الأشياء بمسمياتها - «1»
الأربعاء / 23 / ربيع الثاني / 1445 هـ - 22:19 - الأربعاء 8 نوفمبر 2023 22:19
يتجادل اثنان، يدعي أحدهما الحق في شيء ويدعي نظيره مثل ذلك، وفي فورة الجدال واحتدامه يصرخ أحدهما «سم الأشياء بمسمياتها». فلماذا نقول هذه العبارة؟ وهل لها أي تأثير في نتيجة الجدال والصراع حول الحق والحقيقة والمصير؟
ها قد تخطينا السابع من نوفمبر، وانقضى شهر على عملية طوفان الأقصى التي غيرت التاريخ الحديث تماما، فما الدروس والعبر المستفادة منه؟ وماذا رأينا وشاهدنا وقرأنا خلاله؟ وهل الحياة في هذا الشهر تشبه الحياة في مثيلاته؟ أشعر بالتردد كما لم أفعل في مقالة أخرى من قبل، فالوضع الإنساني الذي يعيشه إخوتنا الفلسطينيون موتٌ مؤجلٌ لا يعرفون موعد انجلائه أو مجيئه، ولا تمر ساعة دون أن نتابع الأخبار الواردة من هناك فنبحث عن خبر مفرح وسط أكوام من الدمار الهستيري الذي يقوم به العدو الصهيوني تجاه الفلسطينيين عامة وتجاه أهل غزة خاصة، ويتكرر التساؤل الداخلي حول جدوى الكتابة والتعبير في وقت عصيب كهذا، ولكن إيماني بأهمية معرفة العدو وتبيان ادعاءاته وبأهمية المقاومة بالكلمة، كلها أسباب تدفعني وتدفع المثقفين الذين يقفون مع الحق للكتابة رغم المأساة اليومية للإبادة التي نراها مباشرة على شاشات التلفاز لأول مرة في التاريخ، والعجز القاتل الذي نشعر به تجاه ما يعانيه إخوتنا الفلسطينيون.
إن من يقرأ التاريخ، كل التاريخ، يستطيع إسقاط كثير من وقائعه على ما يحدث في غزة الآن، فالخيانة والأمانة والشرف والقوة والفئة القليلة وغيرها من الدروس والعبر، لا يغطيها غربال الإعلام أو يمحوها تكالب القوى على المستضعفين. ذكرت في مقالة سابقة نُشرت في جريدة عُمان بتاريخ 14 يونيو 2023 تحت عنوان «الكتب سيئة الصيت»، أهمية كتاب مكيافيللي وكيف نقرأ من خلاله ما يحدث اليوم وحدث بالأمس وسيحدث غدا ما دامت القوى الإمبريالية لبست قناع الحَمَل الذي لا يغطي أنياب الذئب خلف تلك الأقنعة، قلت في مقالتي آنفة الذكر:
(ثم إن قراءة الكتاب اليوم، أضحت ضرورة بالغة في فهم الدولة كنظام قائم بذاته، وفهم سياسات المستعمِر والمستعمَر على السواء. كما يفهم القارئ الأسباب والنتائج لكثير مما يعايشه اليوم، والقضية الفلسطينية والاحتلال الأمريكي للعراق خير مثال وشاهد على ذلك. ففي الفصل الخامس من كتاب الأمير «كيف تحكم البلاد التي كانت قبل الفتح مستقلة» يذكر مكيافيللي ثلاث طرائق، أولاها «أن يخرب الفاتح البلاد المفتوحة ثم يؤسس سلطنته على أنقاض السلطنة الغابرة» ثم يشرع في شرح تلك الطرائق حتى يصل إلى قوله بأن «الأساس المتين في حكم البلاد الحرة بعد فتحها هو تخريبها وتدميرها، فإن لم يهلكها الفاتح أهلكته، لأن مثل تلك البلاد إذا سالمت الفاتح أمدا تفتأ تذكر الحرية فتشعل الذكرى في قلوب أهليها نيران الغيظ والفتنة ولا تهدأ تلك النيران ما دام تاريخ الآباء والأجداد لا يزال محفوظا في قلوب الأولاد والأحفاد لأنه لا يمحو اسم الحرية شيء، فلا مَنْحُ المِنَحِ ولا كَرُّ الدهور يمحوان اسمها من قلوبٍ نشأت عليها وتعودتها».)
إن التدمير الذي يحصل في غزة له عدة أسباب، منها سحق أي قدرة للمقاومة في الدفاع عن نفسها وعن الشعب الفلسطيني، وإخلاء الأرض تماما لتؤسس على أنقاضها مستوطنات جديدة، ويعبر كذلك عن الفشل الذي منيت به القوى الصهيونية والهزيمة المذلة. لا يدرك المرء الحقيقة أحيانا، وذلك لما يتعرض له من كم هائل من الدعاية الكاذبة التي تجعله طافيا لا يفرق بين ما يحدث وما هو مفبرك لا أساس له من الصحة. ولنتخيل دكتورا جامعيا يملك شهادة في اللغة العربية، ثم في نقاش حاد بينه وبين تلميذ يعرف اللغة العربية وعلومها جيدا ينكشف زيف ذلك الدكتور وتلك الشهادة التي يحملها، حينها لن يألو الدكتور جهدا في تشويه صورة ذلك التلميذ ومحاولة طرده من الجامعة لأنه قض ذلك الأساس الهش للدكتور، هذا ما يحصل في فلسطين المحتلة تماما؛ تم تصوير جيش الاحتلال الصهيوني على أنه قوة عظمى لا تقهر ولا تستطيع أقوى الجيوش العربية هزيمته، ولكنه يهزم من قبل ثلة من المقاومين الذين لا يملكون أدنى المواد والقدرات وسط تضييق الخناق عليهم، ويقاومون بشراسة أحدث الآليات والترسانة الحربية الممولة من أقوى دولة في العالم، أمريكا!.
إن المقاومة تمثل كابوسا للدول الإمبريالية (الاستعمارية)، فلو تم توظيف شخصيات تخدم مصالح القوى الإمبريالية في مراكز السلطة الأساسية لما اضطرت هذه الدول لخيارات الحرب والاجتياح، لأجل هذا تخشى هذه الدول أن تكون المقاومة مثالا يحتذى لكل الساعين إلى رفعة أوطانهم وتحريرها من الفاسدين، فقد منح الله خيرات هائلة في الدول العربية ذات المناخ الصعب لم يمنحها للدول الاستعمارية ذات الوفرة الطبيعية والمناخ الطيب، وهو ما يجعلها تستخدم قوتها في نهب الدول الضعيفة تحت ستار القانون والاتفاقيات التي تشبه المسرحية الهزلية.
لن يسقط أي احتلال بالشعارات والدعاء والابتهال إلى الله فحسب، بل لا بد من عمل حي في أرض المعركة، والتاريخ العماني يعلمنا ما فعله أجدادنا في مواجهة المحتلين وما بذلوه من دم ومال في سبيل طرد المحتل والتنعم بالحرية وخيرات الوطن. إن معرفة العدو بطريقة علمية ضرورة ملحة، ومما نفخر به في عمان أن كان التنبه إلى أمور يستعملها العدو اليوم وقد انكشفت أوراقه. ففي مواقع التواصل الاجتماعي يجد المرء حسابات تخلق العداوات بين الدول العربية، وبين المذاهب الإسلامية وتستغل تلك الخلافات في جعل أسباب الخلاف متجذرة ومتأهبة للفعل بعد تخطي مرحلة القول، وهو ما يمنعه القانون العماني ويجرّمه.
ليست سياسة الأرض المحروقة بجديدة على أي محتل، وفي التاريخ العماني تبرز قصص لما ارتكبه العدو من مآس وجرائم بحق شعبنا، وليست قصة محمد بن بور (نور) المشهورة «جعدش» ببعيد. يتغير العالم بسرعة مخيفة ومخيفة جدا، ويمكن التأثير على الشعوب اليوم ببساطة لم تكن موجودة وممكنة طوال التاريخ بما أتاحته التكنولوجيا من وسائل لتنفيذ خططها، وهو ما يحتم علينا جميعا أن نقف أمام هذا المد المخيف لنحمي أوطاننا وأهلنا.
إن تسمية الأشياء بمسمياتها لها أثر عميق، فبها يتم التفريق بين الحق والباطل، وبها يستجلب المرء النصرة أو يتعرض للخذلان، وبها يثبت المحق حقوقه ويبطل دعاوى الغاصب الكاذبة، فكما في الحديث الشريف أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَال «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وفيه دلالة بينة على أهمية الحجة في إثبات الحق. وسنتحدث في الجزء الثاني من هذه المقالة عن بعض المصطلحات التي يتم بثها في الإعلام وفي الكتب وغيرها من وسائل التأثير، من كتب منشورة ومصادر أكاديمية.
