الواقع والأدب.. أيهما يشكل الآخر؟
الأربعاء / 13 / صفر / 1445 هـ - 09:35 - الأربعاء 30 أغسطس 2023 09:35
تتصف العلاقة بين الواقع والأدب بطابعٍ مثيرٍ للجدل والنقاش بين المثقفين والنقاد. فمنذ الأزل، حاول الأدب تصوير وتجسيد الواقع بأشكاله المتعددة، ولكن هل يكتفي بمجرد تمثيله أم يتعدى ذلك إلى أبعاد أخرى؟ وهل للأدب القدرة على التأثير في الواقع وتغييره؟ وهل يمكن للواقع أن يؤثر على الأدب ويشكله بدوره؟ فعلاقة الأدب بالواقع تعد علاقة معقدة ومتطورة، تتباين فيها التوازنات والتفاعلات مع مرور الزمن وتبعا للثقافات المختلفة، فهي وسيلة فعّالة للتعبير عن الأفكار والمشاعر، وفضاء للتأمل في الواقع وفهم العالم من حولنا.
يسعى الاستطلاع لكشف العلاقة المترابطة بين الواقع والأدب، واستكشاف تأثير كل جانب على الآخر من خلال استجلاء طبيعة تلك العلاقة، وتحديد مدى تأثير كل جانب على الآخر، بما يتيح لنا فهمًا أعمق لهذه العلاقة المعقدة.. ويسلط المثقفون والمبدعون استنادا إلى خبراتهم وتجاربهم الضوء على جوانب مختلفة من هذه العلاقة على أمل تعمق تحليلاتهم القيّمة فهمنا لعالم الأدب وعلاقته بالواقع.
في البدء يقول الدكتور يونس الأخزمي أنه لا يمكن للأدب أن ينفصل عن الواقع، وفي الغالب، الأدب انعكاس بطريقة أو بأخرى للواقع، ابتداء من مفردات اللغة التي يستخدمها الكاتب في كتاباته، فلا ريب أنها لغة الواقع التي أكتسبها خلال مسيرة حياته «الواقعية». لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأدب هو كتابة الواقع كما هو «نقل ولصق» ذلك ليس دقيقا. الأدب في العادة لا يخلو من الخيال ومن لغة فنية مختلفة، مزيج الواقع والخيال، فتركيبة لغة الأديب المكتوبة ليست اللغة اليومية التي يستخدمها في حديثه ونقاشاته مع الآخرين. الأديب يملك لغة مليئة بالجماليات بحيث يمكنه أن يحول ما هو واقع معاش إلى واقع متخيل أكثر قدرة على التأثير بما تحتويه تلك اللغة من إشارات أو رسائل تخدم قضايا إنسانية مختلفة.
ويضيف «الأخزمي»: لا يكتب الأديب في العادة إلا إذا وجد في داخله ذلك الصراع بين واقعه الحقيقي وواقعه المتخيل (الذي يتمناه، أو الذي يعتقد أنه أفضل)، فهو يعيش صراعا مستمرا يكشف عن عدم رضاه عن واقعه، وبالتالي يحاول الكشف عنه ومعالجته. لكن مهما كان ما يكتبه لن يكون سوى تراكم الصور والخيالات والمعارف التي اكتسبها من الواقع، سواءً أكان ذلك الاكتساب نتج عن الواقع المعاش أو نتيجة تراكمات معرفية نشأت وفقًا للقراءات والمشاهدات والإرث الشفاهي السماعي التي تحصل عليه عبر الزمن. فالأديب إذن ليس سوى نتاج ما اكتسبه من مجتمعه، المجتمع الذي شكله وشكل ما يصدر عنه من رؤى وخيالات، شاء ذلك أم أبى.
