أعمدة

نوافذ: فكّرْ بغيرك

 
وأنا أُقبِّل وجه ابني كلّ ليلة، أقرأ له القصص ورأسه مُتكئ على كتفي، وجسده الضئيل ملتصق بي، أتذكرُ الأمهات اللاتي حضنّ أطفالهنّ لآخر مرّة، ثمّ أتذكرُ الأقل حظًا بينهن، اللاتي مكثت أشلاء صغارهن تحت ركام الأبنية دون وداع كاف!

وأنا أُعلِّم ابني كتابة الحروف على السبورة، تعبرُ مخيلتي الأمهات اللاتي كتبْنَ أسماء أبنائهنّ على أجسادهم التي تدبُ فيها سخونة الحياة، كتبنَ على أياديهم وأرجلهم وبطونهم وظهورهم، كي لا تطير أعضاؤهم كسربٍ حمام هائج، فلا يتمكنون من دفنهم معًا، في صورة تعجزُ سينما العالم عن تقديم واقعيتها المفرطة في التخييل!

وأنا أغلقُ وسائل التواصل الاجتماعي لأمنع تدفق الصور والفيديوهات من تعكير صفو يومي، وأمنع نشرات الأخبار الرديئة من اقتحام بيتي، أتذكر قصيدة محمود درويش، «فكر بغيرك»، كأنّما كتبها لوقتنا الراهن بدقة وعذوبة وإنسانية: «وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكّرْ بغيرك، من فقدوا حقهم في الكلام»!

وبينما يقطنُ أبنائي في غرفٍ متفرقة، أتذكرُ الذين يقررون النوم في غرفة واحدة، ليجمعهم الموت كما الحياة، «وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكر بغيرك، لا تنسَ شعب الخيام».

وأنا أتخاصم مع أبنائي الذين يذهبون إلى المدرسة دون إفطار، أتذكرُ الأمّ التي ركضت في الشوارع صارخة بأنّ أبناءها ماتوا جوعى، «وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك، لا تنسَ قوت الحمام».

وأنا أسرّح شعر ابنتي كل صباح أتذكر الطفل الذي تمنى أن يحصل على شعرة من رأس أخيه ليحتفظ بشيء ضئيل من ذكراه.

وأنا أعطي لكل تفصيل من حياة أبنائي قيمة ومعنى، أتذكرُ الذين جُردوا من حكاياتهم وأحلامهم ويومياتهم ومن فرديتهم، مما كانوا يحبون ويكرهون من الطعام والألعاب والدروس.. حدث ذلك عندما حولتهم نشرة الأخبار إلى أرقام ومقابر جماعية، دون أن يتسنى- في زحمة الأحداث- لأحدهم أن يحزن على أحبته كما ينبغي في جرح نازف وعميق كهذا!

وعندما أنام وضوْء غرفتي مُتقد لأنّي أخشى من كوابيسي المتكررة، يُوقد الأطفال شموعهم ليس لأنّهم يحتفلون بأعياد ميلادهم بل لأنّ الكهرباء مقطوعة.. «وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك، ثمّة من لم يجد حيزا للمنام».

وعندما يجثمُ الجاثوم المرعبُ فوق جسدي فيشل حركتي أتذكر الذين تهاوت البنايات فوق رؤوسهم، فخُنقت أصواتهم وسُحقت أجسادهم، فلم نعرف من قصص آلامهم المرعبة سوى ما تصوره لنا مخيلاتنا القاصرة أمام الوحشية المفرطة لاستعداء الإنسان للإنسان.

وعندما تترك عاملة البيت صنبور الماء مفتوحا عن آخره وهي تغسل الأطباق، أتذكر الذين وقفوا لساعات للحصول على الماء فعادوا بجالونات فارغة!..» وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك، من يرضعون الغمام».

وبينما أضع مسحة من مكياج الصباح، أتذكرُ الفتيات الضاحكات الهازئات بسُبات الضمير الإنساني، عندما رغبنَ في الذهاب إلى الموت جميلات.

وأنا أديرُ مفتاح بيتي الآمن، أفكر في الذين عبروا الطرقات مرّات ومرّات إلى اغتراب منافيهم، مُعلقين مفاتيحهم في سلاسل أعناقهم، سامحين لها أن تلمس نبض ما يجيش في صدورهم من احتراقات.. «وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك، لا تنسَ من يطلبون السلام».

وأنا أضع في سلّة مشترياتي كل ما يعجبني، دون النظر إلى بلد المنشأ، منساقة دون جهد وراء ما تقترحه أذرع الإعلانات، أتذكر جثث أطفال محترقة ومشوهة، ونساء مكلومات، وشيوخ يتساقطون لا حول لهم ولا قوة. وبينما نتفجعُ بسبب أمراض تفتُّ أجساد أحبتنا، نتذكرُ الفتاة الغضّة التي خاطوا جرح رأسها دون عدّة تخدير، نتذكر أنّهم أشعلوا مصابيح هواتفهم لإضاءة الجرح، نتذكر بطون الحوامل الميتات وهن يدفعن إلى الوجود حيوات جديدة في وجه الغزاة.. «وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك، قل: ليتني شمعة في الظلام»!

ونحن نموت كلّ يوم في الخذلان واليأس، نتذكر مقولة غسان كنفاني على سبيل المواساة، تلك التي تشير إلى أنّ الشكل الثقافي يطرح أهمية قصوى ليست أقلّ قيمة من المقاومة المسلحة، ولذا فإنّ رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها، لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى