الرؤى الوطنية والتحول المفاهيمي والسلوكي
السبت / 7 / ربيع الأول / 1445 هـ - 22:42 - السبت 23 سبتمبر 2023 22:42
تشكل الرؤى الوطنية (طويلة الأمد) على الأقل - على مستوى دول الخليج العربي - إطارًا أساسيًا للتحول المفاهيمي والسلوكي؛ ذلك أنها تنشد إيجاد تحول في المفاهيم والسلوكيات المرتبطة بثلاثة أبعاد أساسية:
* المشاركة الاقتصادية؛ وتتجسد في القضايا المتصلة بالعمل والوظيفة وريادة الأعمال، والقوة الشرائية، ومضاعفة تسخير القوة الديموغرافية لدعم العمليات الاقتصادية، عوضًا.
* والبعد الثاني يتمثل في أنماط المشاركة العمومية: متمثلة في إدماج أكبر للنساء والشباب في الدورة الإنتاجية والقوة الاقتصادية، وفي التمثيل المؤسسي، وفي تخطيط التنمية والمستقبل، وتفعيل أدوار القطاع الثالث.
* أما البعد الثالث فهو يتمثل في التنمية المرتكزة على جودة الحياة، وعلى تنافسية جودة الحياة؛ من خلال التركيز على ترقية النظم الصحية، وتوفير الظروف الملائمة من أنماط السكن ونظم الحماية المجتمعية، والمنشآت الرياضية، والتخضير، الذي يضمن انتهاج الأفراد في هذه المجتمعات لأنماط سلوكية تدفع باتجاه جودة الحياة.
وبالنظر إلى كل رؤية وطنية في ذاتها؛ يستطيع الفاحص الخروج بإطار متكامل من المفاهيم والسلوكيات المراد إما: استبدالها أو تحييدها أو غرسها في كل سياق مجتمعي. وهذا التحديد في تقديرنا مهم جدًا أن يكون متوافقًا عليه؛ ذلك أن بنية التغيير في هذه المجتمعات شديدة التعقيد؛ لتضامنيتها على مستوى البنى الاجتماعية، ولامتداد تنوعها الثقافي الذي ترتكز عليه. إذن هناك ثلاثة محددات تحكم عملية الانتقال المفاهيمي والسلوكي في هذه المجتمعات - حسب تقديرنا - وهي: سردية القيادة السياسية، والتركيز على معرفة المؤسسة الاجتماعية الأكثر تأثيرًا بخطابها على التحول السلوكي والمفاهيمي في المجتمع، بالإضافة إلى توافر الحافز الملموس نحو هذا التحول، الذي يمكن أن يلمسه الأفراد في معيشتهم، مع عدم التعويل على خطاب التوعية والإرشاد في ذاته.
إذا ما أسقطنا المقدمة السابقة على إطار الرؤية الوطنية (عُمان 2040)، فهي في مضامينها تشكل إطارًا للتغير المفاهيمي والسلوكي؛ فهناك إلحاحات تؤكدها الرؤية بالانتقال إلى مبدأ «الصحة مسؤولية الجميع»، وتغير المفاهيم والقناعات المتصلة بالاتجاه نحو «التعليم المهني والتقني»، وصولًا لحالة «المجتمع الممكن من نقد المعرفة وتقييمها»، إلى دفع التغيير في مفاهيم «ريادة الأعمال» و«العمل الحر» وغيرها من الأنماط المرتبطة بالمفاهيم والسلوكيات في أولويات الرؤية تسترعي ليس فقط مجرد النظر الاستراتيجي في آليات تحققها وبرامجها وآليات تمويل أنشطة مبادراتها؛ وإنما النظر إلى آليات تغيير السلوك المتصلة بها عبر منهجيات تحدد حصرًا بالسلوكيات الأساسية المؤثرة، وتحديد السلوكيات الأعلى تأثيرًا، ووضع التدخلات السلوكية الملائمة لتغييرها، والبداية في آليات التهيئة السلوكية، وقياس أثر تلك التدخلات السلوكية لاحقًا. وهذا يرتبط بسؤال: من ينسق عملية التغيير والتهيئة والتدخلات السلوكية اليوم؟ في تقديرنا فإن نجاح منظومات التهيئة والتغيير السلوكي على المستوى الوطني يرتهن بثلاثة شروط أساسية: أولها المركزية؛ بحيث تتصل هذه المنظومة بوحدات اتخاذ القرار الأكثر تأثيرًا على المستوى الاستراتيجي؛ وذلك لضمان الحصول على قناعة صناع السياسات العامة بجدوى وتأثير الرؤى السلوكية. أما الشرط الثاني: فهو وجود حقل ثري ومتجدد من التجارب السلوكية، من الممكن أن تقوده المؤسسات الأكاديمية، أو وحدات البحث ذات العلاقة المباشرة بقطاعات نوعية مثل «التعليم والصحة وحماية المستهلك والبيئة»، أو الباحثين المستقلين، أو في أفضل الأحوال وجود مختبرات مهيأة لإجراء التجارب السلوكية كما هو الحال في بعض الممارسات الدولية المتقدمة. أما الشرط الثالث فيتصل بالتحدي من ناحية الكلفة والعائد. ونقصد هنا كلفة تمكين هذه الوحدات في مقابل قياس العائد من إيجادها، وهو ما يعني ضرورة وضعها أمام التحدي بأن يكون العائد من تأسيسها وتمكينها مكافئًا على أقل تقدير لما هيئ لها من إمكانات مالية وترتيبات لوجستية.