وفي شأن اللغة، فأنا أتفق تماما مع ما يؤكده الدكتور سعيد توفيق من خلال تأكيده بأن «الأدب من بين الفنون جميعًا، هو أكثرها التصاقًا بالواقع، ذلك أن الأدب يتعامل بالكلمة، والكلمة هي أكثر الوسائط الفنية قدرةً على تصوير وتشخيص واقع الإنسان، بها يحيا ويتعامل مع مفردات الحياة اليومية، بل مع أمانيه وتطلعاته وأحلامه، إنها -باختصار- تشكل عالم الإنسان ومجمل وجوده». يقول أحمد فرج كذلك، أن الأدب هو بالضرورة انعكاس اجتماعي، وهو «نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطا لغويا. حتى اللغة تُفسَر من منظور اجتماعي قبل أن تُفسَر من منظور آخر».
على ذلك فإنه ليست وظيفة الأدب أن يعكس ما يجري في المجتمع كما هو، فالمسألة ليست توثيقا، بل التعمق في تفاصيل الحياة وسبر أغوارها وكشف حقائقها المخفية، وكشفها للقارئ بلغة قادرة على التأثير على القارئ وكسب تعاطفه أو عداوته للشخصيات أو الأحداث المحورية في العمل الأدبي. يقول الفيلسوف الكبير هيجل، أن الأدب -وهو جزء من الفن الإنساني في تعريفه الأوسع- ليس سوى ذلك «التجلي المحسوس للفكرة أو الروح»، وبالتالي فهو تجسيد للفكر أو الوعي لواقع الحياة، لكن هذا الفن أو الأدب يتطور ويتخذ صورا مختلفة باستمرار مع تعاقب السنوات وصيرورة التطور الحاصل في الأدوات والخيال مع تقدم الزمن.
ويشير الروائي الدكتور يونس الأخزمي إلى أنه ليس خفيا على القارئ إن أنجح الأعمال الروائية هي تلك التي عكست المجتمع بأبعاده المختلفة من فكر وشعور وهموم ومعاناة، فتعمقت في مشاكله وتقاطعاته وأبرزت أدق التفاصيل المعيشية فيه وكأن الكاتب يعيش في داخل نفسيات أبطال رواياته ويكشفها للقارئ، كتلك الأعمال لنجيب محفوظ (الثلاثية على سبيل المثال) وشارلز ديكنز، وستندال وفلوبير، وبلزاك. يقول بلزاك مدافعا عن الواقعية التي يكتب بها بأن مهمة الفن ليس أن يقدم نسخة طبق الأصل عن الواقع، بل التعبير عنه بشكل فني، بشكل يفكك أسراره وألغازه. المعروف أن بلزاك يعد من أكثر الروائيين الذين تعمق في دراسة عادات عصره وتقاليد مجتمعه وكان كمن يوثق لكل شيء يراه كيف لا يفوته شيء.
وحول سؤال من يشكل الآخر، هل الأدب يشكل الواقع أم الواقع هو من يشكل الأدب؟ فيقول «الأخزمي»: على الرغم من أن هناك من الأحداث العالمية التي تؤكد أن الأدب قد أسهم في خلق العديد من التغييرات في العالم كان أساسها كتابات لشعراء أو روائيين، فإن تلك الكتابات «الثورية في بعض الأحداث»، لم تخرج إلا بعد معاناة كتابها «كمواطنين في المقام الأول» من الممارسات المفروضة عليهم من قبل السلطة مثلاً، التي أدت إلى مزيد من الفقر والمعاناة أو تراجع الديمقراطية وسيطرة طبقة على مفاصل الدولة والاستئثار بثروات الوطن، وإلى غير ذلك من أسباب. وبالتالي، يبقى أن الواقع يأتي أولًا، فكل أشعار محمود درويش، على سبيل المثال، ليست سوى انعكاس لمعاناة مجتمع يرزح تحت وطأة الاحتلال الغاشم، وحتى اليوم، فالروايات التي تغوص في تفاصيل الحياة اليومية لمجتمعاتنا العربية، مثلاً، ما هي إلا محاولات لتعرية الواقع ومناطق الخلل التي فيه، ومن بين الأمثلة، رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي، أو كشف الممارسات المجتمعية الخاطئة ضد جنس على آخر كالعديد من الروايات التي تناولت تسلط الرجل على المرأة، والقائمة تطول.
ومن وجهة نظره، يقول الدكتور يوسف بن سليمان المعمري الأستاذ المساعد بجامعة الشرقية: هذا سؤال مثير! فالحديث عن علاقة الأدب بالواقع أو الواقع بالأدب مرتبط تداخلات فكرية وفلسفية وأدبية وفنيّة، ولكن إجابتي الأولى عن علاقة الأدب بالواقع أنهما شيئان في شيءٍ واحد. كيف هذا؟
أقولُ هذا الرأي لأنّ الأدب غالبا لا ينفكّ ولا ينفصل عن الواقع انفصالًا تامًّا، ولو انفصل عن الواقع تمامًا ولم يتمثّله ولو بصورة رامزة وغامضة لكان الأدب يمثّل عبثًا! وهنا لن يعني الأدب للإنسان وواقعه أي معني وأيّ دلالة، ولكنه يتمثله فيعبر عن آلام الإنسان وهمومه التي لا يمكن أن يعبر بها إلا بالأدب والفن؛ ومن هذا المنطلق الأدب يحملُ في طيّاته أبعادًا شتى اجتماعيّة وفكرية وإنسانية ودينيّة وغير ذلك.
ويرى «المعمري» أن الأدب بوصفه شيئًا منفصلًا عن الواقع ولا يتصل به؛ فهذا برأيي فيه شيء من المبالغة وعدم الواقعية، ولكن أيضا الأدب وهو جزء من الفنون ليس الواقع بالضبط؛ لأنّ الأدب فنٌّ وليس واقعًا، ثمة شفرات ورموز شعرية هي حبال وصلٍ ما بين الواقع والأدب. يتميز الأدب بلغة يمكن أن نطلق عليها أحيانًا بالفوضى، ولكنها الفوضى الخلّاقة، الأدب يُعبّر بأساليب وصور فنية، وبطرقٍ شعرية كثيرة لا يمكن أنْ يحدَّ منها الواقع، الأدب يمكنه أن يُعبّر عن الماضي والحاضر، وأيضا يمكنه أن يستشرف المستقبل، الأدب لا يحدُّه الواقع من ممكنات العالم المتخيّل، ولا يمكن أن يكون عالم الخيال هو عالم الواقع ، ولكني أرى أنّ تلك العوالم المتخيّلة بها وشائج ثقافية متصلة بالواقع وما فيه، وإلا كان الأدب -كما قُلنا- عبثًا لا يحمل أيّ رسائل إنسانية سامية.
يقول الروائي زهران القاسمي (الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الـ16 لعام 2023: نما الأدب وتطور مع الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، حمل أحلامه وطموحاته ورؤاه عن المستقبل، وسجل يومياته ومعاناته وانتصاراته، كان الأدب ولا يزال ينهل من الواقع ويتشكل منه، يستفيد من الوقائع الحالية أو التاريخية، كما يحدث في الروايات التي تأخذ من الواقع أحداثها وتفاصيلها، وقد ينحى الأدب منحى بعيدا عن الواقعية شاطحا في الخيال ليبني رؤى مختلفة ولكن حتى في تلك الحالة سيجد القارئ رسائل مبطنة تعبر عن واقعه.
لكن هل يستطيع الأدب تغيير الواقع؟ يقول «القاسمي»: في هذا السؤال الجدلي نرى أن كل تطور يحدث في حياة الإنسان يبدأ عادة في الأدب، يحلم الإنسان بالطيران، يكتب قصصا حول ذلك، ثم يتحول هذا كله بعد ذلك إلى ما نراه الآن، أوليس سبر الإنسان للفضاء وتعمقه في أصقاع الكون وكتابته عن آلة الزمن كلها ظهرت في الأدب قبل أن تكون واقعا معاشا، أليست الأوبئة والتغيرات وقصص نهاية الكون والغزو الفضائي وغيرها بدأت من الأدب لتشكل نظرة عن المستقبل القريب أو البعيد، وعلى ماذا اتكأ الأدب في ذلك سوى على نتائج الواقع المحمل بكثير من الاحتمالات التي تنتج منها صورا عديدة لما سيحدث في المستقبل... قد لا يغير الأدب الواقع بطريقة مباشرة ولكنه يتدخل مع عدة جوانب أخرى في التغيير، ولكنه بلا شك هو من المحركات الرئيسية لذلك.
