أفكار وآراء

حقيقة علمية لا تقبل النقاش!

ثمة الكثير مما يستحق النقاش ضمن سلسلة المقالات التي ينشرها أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي في جريدة الرؤية، والتي تُحاول الإجابة عما إذا كانت العلوم الطبيعية مؤلفة من حقائق لا شك فيها، أم أنها مجرد نظريات خاضعة للتغيير؟ إلا أنني سأُركز نقاشي اليوم على السؤال الجوهري للسلسلة، وأتساءل بدوري: هل ثمة فعلا ما يُمكن أن يُطلق عليه حقيقة علمية لا تقبل الشك؟

يبدو أن اللواتي يؤمن بأن ثمة بالفعل حقائق علمية لا تقبل النقاش، فهو يقول مثلا: «فقبل اكتشاف المجهر مثلًا كان الإيمان بوجود كائنات دقيقة لا نراها بالعين المجردة مجرد فرضية ولا يوجد ما يُثبت صحتها، لكن ومع اكتشاف المجهر والذي يعد امتدادًا لحاسة الإبصار، استطعنا أن نحوِّل هذه الفرضية إلى حقيقة علمية، فلا يُمكن في يوم من الأيام القادمة أن يثبت خطأ هذه الحقيقة العلمية».

اللواتي لا يأخذ أمر الحقائق بخفة، فهو يضع شروطا لما يُمكن أن يُعد حقيقة، يُمكن تلخيصها في الآتي:

1. طبيعة الحقائق: الظواهر المتعلقة بالحقائق العلمية قابلة للرصد عبر الحواس، أو ما يُعد امتدادا لها مثل المايكروسكوب أو التلسكوب.

2. المنهج: يتم التوصل إلى الحقائق العلمية عبر المنهج التجريبي.

يقول اللواتي في افتتاح مقالته الثانية: «إن الظاهرة الطبيعية التي نرصدها بحواسنا أو بامتداداتها هي حقائق علمية لا يُشك في صحتها». والآن لنُحلل هذه المقولة، مع وضع مثال ما في أذهاننا، لنقل البرق. تُخبرنا أبصارنا أن ثمة شيئا ما يحدث (ظاهرة)، نُسمي هذا الشيء برقا. والآن يُمكن المجادلة بسهولة بأن البرق «حقيقي» بمعنى أنه قابل للإدراك بالحواس. لكني أحسب أن الكاتب يعني أن تفسيرنا للبرق (النظرية وليس الظاهرة) هي الحقيقة العلمية، أي القول إن ظاهرة البرق تنشأ عن تفريغ كهربائي في مناطق الغلاف الجوّي المشحونة. لأن النقاش حول حقيقة الأشياء المحسوسة يقع في بُعدٍ مختلف تماما (الأنطولوجيا رُبما) عن البعد الذي نحن فيه، أي فلسفة العلم. فالظاهرة هي مجموعة الملاحظات المنظمة، بينما النظرية هي ما يلي هذه الملاحظات من شرح أو تفسير للظاهرة المُلاحظة، والنظرية هي ما يصيب أو يخطئ، يُقبل أو يُرفض، يدلل عليه أو يُدحض. البرق مثلا هو ظاهرة يُمكننا إدراكها بحواسنا، أما كيف ينشأ البرق وفي أي ظروف فهذه هي النظرية. والنظرية هي ما أحسب الكاتب مهتما ببحثه. والآن -وقد أوضحنا هذا- صار بإمكاننا دفع النقاش للخطوة التالية والتساؤل هل يُمكن أن يُعد تفسيرنا هذا (حول نشوء ظاهرة البرق) حقيقة علمية لا تقبل الشك؟

نعرف أن تفسيرنا (نظريتنا) لظاهرة البرق قد يكون صحيحا، لأننا قادرون على بناء نماذج تفريغ كهربائي تُحاكي هذه الظاهرة في المختبر. لكن -مجددا- هل يعني هذا أننا وجدنا «الحقيقة» أو أننا قاربناها فحسب؟