تقود التدخلات السلوكية اليوم تحولًا نوعيًا داعمًا للأولويات الوطنية؛ فعلى سبيل المثال تشكل مبادرات «إعادة التدوير من المنبع»، أساسًا مهمًا لدعم ثقافة واقتصاديات التدوير، حيث تقوم الفكرة على جعل المنازل تصنف النفايات داخل أوعية مخصصة قبل نقلها عن طريق مشغل إدارة النفايات، كأن تكون هناك أوعية فقط لوضع مخلفات البلاستيك، وأوعية لمخلفات الطعام، والكرتون، ثم يحدد مشغل إدارة النفايات يومًا معينًا لجمع كل نوع من المنازل مباشرة في كل حي، بحيث لا يتم جمع كل الأصناف أو قبول نقلها إلا حسب الصنف المحدد لذلك اليوم. وهو ما يدرب السكان على الالتزام المباشر والطوعي بمبادئ التدوير، ويقلص الآجال الزمنية التي يستغرقها الفصل والتصنيف في المصانع أو وحدات إدارة النفايات. وفي شق الثقافة المالية طبقت بعض الدول تجارب طوعية لتشجيع عمليات الادخار؛ من خلال توفير خيارات متعددة لادخار المبالغ المتبقية بعد المحاسبة في المحلات، كأن يتاح لك تجميع المبلغ من خلال المحل نفسه والحصول على عروض وخصومات لاحقة، أو توفير المبلغ في حساب ادخار خاص بك مباشرة من خلال المحل، أو ادخار المبلغ من خلال منصة المحاسبة لاستخدامه في عمليات شراء لاحقة. وشجعت هذه التجارب شرائح واسعة من السكان للانتقال إلى ثقافة الادخار بشكل ملحوظ من خلال التجارب التي تم تطبيقها. وعلى مستوى تعزيز أنماط التغذية الصحية والحد من السمنة تشكل اللوائح التي تلزم المطاعم بإبراز السعرات الحرارية للأطعمة من خلال قوائم الطعام بشكل بارز وملفت لمرتادي المطاعم دورًا مهمًا في ضبط النظم الغذائية الصحية، وقد طبقتها بعض دول الخليج بشكل جزئي لقياس هذا التأثير مما أسفر عن وجود نتائج واضحة على سلوكيات مرتادي هذه المطاعم ونوعية خياراتهم.
ميزة التدخلات السلوكية (الرؤى السلوكية) أنها غير مكلفة وفي المقابل فإن أثرها الاقتصادي والاجتماعي يعتبر عاليًا مقارنة بتدخلات السياسة العامة التقليدية، ولكن يبقى التحدي الأساسي التي تواجهه هذه الوحدات في مختلف أقطار العالم هو قناعة صناع السياسة العامة بأدوارها وضرورة تمكينها وهواجس الخصوصية الثقافية في تطبيق تدخلاتها. إلا أنه في نظرنا فإن الرؤى الوطنية في دول الخليج تشكل فرصة سانحة لتعزيز هذه الوحدات واختبارها ووضع الرهان عليها، كون أن هذه الرؤى شكلت أطرًا عامًا للمفاهيم والسلوكيات والعادات والقناعات المرغوبة خلال المدى الزمني الذي تتحرك فيه هذه الرؤى لتحقيق مستهدفاتها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
* المشاركة الاقتصادية؛ وتتجسد في القضايا المتصلة بالعمل والوظيفة وريادة الأعمال، والقوة الشرائية، ومضاعفة تسخير القوة الديموغرافية لدعم العمليات الاقتصادية، عوضًا.