ويرى القاص سمير العريمي أن هذه العلاقة شائكة وطبيعية في آن وربما يبدو الوصف للوهلة الأولى متناقضا لكنها الحقيقة فالواقع النبع الذي يستقي منه الأدب وجوده ويستنير بنوره ويحلق في سماواته، إنه جوهر الأدب ولبه وأساسه المتين الذي لولاه ما كان للأدب معنى أو مقام ومهما تماهى الأدب عن الواقع أو حلق في فضاءات الخيال أو غاص في بحار الرمز فإنه لا يمكن أن ينفصل عن الواقع بالكلية أو يقطع صلته به على الإطلاق، ومن هنا فإن الواقع لا شك يشكل جزءا كبيرا من الأدب ويوجهه بل ويحدد مساره، ومن هنا ظهر الأدب الواقعي الذي لا يغادر عباءة الواقع ولا يقطع صلته به وظهرت واقعية ماركيز السحرية التي تمزج الواقع بسحر الأدب َوخياله الجميل فكأنهما روحان في جسد واحد لا يمكن تخيل أحدهما دون الآخر. وآداب الشعوب تعكس روح تلك الشعوب وكينونتها بل وتاريخها وما يحمله من إرث ثقافي ونتاج حضاري متراكم تم نقله من جيل إلى جيل عبر مختلف الفنون والآداب وبهذا المعنى المعاكس فالأدب أيضا يشكل الواقع ويسهم في تغييره للأفضل وفي بث معاني الوحدة والأصالة والتفرد والتميز فيه وهي بلا شك لا تعني الفخر والاغترار بالنظر بدونية للآخر بقدر ما تعني تقدير الذات والاعتزاز بالكينونة والإرث الحضاري الذي أشرت إليه. دون تقليل الاحترام الواجب بآداب الآخر وفكره وفنونه وحضارته ضمن معاني الحضارة الإنسانية الجامعة إن جاز لنا القول، ومن هنا نتوصل إلى معرفة مدى تأثير كل جانب منهما على الآخر.
ويضيف «العريمي»: الأدب يمثل الواقع بلا شك لكنه ليس بالضرورة الواقع كما هو، إنه عالم خاص متفَرد له قواعده القائمة على الإيهام وإيصال المتلقي /القارئ إلى الشعور أن ما يتلقاه/يقرأه عين الواقع وتصديق هذه الكذبة المتخيلة الجميلة إن شئتم الأدب إذن بعض ما نتصوره من الواقع يضاف إليه قدر معقول من الخيال والبناء الأدبي صرح يقوم على الواقع والخيال كلاهما، والأدب الجيد هو الذي ينجح في الوصول إلى المتلقي ويسهم في أن تتولد لديه الكثير من الأسئلة بدل العثور على كل الإجابات إنه يشبه ذلك الشعور الجميل الذي يراودك بعد مشاهدة فيلم جميل ويحقق متعتك ويضيف إليك فائدة ويشجعك على طرح الأسئلة حوله بدل الاقتناع بالإجابات. هذا هو الأدب بمعناه الحقيقي ليس فقط تمثيلا أمينا وحرفيا للواقع بل إضافة خلاقة تتجاوز حدود الواقع إلى آفاق أرحب تمثل قيما إنسانية أرقى وفكر أعلى قائم على منتج إبداعي أصيل.
ويؤكد القاص سمير العريمي: يمكن للأدب أن يؤثر في الواقع ويغيره فالأدب القرآني غير العرب وحولهم من قبائل متناحرة على ناقة أو بئر ماء إلى أمة فتحت أصقاع العالم وقصائد الشعر وهي ديوان العرب ضخت الدماء في هذه الأمة وصنعت تاريخها ومن منا ينكر دور تلك الأشعار كرائعة أبي تمام في فتح عمورية أو قصيدة الزهراء التي استنهضت الصلت بن مالك لإنقاذ سقطرى.. وفي إنجلترا كان لأدب شكسبير دوره في الرقي بالمجتمع وزرع الفضائل والسمو بالأفكار.. ولا يخفى تأثير كتابات الأدباء والمفكرين الفرنسيين كفولتير وجاك جاك روسو في التعجيل بالثورة الفرنسية إذ كانوا ملهمين لها عبر أفكارهم الثورية وأختم هذا الاستدلال بدور الفيلسوف والشاعر الكبير محمد إقبال وكتاباته الأدبية في إقامة دولة باكستان التي اختار اسمها وحلم بها في كتاباته لتقوم وتتجسد حقيقة على أرض الواقع بعد وفاته بسنين.
ويشير الأستاذ الدكتور عبدالمالك بلخيري أستاذ اللسانيات والمصطلح والعجم في جامعة زيان عاشور الجفلة بالجزائر إلى أن فحص جدلية العلاقة بين الأدب والواقع، لا يمكن فهمها وتمثلها وتفسيرها إلا ضمن سياق المعرفة بطبيعة التساؤلات الفلسفية واللسانية والمعرفية الأخرى الفاحصة لتلك العلاقة والتي تولدت عنها وجهات نظر علمية مختلفة ومتنوعة، إلا أنه يمكننا القول إنه بالرغم من اختلاف طبيعة المساءلة وتنوع وجهات النظر العلمية في دراسة تلك العلاقة بين الأدب والواقع من حيث التأثير والتأثر ودور كل واحد منهما في الآخر، فهي في حقيقة تكوينها المعرفي والمنهجي لم تتجاوز أصول المعرفة بكيفية إثراء التجربة الإنسانية بمعرفة جديدة ومفاهيم جديدة، ومن المؤكد أيضا، أن معالجة الحدود المعرفية والعلاقات الوظيفية بين الأدب والواقع لا يمكن فهمها وتمثلها وتفسيرها خارج سياق المعرفة بحدود ومستويات التكامل المعرفي والمنهجي بين اللغة والفكر والواقع.
ويضيف «بلخيري»: الكشف عن حدود العلاقة بين الأدب والواقع، من حيث الوظيفة، والدور، والتأثير، هي في حقيقة الأمر لا تتجاوز علاقة اللغة بالواقع، وهذا إجراء معرفي ومنهجي أساسه المعرفة بكيفية فهم وتفسير وتصنيف النصوص والخطابات، من حيث البحث في أصل تشكل تعابيرها وأساليبها اللغوية ودلالاتها مشكلة في العادة من تركيبات وظيفية أساسها اللغة ومن تجارب إنسانية متمايزة ومتنوعة مستمدة من تركيبات معرفية أساسها علاقة الإنسان بعالم الأشياء ومساره الاجتماعي والتاريخي والثقافي المحكوم بمستويات من الوعي والإدراك والمعرفة بقواعد التواصل.
البحث في التركيبات الوظيفية المشكلة من اللغة والتركيبات المعرفية المشكلة من الإنسان والواقع وعلاقتهما بجدلية العلاقة بين الأدب والواقع، سيمكننا ذلك من فحص كيفية اشتغالهما ووظيفتهما في تمثل المعرفة وتشكيل المفاهيم. في حدود ما هو متعارف عليه بين الدارسين والأكاديميين فالتركيبات الوظيفية في حقيقة تكوينها اللغوي تعتبر الدعامة الأساس في تشكيل الأدب في شكله النصي والتواصلي كما أنه لا يمكن تصور وتمثل معرفة وتشكيل مفاهيم جديدة دون تركيب لغوي. أما بخصوص التركيبات المعرفية في حقيقة تكوينها الاجتماعي والتاريخي والثقافي والمرتبطة بعالم الأشياء فإنه لا يمكن تمثلها وتفسيرها دون وجود بصمة التجربة الإنسانية منجزة لها، من خلال فعل إنساني على وعي وإدراك بعالم الأشياء.