ها قد تخطينا السابع من نوفمبر، وانقضى شهر على عملية طوفان الأقصى التي غيرت التاريخ الحديث تماما، فما الدروس والعبر المستفادة منه؟ وماذا رأينا وشاهدنا وقرأنا خلاله؟ وهل الحياة في هذا الشهر تشبه الحياة في مثيلاته؟ أشعر بالتردد كما لم أفعل في مقالة أخرى من قبل، فالوضع الإنساني الذي يعيشه إخوتنا الفلسطينيون موتٌ مؤجلٌ لا يعرفون موعد انجلائه أو مجيئه، ولا تمر ساعة دون أن نتابع الأخبار الواردة من هناك فنبحث عن خبر مفرح وسط أكوام من الدمار الهستيري الذي يقوم به العدو الصهيوني تجاه الفلسطينيين عامة وتجاه أهل غزة خاصة، ويتكرر التساؤل الداخلي حول جدوى الكتابة والتعبير في وقت عصيب كهذا، ولكن إيماني بأهمية معرفة العدو وتبيان ادعاءاته وبأهمية المقاومة بالكلمة، كلها أسباب تدفعني وتدفع المثقفين الذين يقفون مع الحق للكتابة رغم المأساة اليومية للإبادة التي نراها مباشرة على شاشات التلفاز لأول مرة في التاريخ، والعجز القاتل الذي نشعر به تجاه ما يعانيه إخوتنا الفلسطينيون.
إن من يقرأ التاريخ، كل التاريخ، يستطيع إسقاط كثير من وقائعه على ما يحدث في غزة الآن، فالخيانة والأمانة والشرف والقوة والفئة القليلة وغيرها من الدروس والعبر، لا يغطيها غربال الإعلام أو يمحوها تكالب القوى على المستضعفين. ذكرت في مقالة سابقة نُشرت في جريدة عُمان بتاريخ 14 يونيو 2023 تحت عنوان «الكتب سيئة الصيت»، أهمية كتاب مكيافيللي وكيف نقرأ من خلاله ما يحدث اليوم وحدث بالأمس وسيحدث غدا ما دامت القوى الإمبريالية لبست قناع الحَمَل الذي لا يغطي أنياب الذئب خلف تلك الأقنعة، قلت في مقالتي آنفة الذكر:
(ثم إن قراءة الكتاب اليوم، أضحت ضرورة بالغة في فهم الدولة كنظام قائم بذاته، وفهم سياسات المستعمِر والمستعمَر على السواء. كما يفهم القارئ الأسباب والنتائج لكثير مما يعايشه اليوم، والقضية الفلسطينية والاحتلال الأمريكي للعراق خير مثال وشاهد على ذلك. ففي الفصل الخامس من كتاب الأمير «كيف تحكم البلاد التي كانت قبل الفتح مستقلة» يذكر مكيافيللي ثلاث طرائق، أولاها «أن يخرب الفاتح البلاد المفتوحة ثم يؤسس سلطنته على أنقاض السلطنة الغابرة» ثم يشرع في شرح تلك الطرائق حتى يصل إلى قوله بأن «الأساس المتين في حكم البلاد الحرة بعد فتحها هو تخريبها وتدميرها، فإن لم يهلكها الفاتح أهلكته، لأن مثل تلك البلاد إذا سالمت الفاتح أمدا تفتأ تذكر الحرية فتشعل الذكرى في قلوب أهليها نيران الغيظ والفتنة ولا تهدأ تلك النيران ما دام تاريخ الآباء والأجداد لا يزال محفوظا في قلوب الأولاد والأحفاد لأنه لا يمحو اسم الحرية شيء، فلا مَنْحُ المِنَحِ ولا كَرُّ الدهور يمحوان اسمها من قلوبٍ نشأت عليها وتعودتها».)