* والبعد الثاني يتمثل في أنماط المشاركة العمومية: متمثلة في إدماج أكبر للنساء والشباب في الدورة الإنتاجية والقوة الاقتصادية، وفي التمثيل المؤسسي، وفي تخطيط التنمية والمستقبل، وتفعيل أدوار القطاع الثالث.
* أما البعد الثالث فهو يتمثل في التنمية المرتكزة على جودة الحياة، وعلى تنافسية جودة الحياة؛ من خلال التركيز على ترقية النظم الصحية، وتوفير الظروف الملائمة من أنماط السكن ونظم الحماية المجتمعية، والمنشآت الرياضية، والتخضير، الذي يضمن انتهاج الأفراد في هذه المجتمعات لأنماط سلوكية تدفع باتجاه جودة الحياة.
وبالنظر إلى كل رؤية وطنية في ذاتها؛ يستطيع الفاحص الخروج بإطار متكامل من المفاهيم والسلوكيات المراد إما: استبدالها أو تحييدها أو غرسها في كل سياق مجتمعي. وهذا التحديد في تقديرنا مهم جدًا أن يكون متوافقًا عليه؛ ذلك أن بنية التغيير في هذه المجتمعات شديدة التعقيد؛ لتضامنيتها على مستوى البنى الاجتماعية، ولامتداد تنوعها الثقافي الذي ترتكز عليه. إذن هناك ثلاثة محددات تحكم عملية الانتقال المفاهيمي والسلوكي في هذه المجتمعات - حسب تقديرنا - وهي: سردية القيادة السياسية، والتركيز على معرفة المؤسسة الاجتماعية الأكثر تأثيرًا بخطابها على التحول السلوكي والمفاهيمي في المجتمع، بالإضافة إلى توافر الحافز الملموس نحو هذا التحول، الذي يمكن أن يلمسه الأفراد في معيشتهم، مع عدم التعويل على خطاب التوعية والإرشاد في ذاته.
إذا ما أسقطنا المقدمة السابقة على إطار الرؤية الوطنية (عُمان 2040)، فهي في مضامينها تشكل إطارًا للتغير المفاهيمي والسلوكي؛ فهناك إلحاحات تؤكدها الرؤية بالانتقال إلى مبدأ «الصحة مسؤولية الجميع»، وتغير المفاهيم والقناعات المتصلة بالاتجاه نحو «التعليم المهني والتقني»، وصولًا لحالة «المجتمع الممكن من نقد المعرفة وتقييمها»، إلى دفع التغيير في مفاهيم «ريادة الأعمال» و«العمل الحر» وغيرها من الأنماط المرتبطة بالمفاهيم والسلوكيات في أولويات الرؤية تسترعي ليس فقط مجرد النظر الاستراتيجي في آليات تحققها وبرامجها وآليات تمويل أنشطة مبادراتها؛ وإنما النظر إلى آليات تغيير السلوك المتصلة بها عبر منهجيات تحدد حصرًا بالسلوكيات الأساسية المؤثرة، وتحديد السلوكيات الأعلى تأثيرًا، ووضع التدخلات السلوكية الملائمة لتغييرها، والبداية في آليات التهيئة السلوكية، وقياس أثر تلك التدخلات السلوكية لاحقًا. وهذا يرتبط بسؤال: من ينسق عملية التغيير والتهيئة والتدخلات السلوكية اليوم؟ في تقديرنا فإن نجاح منظومات التهيئة والتغيير السلوكي على المستوى الوطني يرتهن بثلاثة شروط أساسية: أولها المركزية؛ بحيث تتصل هذه المنظومة بوحدات اتخاذ القرار الأكثر تأثيرًا على المستوى الاستراتيجي؛ وذلك لضمان الحصول على قناعة صناع السياسات العامة بجدوى وتأثير الرؤى السلوكية. أما الشرط الثاني: فهو وجود حقل ثري ومتجدد من التجارب السلوكية، من الممكن أن تقوده المؤسسات الأكاديمية، أو وحدات البحث ذات العلاقة المباشرة بقطاعات نوعية مثل «التعليم والصحة وحماية المستهلك والبيئة»، أو الباحثين المستقلين، أو في أفضل الأحوال وجود مختبرات مهيأة لإجراء التجارب السلوكية كما هو الحال في بعض الممارسات الدولية المتقدمة. أما الشرط الثالث فيتصل بالتحدي من ناحية الكلفة والعائد. ونقصد هنا كلفة تمكين هذه الوحدات في مقابل قياس العائد من إيجادها، وهو ما يعني ضرورة وضعها أمام التحدي بأن يكون العائد من تأسيسها وتمكينها مكافئًا على أقل تقدير لما هيئ لها من إمكانات مالية وترتيبات لوجستية.