ويلخص الكاتب والناقد الجزائري الأستاذ الدكتور عبدالمالك بلخيري فكرة بحثه في حدود المعرفة بقواعد التكوين اللغوي للأدب، من حيث المعرفة بطبيعة التركيبات الوظيفية المشكلة له على المستوى الهيكلي والتواصلي، وعلاقته بالواقع من خلال المعرفة بطبيعة تركيباته المعرفية وما يتضمنه من محتويات اجتماعية وتاريخية وثقافية لها علاقة مباشرة بالإنسان وعالم الأشياء، وهذا سيحيلنا معرفيا ومنهجيا نحو تحديد مجموعة من الافتراضات المنهجية تحدد العلاقة بين الأدب والواقع في تمثل المعرفة وتشكيل المفاهيم ومنها تصوير الواقع أو وصف تجربة إنسانية ما لا يمكن تحديدهما دون لغة أو تعابير أدبية، وصياغة مفاهيم جديدة لا يمكن تشكيلها وضبط المحتوى المعرفي لها وفعاليتها التداولية دون ضبط تسميتها لها بكلمات أو تراكيب لغوية، وتشكيل تعابير أدبية لا يمكن صياغتها دون المعرفة بمؤشرين أساسهما الواقع والإنسان، وإثراء المعجم وتجويد التعابير الأدبية من حيث التركيب والدلالة والأسلوب لا يمكن تصورها خارج أسوار المعرفة والمفاهيم وعلاقتهما بالواقع.
مؤكدا في ختام حديثه أن جدلية العلاقة بين الأدب والواقع محكومة بأسس أساسها التكامل بالرغم من اختلاف طبيعة المسائل وتمايز وجهات النظر في فحص تلك العلاقة.
يعد الناقد العراقي سعد الساعدي العلاقة بين الأدب والواقع علاقة ذات تأثير مهم، كون الأدب يتأثر بالواقع بشكل مباشر غالبا، ويقول: تلك الحالة أشبه بدور الإعلامي في نشر قصة خبرية حين يمثل الإعلام مرآة المجتمع العاكسة للأحداث، والأدب هو صورة من صور الإعلام الحقيقي، ومن هنا يبدأ التأثير في البناء والتشكيل، فالأدب يستلهم المواضيع والأحداث والشخصيات من خلال الواقع، ويعكسها عبر رؤية وتجربة الكاتب وما يشاء من تعابير، وفي المقابل، يؤثر الأدب على الواقع حين يؤثر على الأفكار والمشاعر والتصورات والسلوكيات لدى الجماهير.
ويضيف «الساعدي»: عندما يتأثر الأدب بالواقع، يمكن أن يساعد ذلك على توثيق مجموعة من الأحداث، ويمكن أن يعزز الوعي بالقضايا المتعلقة بالمجتمع عموم الإنسانية، ويمكن أن يساعد ذلك على تعزيز الوعي والتفكير لدى القراء والمتلقين، ويمكن أن يحفزهم على التغيير والعمل على تحسين الوضع الحالي، وبالتالي خلق حركية سيكولوجية، مهما تكن، فلها فلسفتها الخاصة، طالما هناك شعور بمسؤولية الانتماء، ويؤثر الأدب على المجتمع بجودته وقدرته حين يكون فاعلا بخلق التغيير.
ويرى الناقد العراقي «الساعدي» أن الأدب يتأثر بالعديد من العوامل التي تنعكس على الواقع، ومنها الظروف الاجتماعية التي تؤثر على الأدب من خلال تأثيرها على الكاتب في حالته الوجدانية ورؤيته وتجربته للواقع، كالفقر والظلم الاجتماعي والحروب والصراعات.
مشيرا إلى أن الظروف السياسية لها خصوصية في التأثير، حيث يمكن للأحداث أن تؤثر على الأدب من خلال إلقاء ظلالها على الجماهير، مثل الثورات والانقلابات والحكومات الاستبدادية والديكتاتورية، وكذلك الظروف الاقتصادية كعامل مؤثر مهم على حياة الناس وظروفهم المعيشية كالفقر والبطالة والظلم الاجتماعي.. يضاف إلى ذلك العادات والتقاليد من خلال تأثيرها على الثقافة والتصورات لدى الناس، ويمكن أن تظهر هذه التأثيرات في الخطاب الأدبي والشخصيات والتفاصيل.
