi الذي عاش تجربة الحرب، وعاش تجربة المعتقل، وقد عاش بقيّة عمره ما بعد الحرب يعتقد أنّ حياته محض صدفة وأنّ نجاته كانت اعتباطا وأنّه كان المفروض أن يموت مع من ماتوا، ولذلك كان انتحاره وذهابه إلى الموت بإرادته، وقد قال في مقدّمة كتابه الأشهر الذي عُدّ مثالا لرواية الشهادة «إذا كان هذا إنسانا»: «من حسن حظّي أنّي رحلتُ إلى أوشفيتز في عام 1944، أي بعد أن كانت الحكومة الألمانيّة قد قرّرت، نتيجة للندرة في الأيدي العاملة، أن تُطيل متوسّط عمر المعتقلين المطلوب إبادتهم، بمنحهم تحسينات ملموسة في مستوى المعيشة وبوقف عمليّات القتل الاعتباطيّة للأفراد مؤقّتا».

أن يكون الأدب شاهدا على ما لا يُوثّقه المؤرّخ من تفاصيل الحياة، وأن يكون وثيقة ذاتيّة تُمثّل الإنسان في جوهره، وفي عمق إحساسه، فذاك أمرٌ جامعٌ بين المتعة والإفادة، وهو جوهر الأدب، ومن هنا يتركّز السردُ عاملا حييّا نشطا عبر التاريخ، يتقلّب أوجها عددا، ولكنّ عمقه الحكائي باق، قد يتجلّى في السيرة، في الرسائل (وهو ما لم يتشكّل في أدبنا العربيّ الحديث في قالب من الرواية، كما تشكّل في أدبنا القديم في الرسائل الأدبيّة والإخوانيّة)، في أدب الرحلة الذي صار باهت الوجود، في المذكّرات، في اليوميّات، في الرواية التي يُمكن أن تمتصّ كلّ هذه الأشكال. مفهوم الرواية الشاهدة، هو مفهوم غرضيّ يصل الرواية عموما بالسيرة الذاتيّة (على اختلاف أشكال أدب الذات) أو بالسيرة الغيريّة نقلا لشهادات الآخرين، ويرتبط في تكوّنه النقديّ بمسائل عدد من الحريّ الوقوف عندها وبيانها، فالإحاطة النظريّة بالأدب واجبةٌ وهو ما يغيب في أدبنا العربيّ غيابا تامّا. لقد أطّر هذا النوع من الكتابة واهتمّ به العديد من الدارسين والباحثين، على رأسهم السيميائي اللسانيّ فرانسوا راسيتي (François Rastier) صاحب عديد الكتب النقديّة التي أثارت نقلة هامّة في النقد النصّي وفي التفاعل مع الخطاب السردي أساسا، وقد خصّص كتابين على درجة من الأهميّة لتأصيل «أدب الشهادة» ودراسته وبيان مظاهره ومختلف تشكّلاته، الكتاب الأوّل اتّخذ عنوانا أوليس في أوشفيتز: بريمو ليفي الناجي» وقد اهتمّ فيه بالنصّ الذي اعتبره مصدرا من مصادر أدب الشهادة وهو مذكّرات «بريمو ليفي» «إذا كان هذا إنسانا» الصادر سنة 2009، واستعمل الكناية رمزا في عنوانه، فاتّخذ «أوليس» وهو ملك أسطوريّ من ملوك اليونان، الذي استخلَصَت منه الذاكرة قيما هي الذكاء والمكر (تجلّى ذلك في أنّه صاحب فكرة حصان طروادة) والعودة إلى الوطن، وهي السمة التي يرمز لها «فرانسوا راستي» في كتابه، وعلى ذلك استدعى الكاتب هذه الصورة من آلهة اليونان لوسم كاتبه «بريمو ليفي» باعتباره من الناجين العائدين إلى أوطانهم، وخصّص أيضا كتابا ثانيا لهذه المسألة صدر سنة 2019 بعنوان «الإبادة والأدب» صدّره بقوله «لقد سُئلتُ كثيرا بعد كتابي:أوليس في أوشفتير، هل أنا يهوديّ؟ وكان جوابي بالنفي يدعو إلى الاستغراب والتعجّب، فهل يقتضي أن لكي تعيش مأساة الإنسانيّة أن تكون منتميّا إلى فئة أو إلى دين؟ هل يعيش الألم أصحاب المأساة فقط؟ أليست الإبادة فعلا منكرا من الإنسانيّة؟» وهو الأمر الذي نروم بلوغه، إذا كان العالم قد شارك اليهود «وهْم المحرقة» دون نفي تاريخيّ لتقصّد النازيّة اليهودَ ومحاربتهم وطلبهم، فما الذي يقومون به اليوم أليس إبادة لشعب؟ تحتاج هذه الإبادة إلى شهادات، ينهض بها الفنّ التشكيليّ والسينمائي، كما ينهض بها الأدب. «الأدب الشاهد» مطلوبٌ اليوم بشكلٍ لافتٍ في معالجة الحرب التي يقوم بها همجٌ (على حدّ عبارة فرانسوا راستي) ضدّ ضحايا ذنبهم أنّهم فلسطينيّون وأنّهم عربٌ مسلمون.