تقود التدخلات السلوكية اليوم تحولًا نوعيًا داعمًا للأولويات الوطنية؛ فعلى سبيل المثال تشكل مبادرات «إعادة التدوير من المنبع»، أساسًا مهمًا لدعم ثقافة واقتصاديات التدوير، حيث تقوم الفكرة على جعل المنازل تصنف النفايات داخل أوعية مخصصة قبل نقلها عن طريق مشغل إدارة النفايات، كأن تكون هناك أوعية فقط لوضع مخلفات البلاستيك، وأوعية لمخلفات الطعام، والكرتون، ثم يحدد مشغل إدارة النفايات يومًا معينًا لجمع كل نوع من المنازل مباشرة في كل حي، بحيث لا يتم جمع كل الأصناف أو قبول نقلها إلا حسب الصنف المحدد لذلك اليوم. وهو ما يدرب السكان على الالتزام المباشر والطوعي بمبادئ التدوير، ويقلص الآجال الزمنية التي يستغرقها الفصل والتصنيف في المصانع أو وحدات إدارة النفايات. وفي شق الثقافة المالية طبقت بعض الدول تجارب طوعية لتشجيع عمليات الادخار؛ من خلال توفير خيارات متعددة لادخار المبالغ المتبقية بعد المحاسبة في المحلات، كأن يتاح لك تجميع المبلغ من خلال المحل نفسه والحصول على عروض وخصومات لاحقة، أو توفير المبلغ في حساب ادخار خاص بك مباشرة من خلال المحل، أو ادخار المبلغ من خلال منصة المحاسبة لاستخدامه في عمليات شراء لاحقة. وشجعت هذه التجارب شرائح واسعة من السكان للانتقال إلى ثقافة الادخار بشكل ملحوظ من خلال التجارب التي تم تطبيقها. وعلى مستوى تعزيز أنماط التغذية الصحية والحد من السمنة تشكل اللوائح التي تلزم المطاعم بإبراز السعرات الحرارية للأطعمة من خلال قوائم الطعام بشكل بارز وملفت لمرتادي المطاعم دورًا مهمًا في ضبط النظم الغذائية الصحية، وقد طبقتها بعض دول الخليج بشكل جزئي لقياس هذا التأثير مما أسفر عن وجود نتائج واضحة على سلوكيات مرتادي هذه المطاعم ونوعية خياراتهم.
ميزة التدخلات السلوكية (الرؤى السلوكية) أنها غير مكلفة وفي المقابل فإن أثرها الاقتصادي والاجتماعي يعتبر عاليًا مقارنة بتدخلات السياسة العامة التقليدية، ولكن يبقى التحدي الأساسي التي تواجهه هذه الوحدات في مختلف أقطار العالم هو قناعة صناع السياسة العامة بأدوارها وضرورة تمكينها وهواجس الخصوصية الثقافية في تطبيق تدخلاتها. إلا أنه في نظرنا فإن الرؤى الوطنية في دول الخليج تشكل فرصة سانحة لتعزيز هذه الوحدات واختبارها ووضع الرهان عليها، كون أن هذه الرؤى شكلت أطرًا عامًا للمفاهيم والسلوكيات والعادات والقناعات المرغوبة خلال المدى الزمني الذي تتحرك فيه هذه الرؤى لتحقيق مستهدفاتها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان