ثقافة

مرفأ قراءة... لطيفة الزيات وجدلية السياسة والأدب!

صورة نادرة للطيفة الزيات في شبابها
 
صورة نادرة للطيفة الزيات في شبابها
- 1 -

رواية «الباب المفتوح» اسم أشهر أعمال الكاتبة النسوية والروائية والناقدة والمناضلة المصرية لطيفة الزيات (1923-1996) التي تحل ذكرى رحيلها الـ 27 هذا الشهر. ولطيفة الزيات ليست مجرد اسم ارتبط بعملٍ روائي يؤرخ به لما يمكن أن نسميه حركة التحرر النسوي في مصر والعالم العربي في منتصف القرن العشرين. لكن ارتبط اسمها أيضًا بنشاط معرفي وأكاديمي أصيل ومؤثر في دوائر الدراسات الأدبية والنقدية والفكرية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين.

أول ما صافح عيني من أعمالها سيرتها الذاتية المعنونة «حملة تفتيش.. أوراق شخصية» (صدرت في مشروع مكتبة الأسرة عام 1998) وهي سيرة في غاية الأهمية، وتكشف عن وضعية المرأة المثقفة المصرية في ظل التناقض بين الشعارات المرفوعة والممارسات الحقيقية على الأرض! في المنزل والأسرة والشارع وبيت الزوجية والمؤسسة الجامعية وحتى في الصدام مع الأجهزة الأمنية بسبب الأفكار السياسية.

وفي هذا النص السيري-الروائي، سنجد أن لطيفة تقفز من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر؛ لتسترد حكاياتٍ قد كُتبت في زمن آخر، ولتبحث وراء المرأة ذات الثمانية والخمسين عاما (عمرها حين كتبت سيرتها) التي دخلت سجن القناطر الخيرية، وعن الشابة التي اعتقلت في سجن الحفرة بالإسكندرية، لتعطينا في جميع الحالات خلاصة رمزية لحياة خصبة ملأتها الإنجازات وهددها الانكسار.

نراها طفلة بين 'بيت قديم' مهدد بالانهيار في انتهاء فترة مجد تجار البحر بين الشام وميناء دمياط، وبين الحكايات التي ملأت طفولتها؛ فتحكي الجدة مثل شهرزاد عن أساطير الأجداد وملاحم الشاطر حسن، فتدرك الطفلة لطيفة الزيات خلط الجدة بين هذه وتلك، فتعي منذ تلك الفترة المبكرة الصراع بين الواقع والخيال.

- 2 -

كانت لطيفة الزيات واحدة من أهم المثقفات المصريات في القرن العشرين، اللائي لعبن أدوارا ثقافية ونقدية ونضالية طيلة حياتها. وقد سمعت عنها كثيرًا ومرارًا من أساتذتي وأصدقائي في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة، جابر عصفور، وعبد المنعم تليمة، وسيد البحراوي، وكلهم تقريبا كتب عنها دراسة أو مقالا يرصد فيه جانبا أو أكثر من جوانب إبداعها ونقدها وسيرتها على السواء.

ومنهم من ناقشته في الدكتوراه عام 1996، الدكتور خيري دومة على سبيل المثال، الذي ظل ممتنا ووفيا لقيمتها، وقام برحلة بحثٍ حقيقية ومضنية من أجل اكتشاف وتحرير رسالتها العلمية (الدكتوراه) عن بواكير حركة الترجمة الأدبية، ونشرها في صورة كتاب صدر عن المركز القومي للترجمة عام 2017.

وكان (حركة الترجمة الأدبية في مصر) هو عنوان الدراسة التي حصلت بها الزيات على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1957، وقد اعتمد عليها باحثون كثيرون على امتداد العالم العربي ورجعوا إليها مرارا، ولكنها لسببٍ ما ظلت مخطوطة في حالة بائسة، ولم يكتب لها أن تنشر قبل ذلك التاريخ قبل ست سنوات فقط. (وهذا الكتاب يستحق إضاءة كاشفة ومقالا مستقلا لقيمته المرجعية ولتغطيته فترة شحت فيها المصادر في تاريخ نهضتنا الأدبية الحديثة).

- 3 -

ولدت لطيفة الزيات في الثامن من أغسطس عام 1926 بمدينة دمياط، كانت مصر حينها في الحقبة الملكية، وكان والدها يعمل في مجالس البلديات، فأتاح لها ذلك أن تمتد خبرتها إلى مدن عديدة.

تلقت تعليمها الأوليّ بالمدارس المصرية، ثم حصلت على درجة الليسانس في اللغة الإنجليزية وآدابها من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) عام 1946، ثم حصلت على شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1957، لتصبح من حينها روائية وناقدة ملء السمع والبصر، كرَّست جلّ اهتمامها بشؤون المرأة وقضاياها، ولها العديد من الكتب والدراسات، والأعمال الأدبية والنقدية، فضلًا على كتابتها الدورية في الصحف والمجلات.