إن التدمير الذي يحصل في غزة له عدة أسباب، منها سحق أي قدرة للمقاومة في الدفاع عن نفسها وعن الشعب الفلسطيني، وإخلاء الأرض تماما لتؤسس على أنقاضها مستوطنات جديدة، ويعبر كذلك عن الفشل الذي منيت به القوى الصهيونية والهزيمة المذلة. لا يدرك المرء الحقيقة أحيانا، وذلك لما يتعرض له من كم هائل من الدعاية الكاذبة التي تجعله طافيا لا يفرق بين ما يحدث وما هو مفبرك لا أساس له من الصحة. ولنتخيل دكتورا جامعيا يملك شهادة في اللغة العربية، ثم في نقاش حاد بينه وبين تلميذ يعرف اللغة العربية وعلومها جيدا ينكشف زيف ذلك الدكتور وتلك الشهادة التي يحملها، حينها لن يألو الدكتور جهدا في تشويه صورة ذلك التلميذ ومحاولة طرده من الجامعة لأنه قض ذلك الأساس الهش للدكتور، هذا ما يحصل في فلسطين المحتلة تماما؛ تم تصوير جيش الاحتلال الصهيوني على أنه قوة عظمى لا تقهر ولا تستطيع أقوى الجيوش العربية هزيمته، ولكنه يهزم من قبل ثلة من المقاومين الذين لا يملكون أدنى المواد والقدرات وسط تضييق الخناق عليهم، ويقاومون بشراسة أحدث الآليات والترسانة الحربية الممولة من أقوى دولة في العالم، أمريكا!.
إن المقاومة تمثل كابوسا للدول الإمبريالية (الاستعمارية)، فلو تم توظيف شخصيات تخدم مصالح القوى الإمبريالية في مراكز السلطة الأساسية لما اضطرت هذه الدول لخيارات الحرب والاجتياح، لأجل هذا تخشى هذه الدول أن تكون المقاومة مثالا يحتذى لكل الساعين إلى رفعة أوطانهم وتحريرها من الفاسدين، فقد منح الله خيرات هائلة في الدول العربية ذات المناخ الصعب لم يمنحها للدول الاستعمارية ذات الوفرة الطبيعية والمناخ الطيب، وهو ما يجعلها تستخدم قوتها في نهب الدول الضعيفة تحت ستار القانون والاتفاقيات التي تشبه المسرحية الهزلية.
لن يسقط أي احتلال بالشعارات والدعاء والابتهال إلى الله فحسب، بل لا بد من عمل حي في أرض المعركة، والتاريخ العماني يعلمنا ما فعله أجدادنا في مواجهة المحتلين وما بذلوه من دم ومال في سبيل طرد المحتل والتنعم بالحرية وخيرات الوطن. إن معرفة العدو بطريقة علمية ضرورة ملحة، ومما نفخر به في عمان أن كان التنبه إلى أمور يستعملها العدو اليوم وقد انكشفت أوراقه. ففي مواقع التواصل الاجتماعي يجد المرء حسابات تخلق العداوات بين الدول العربية، وبين المذاهب الإسلامية وتستغل تلك الخلافات في جعل أسباب الخلاف متجذرة ومتأهبة للفعل بعد تخطي مرحلة القول، وهو ما يمنعه القانون العماني ويجرّمه.
ليست سياسة الأرض المحروقة بجديدة على أي محتل، وفي التاريخ العماني تبرز قصص لما ارتكبه العدو من مآس وجرائم بحق شعبنا، وليست قصة محمد بن بور (نور) المشهورة «جعدش» ببعيد. يتغير العالم بسرعة مخيفة ومخيفة جدا، ويمكن التأثير على الشعوب اليوم ببساطة لم تكن موجودة وممكنة طوال التاريخ بما أتاحته التكنولوجيا من وسائل لتنفيذ خططها، وهو ما يحتم علينا جميعا أن نقف أمام هذا المد المخيف لنحمي أوطاننا وأهلنا.
إن تسمية الأشياء بمسمياتها لها أثر عميق، فبها يتم التفريق بين الحق والباطل، وبها يستجلب المرء النصرة أو يتعرض للخذلان، وبها يثبت المحق حقوقه ويبطل دعاوى الغاصب الكاذبة، فكما في الحديث الشريف أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَال «إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وفيه دلالة بينة على أهمية الحجة في إثبات الحق. وسنتحدث في الجزء الثاني من هذه المقالة عن بعض المصطلحات التي يتم بثها في الإعلام وفي الكتب وغيرها من وسائل التأثير، من كتب منشورة ومصادر أكاديمية.