أفكار وآراء

لماذا يُعنى الشيخ سلطان بتاريخ عُمان

على الرغم من أن الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة دارس للهندسة الزراعية بجامعة القاهرة، في نهاية ستينات القرن الماضي، إلا أنه منذ هذه الفترة المبكرة من حياته كان قارئًا نهمًا للثقافة العربية، مترددًا على منافذ بيع الكتب على سور الأزبكية، ثم مختلف المكتبات في أنحاء القاهرة، صديقًا للناشرين والمثقفين في مختلف صنوف الثقافة، لم تشغله دراسة الهندسة الزراعية عن شغفه بالقراءة في الأدب والفكر والتاريخ والفن، فضلًا عن حبه للمسرح الذي شغل حيزا من اهتماماته، ومنذ مطلع السبعينات من القرن الماضي حينما تبوأ منصب حاكم الشارقة، كانت الثقافة بكل مفرداتها موضع عنايته الأولى، حينما جعلها المدخل الرئيس لبرنامج التنمية في التعليم والكتاب والفن والأدب، لدرجة أن الشارقة أصبحت الآن واحة كبيرة للمعرفة بكل صنوفها، يقصدها المثقفون والمفكرون والفنانون من مختلف دول العالم.

اللافت للنظر أن الشيخ قد عُني عناية خاصة بعُمان، تاريخًا وثقافة، لدرجة أنه في معظم ما كتب كان هذا البلد الحاضر دائما، سواء في دراسته للدكتوراه أو فيما كتبه في الجغرافيا السياسية، أو فيما راح يكتبه من كتب تجاوزت الثمانين كتابًا، في التاريخ والجغرافيا والأدب والرواية والمسرح، ومختلف مجالات المعرفة، وقد أعطى اهتمامًا خاصًا بتاريخ عُمان، ابتداءً مما كتبه عن شرق إفريقيا أو اليعاربة أو البوسعيد، وقد فاجأنا هذا العام عند افتتاح معرض الشارقة للكتاب يوم الأربعاء الماضي بالإعلان عن موسوعته العلمية، التي خصصها لتاريخ عمان، وقد جاءت في 4 مجلدات. تناول المجلد الأول فيها تاريخ عمان من بداية الاستيطان البشري، ثم تناول في المجلد الثاني تاريخ ملوك النباهنة (١١٥٤ -١٦٢٢)، وأعتقد أن هذا المجلد قد أنصف دولة النباهنة، حينما اعتمد على وثائق ومخطوطات قديمة، لم يسبق أن تطرق إليها أحد من قبل، وخصوصًا وأن معظم ما كُتب عن النباهنة جاء في سياق دراسات أدبية وشعرية، بينما الشيخ سلطان قد غاص في المصادر القديمة، التي كشفت النقاب عن هذه الحقبة المهمة من تاريخ هذا البلد العريق.

خصص المجلد الثالث لتاريخ اليعاربة ( ١٦٢٤-١٧٤٧ )، وهي حقبة تعد من أهم الفترات التاريخية التي استطاع فيها العمانيون أن يواجهوا عدوا غازيًا، امتلك أسطولا بحريًا عملاقًا فاق كل إمكانات عمان، إلا أن إرادة هذا الشعب المثابر الجسور، الذي كان يخوض حربا على اليابسة، وفي مياه الخليج والمحيط الهندي، لذا كان هذا الصراع ملحمة تمكن فيها العمانيون من أن يُنزلوا بعدوهم هزائم ساحقة، وفي الوقت الذي كانت الحرب دائرة بكل ضراوة، كان العمانيون يخوضون حربًا في الداخل ضد أنصار التجزئة وسطوة القبائل، لكنها كانت ملاحم متواصلة، خاضها العمانيون بكل اقتدار، والجديد فيما كتبه الشيخ سلطان، اعتماده على مصادر برتغالية وهولندية وانجليزية، لم يسبق لأحد الباحثين أن اعتمد عليها من قبل.

خصص الشيخ سلطان المجلد الرابع لتاريخ أئمة البوسعيد ( ١٧٤٩-١٨٥٦)، وقد سجل ملاحم رائعة بدأها بالإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي والي صحار، والمؤسس الأول لدولة البوسعيد، وقد واجه حروبًا ضارية ضد الفرس الذين حاصروا قلعة صحار، التي اعتصم بها أحمد بن سعيد وراح يدافع عنها بجدارة بعد أن التف العمانيون من حوله، إلا أن قوة الفرس قد فاقت إمكانات العمانيين، لكن الأرض العمانية بشعبها ووديانها وجبالها كانت بمثابة الظهير الذي اعتمد عليه العمانيون لدرجة مكنتهم من طرد الفرس، وقد أجمع العمانيون وشيوخ القبائل والعلماء على طرد عدوهم. ويتوقف الشيخ سلطان خلال هذه الملحمة عند قضية كانت العامل الأهم في تاريخ حكام البوسعيد، الذين جعلوا من أنفسهم مواطنين كغيرهم من أفراد الشعب، وكان عنصر النجاح الحقيقي لأحمد بن سعيد، هو محبة الشعب والتفاف القبائل من حوله، وهي قاعدة أساسية في تاريخ عمان، ابتداء من عصر اليعاربة الذين خاضوا حروبًا ضارية، تفاوتت فيها الإمكانات مع عدوهم، لكن الشعب كان هو السند الحقيقي الذي خاض حربًا ضارية، سواءً في الخليج أو على اليابسة، وهي قاعدة رئيسة لكل نضالات العمانيين، الذين أدركوا منذ فترة مبكرة من تاريخ اليعاربة ومن بعدهم البوسعيديين أن قوةً الشعب والتفافه حول قيادته هي العامل الحاسم لكل الحروب التي خاضوها.

إذا كان الشيخ سلطان قد توقف في الجزء الرابع عند نهاية حكم سعيد بن سلطان (١٨٥٦)، إلا أنني أعتقد أنه اكتفى بتاريخ عُمان في ظل حكام الأئمة، التي شكلت مرحلة متواصلة من النضالات التي لم تتوقف، حينما دخلت القوى الأوروبية لإجهاض هذه التجربة التي امتدت إلى شرق إفريقيا والتي رآها الأوروبيون خطرا على نفوذهم مما كان سببا في إجهاض هذه التجربة العظيمة، ورغم ذلك فقد بقيت عُمان تواصل رسالتها معتمدة على الإنسان العماني وإمكاناتها الطبيعية، في ظل برنامج تنموي كان هدفه الإنسان، معرفة وثقافة وبناءً ومحبة، وهو ما يفسر اعتلاء عُمان هذه المكانة الكبيرة في ظل عوالم مضطربة، استقوت فيها الدول الكبرى على مصير الدول النامية، ورغم ذلك فقد مضت عُمان في طريقها بعيدًا عن أي مراهنات سياسية وأمنية، كانت سببًا في دخول العالم إلى أتون حروب متواصلة.

مما يسجل للسياسة العمانية أنها مضت في طريقها دون أن تتورط في نزاعات دولية أو إقليمية، وهو ما جعل من عُمان وسيطًا موثوقًا به في الأزمات القائمة بالمنطقة.

تحية تقدير وامتنان إلى المؤرخ والمثقف الشيخ سلطان، الذي جعل من الشارقة عنوانًا كبيرًا للثقافة والمحبة والتسامح، فضلًا عن عنايته بعُمان، هذا البلد الذي تعرف على تاريخه بكل محبة، واقتطع قدرًا كبيرًا من وقته للكتابة عنه، لكي يعرف العالم ما أغفله المؤرخون عن عُمان منذ فجر التاريخ.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).