أعمدة

«نقضت غزلها».. مواثيق مبعثرة

نوافذ

 
بين الخطأ والخطيئة ثمة فاصل دقيق، فما إن تستمرئ الخطأ، وترى فيه شيئا من تحقيق الذات؛ إلا وتقع في الخطيئة، التي تلومك عليها الذات نفسها، عندها فقط تدرك أنك وقعت في مصيدة ما كان ينبغي لك أن تقع فيها بملء إرادتك، فعندها تندم، ولكن ندمك لن يعوّض لك خسارة الثقة في نفسك؛ حيث يكون مع كل خطأ تقترفه وتعضده بالخطيئة، تعود بنفسك إلى المربع الأول، لتبدأ من جديد حياة جديدة، تظن فيها؛ واثقا؛ أنك لن تكرر خطأ ارتكبته سابقا، وعضدته بالخطيئة، وتستمر على هذه الحالة سنوات تمضي من عمرك الذي يُفترض أن يكون مساحة واسعة لتعظيم جانب المكاسب التي تنقلك من حالة الضعف، إلى حالة القوة؛ والقوة هنا؛ ليست القوة العضلية، أو القوة المادية، أو الوجاهة، أو المناصب، وإنما القوة هنا؛ هي قوة إدارتك لذاتك التي تمتحنك طوال سنوات عمرك، إدارتها نحو الصلاح، والبناء، ومعالجة الأخطاء، والترقي بسمو الخلق والتصرف، فلا تكون مجرد رقم في حياتك، ومع من حولك.

من الأمور المسلَّم بها لنا كبشر، هي أننا من الأغيار -متغيّرين- لا نكون في حالة إلا وأصبحنا أو أمسينا في حالة أخرى، بعض هذا التغيير تحكمه القدرية «مُقدَّر علينا» وهي ممارسات أو مواقف قليلة، أما الغالبية الكبرى من هذه الغيرية فهي مملوكة لأفكارنا، ولتصرفاتنا، ولقراراتنا، ولعزائمنا، ولطموحاتنا، يحدث كل هذا انعكاسا لقلق نعيشه بغير وعي، نسلم له الأمر دون أن نترك لحظة «عودة» للمراجعة، للتفكير، للمحاسبة، لاستحضار مواقف الأخطاء، للبناء على نقطة «ذهبية» يكون لها فضل ترميم مجمل المواثيق التي قطعناها مع خالقنا قبل كل شيء، ومع الآخر من دونه في مساحة التفاعل والتعاطي، ففي لحظات كثيرة نستشيط غضبا ونفورا، لأن ما نعتقده ملكية خاصة يصبح عامًّا، أردنا ذلك أو لم نُرِد، فأطفالنا نظن أنهم ملكية خاصة نتصرف بهم كيفما نشاء، ولكن هذا الطفل هو عنوانك بعد جدران منزلك الأربعة؛ حيث يصبح في حكم العامة، ومن خلال هؤلاء العامة يقيم سلوكك أنت، وحقيقتك أنت، وليس أطفالك الذين ولدت، فلِمَ ترتجف رُكبك عندما يشار إليهم بالبنان؟

في لحظة ما؛ نملك أفكارنا ورؤانا، وقراراتنا، ونكون على يقين أن كل ما يتعلق بنا هو ملكية خاصة ليس للآخرين من حولنا الحق في مناقشتنا فيه، وهذا أمر فيه تعنّت كبير؛ فالواحد منا لا يعيش معزولا عن الآخرين من حوله، وفي هذا الارتباط المادي والمعنوي في آن واحد له تكلفته المعنوية والمادية أيضا، حيث ينتج عن ذلك من أننا نوزّع مواثيق وعهودا نتعهّد بها أمام الآخر بمعية الله عز وجل، فلا يخلو قولنا قليله وكثيره من جملة «إن شاء الله» وهذا موثق وعهد منا أمام الآخر، ولكن الذي يحدث أنه في أقل من ثانية قد نتراجع عن هذا العهد والموثق، وقد نبرم موثقا وعهدا آخريْن، أمام آخرين أيضا، وهكذا نراكم من العهود والمواثيق؛ حيث تبقى مكتوبة على الجبين إلى يوم القيامة، ولأننا نجهل حقيقة ما نقوم به، فلا نكترث لما نقول ونفعل، ونبعثر كل ذلك على أرصفة سلوكياتنا في هذه الحياة، فهل هناك أكثر غَبْنًا من هذا؟

«نقضت غزلها».. قوله تعالى: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) قال عبدالله بن كثير، والسدي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: «هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده»- وفق المصدر.