قبل الإجابة، دعونا نتحدث قليلا عن المنطلقات، لما تمنحه من فهم ضروري لسياق الأشياء. أفهم أن الدفاع عن «الحقائق العلمية» قادم من رغبة في صناعة التقدم (في أن نكون عمليين)، فنحن متى ما سلمنا بنظرية حول البرق، سعينا لبناء مانعات الصواعق لحماية البشر، أو العمل على استغلالها كمصدر للطاقة البديلة، وغير ذلك من التطبيقات، عوضا عن هدر الموارد في مُساءلة الأُسس. وكما أتساءل عما يدفع اللواتي للدفاع بعناد عن فكرة وجود حقائق علمية، أتساءل بالمثل عن مُحرك التشكيك. فنوع التشكيك الذي يأتي من تسليمٍ بمحدوديتنا ومحدودية أدواتنا، يختلف عن التشكيك الذي يأتي ضمن سردية بديلة، خصوصا إذا ما انطوت على عناصر تآمرية كأن تقول إن ثمة مستفيدين من إقناع الناس بأن الأرض كروية. أقول إنني أفهم أهمية التسليم كجزء مهم للمؤسسة العلمية، لكن النقد، التشكيك، والمُساءلة لا تقل أهمية عنها.

العلم له ميزة خاصة تتمثل في أنه لا يُسائل الأشياء. لمارتن هيدجر اقتباس شائع يبدو مثاليا لهذه المناسبة، يقول إن «العلم لا يُفكر». بعض المعلقين على هذه المقولة يرون أن هيدجر لا يقصد وضع العلم في مكانة أدنى من الفلسفة، بل إنه يكشف عن ميزة العلم التي تجعله حاسما مقارنة بحقول معرفية أخرى، فالعلماء عمليون لأنهم ينشغلون ضمن نطاق عمل محدد، يتحاشى غالبا الخوض في نقاشات جذرية. (للمزيد: يُمكن الرجوع إلى مقال «Martin Heidegger: Die Wissenschaft denkt nicht» المنشور على «Philosophy Magazin» بتاريخ: 12 /09 / 2013).

مع هذا فبرغم الجانب المفيد لعدم نقاش الأُسس، والشروع في إيجاد تطبيقات جديدة للمعرفة المكتسبة عوضا عن ذلك، إلا أن هذا لا يُغير في جوهر الموضوع: نظريتنا حول البرق معضدة بجسد من الأدلة كافٍ لتبرير قبولها، لكني لا أجرؤ على القول إنها حقيقة لا نقاش فيها.

يميل المُعجم العلمي اليوم إلى الإقرار بالقصور، وتحاشي الحديث عن الحقيقة، البراهين، واستبدالها بمصطلحات أقل يقينا فنقول إننا نجد أدلة تدعم أو تُعاضد نظرية ما عوضا عن أن نقول إن الأدلة تثبتها، ونقول إننا نُقارب الحقيقة في أحسن الأحوال. يعني هذا أن كل مقولة علمية قابلة للنقاش وبالتالي قابلة للدحض. وهذا في الواقع ما يجعلها ذات طبيعية علمية. فهي إن خرجت من هذا النطاق، ودخلت للتصديق الكامل تُصبح شيئا آخر: مُعتقد.

يختم اللواتي مقالته الأولى بالقول: «إنَّ علوم الطبيعة تكشف عن حقائق علمية لن تتغير- كما أوضحنا- ومن يرفضها فهو يرفض حقائق ثابتة لن تتغير ويعيش في وَهْمٍ لا واقعَ ولا حقيقةَ له!» وأختم مقالتي هذه بالقول إنه إن كان ثمة ما يُعلمنا إياه العلم فهو التواضع، والاعتراف بمحدوديتنا ومحدودية أدواتنا، وخطاب الحقائق هذه وإن كان «مُفيدا» من الناحية العملية، إلا أنه لا يُقربنا أكثر من فهم الظواهر الطبيعية.