وتعلقت بالأفكار والنظريات الماركسية وهي طالبة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وبدأت مشوارها مع اليسار الوطني والفكري عندما أتيحت لها فرصة دخول اللجنة العليا للطلبة والعمال وبرز نشاطها السياسي في اللجنة واقتحمت المظاهرات، وظهرت مواهبها الخطابية والزعامة الطلابية، وظلت على تمسكها بأفكارها السياسية والاجتماعية والفكرية، وجرَّ ذلك عليها الكثير من المتاعب، وتم اعتقالها أكثر من مرة، كان آخرها في أحداث سبتمبر من عام 1981.

أدركت لطيفة الزيات بوعيها وبانغماسها في لهيب الحركة الوطنية الديمقراطية في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي أن الرجل المقهور المقموع من السلطة والفكر الديني والتراث يمارس اضطهاده للمرأة لذلك ناضلت بإخلاص ضد قهر السلطة بشجاعة حتى يتحرر الرجل والمرأة معًا، ويستردا حريتهما وإنسانيتهما، ويمارسا الحضور الفعال في تأسيس المجتمع المدني الحديث، ومجتمع الحوار والنسبية والتعددية وحق الاختلاف وحق الخطأ، ورفض الإطلاقية والتعميم والنموذج الواحد والجاهز من الأحكام والقيم.. إلخ.

وتسنى للطيفة الزيات القيام ببعض الأعمال والوظائف المهمة، فقد أشرفت على الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة)، مؤسسة الأهرام، واختيرت عضوًا بمجلس السلام العالمي، وعضوًا بلجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضوا شرفيا في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. وحصلت على درجة الأستاذية عام 1972 ورأست قسم النقد الأدبي والمسرحي بمعهد الفنون المسرحية، وكانت مديرة أكاديمية الفنون وعضو المجلس الأعلى للفنون والآداب، كما رأست لجنة الدفاع عن الثقافة القومية منذ عام 1979 حتى وفاتها.

تركت العديد من المؤلفات في السياسة والنقد، والإبداع في مجالات الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية والمسرح، إلى جانب عدد من الترجمات والدراسات باللغة الإنجليزية.. (اعتمدنا في المعلومات البيوجرافية الواردة في هذا المقال على «قاموس الأدب العربي الحديث»، مدخل لطيفة الزيات الذي حررته منال أبو والي)

- 4 -

روايتان فقط أصدرتهما الدكتورة لطيفة الزيات عبر مشوارها الأدبي، الرواية الأولى حازت شهرة فائقة (وخاصة بعد أن تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة ومحمود مرسي وصالح سليم)، كما اعتبرت رواية تأسيسية فيما يمكن أن نطلق عليه رواية 'تحرير المرأة'، وقد أخذت مساحة واسعة من الاهتمام النقدي وحضورا كبيرا في السرد الروائي المصري والعربي عموما، وهي بالطبع رواية «الباب المفتوح» التي صدرت للمرة الأولى عام 1960، التي صدرت بعد حصولها على الدكتوراه بثلاث سنوات فقط.

أما الرواية الثانية فأقل شهرة (وإن كانت لا تقل أهمية عن الباب المفتوح)، وهي رواية قصيرة بعنوان «صاحب البيت»، وقد صدرت منذ سنوات قليلة في طبعة جديدة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع في سلسلتها الممتازة (مختارات الكرمة)، ومعها، في الكتاب نفسه، مجموعتان قصصيتان للكاتبة هما «الرجل الذي عرف تهمته» و«الشيخوخة».

ورواية «صاحب البيت» (التي صدرت للمرة الأولى عن سلسلة روايات الهلال في القرن الماضي) تزيد قليلًا على مائة صفحة، ولكنها تتميز بإحكام بنائها، وببراعة السرد الذى يعادل بميزان الفن الحساس، بين تشويق المطاردة والهروب، وبين صراع الشخصية مع مثاليتها وأشباحها القديمة، بل إن التوصيف الأدق للرواية هو أنها 'باب مفتوح على الداخل، بينما كانت «الباب المفتوح» كسرًا للجدران، وصولًا إلى الخارج، من دون التقليل من دراسة نفسية الشخصية في الروايتين، ولكننا نشير هنا عن الإطار العام، والمعنى الإجمالي'، كما يوضح الناقد القدير محمود عبد الشكور.

- 5 -

عاشت لطيفة الزيات حياة حافلة بالأحداث والقضايا والتناقضات، وقد زخر تاريخها وسط كل هذا بمواقفها الوطنية وبسلوكها الواثق المستقل، وبآرائها النقدية الأصيلة، التي صدرت عن معرفة صحيحة بأصول النقد وعن ذوق رفيع في تناول الأعمال الإبداعية، وعن خبرة عميقة بالنفس البشرية..

في سنواتها الأخيرة، كانت قد اجتازت تجارب كثيرة، حافلة بالكفاح والنضال الوطني والثقافي، وقطعت شوطًا طويلًا وصلت فيه إلى إيمان لا يتزعزع بدور الإبداع والفكر والثقافة، وانتهت، من تجارب عديدة، إلى حكمة تجسّدت في ابتسامة صافية دائمة.