ينبغي الوقوف أيضا عند صور من الثقافة ذات التأثير الواضح على الأدب من خلال تأثيرها على التصورات والأفكار والقيم لدى الكاتب والمتلقي، ويمكن أن تظهر هذه التأثيرات في الأساليب الأدبية والمواضيع المطروحة والرؤية الشاملة للعالم.
جميع هذه العوامل، وربما غيرها الكثير يمكن أن تنعكس على الأدب وتؤثر على جودته ومضمونه، وتؤثر أيضًا على المتلقي واستقباله للأدب وفهمه للرسالة الإعلامية التي ينشدها الأدب من خلال عملية الاتصال الجماهيري بشكل عام.
ويبقى السؤال المهم: أيهما الأقوى تأثيرا؛ الأدب أم الواقع؟ يمكن الإجابة باختصار: الظروف الموضوعية هي من تتحكم بذلك وتقرر النتيجة، ومدى إمكانية وجود الأرضية المناسبة للتغير والصلاح هي الفيصل في قرار الحكم.
وفي علاقة الأدب بالواقع يقول الناقد والأديب الأردني الدكتور محمد عبيدالله: يصعب تصوّر أدب منبتّ الصلة بالواقع، ذلك أن الأديب والإنسان عموما نتاج واقعه، الذي يشمل خبراته وتجاربه ومشاهداته، كما يشمل قراءاته وتعليمه وثقافته، ولذلك فالأدب إجمالا شديد الصلة بالواقع، ولكن ما ينظم هذه العلاقة ويمنحها هوية خاصة عناصر أخرى تتعلق بموقف الأديب من مفردات الواقع، ورؤيته لمحيطه من النواحي المختلفة، وبتعبير آخر من المهم أن يمتلك الأديب منظورا خاصا حيويا ومتطورا وإنسانيا يستعين به على قراءة الواقع واستكشافه ونقده، ذلك أن مهمة الأديب لم تعد متعلقة بتصوير الواقع أو تقديمه، فهذه وظيفة قديمة تجاوزها الأدب المعاصر، ولم يعد نهوضه بها مجديا في عصر ثقافة الصورة بتقنياتها الأقوى والأدق من أدوات الأدب وطرائقه.
الأدب الجيد في نظري هو الأدب الذي يتفهم الواقع، والأدب الجيد من هذا المنظور الواقعي هو أيضا أدب مقاوم بالمعنى الواسع لمفهوم «المقاومة»، بمعنى أنه أدب منحاز للإنسان، وللجمال، وللقيم الإنسانية الكبرى، مضاد للظلم وناقد للظالمين مهما يكن جبروتهم عاتيا، ذلك أن الأدب الذي يتطلع أن يكون أدبا واقعيا ينبغي أن يمتلك موقفا صريحا من قوى عصره، فلا يقف مع المحتلين والمغتصبين ولا يجاملهم أو يسكت على أفعالهم، فالأدب العربي والعالمي الذي ينتصر للقضية الفلسطينية ويقف مع الإنسان الفلسطيني في مواجهة الاستيطان والاحتلال مستكشفا أسباب الصراع، متنبها إلى الصور الخفية للاحتلال ومخاطر التبعية هو أدب واقعي بالمعنى السياسي، والإنساني، ذلك أنه لم ينخدع بالدعاية والصور الوهمية لوجود الاحتلال، وإنما تجاوزها ليصل إلى الحقيقة وإلى الواقع المختفي وراء زيف الاحتلال وأكاذيبه التي يستطيع الأدب المقاوم اكتشافها ومواجهتها باقتدار. ونقيس على هذه القضية مختلف القضايا العربية والعالمية.
ويتميز الأدب بأنه يمتلك أدوات تعينه على تحليل الواقع وعلى النفاذ إلى طبقاته المخفية، كأن الواقع جبل الجليد الذي صوره (هيمنجواي) يظهر خمسه وأربعة أخماسه مخفية، ولا بد أن نستكشف تلك الجوانب البعيدة غير الظاهرة ونحدد موقفنا منها، ولا ننشغل بالأجزاء الظاهرة وحدها.
ويضيف الدكتور محمد عبيد الله علاقة الأدب بالواقع علاقة شائكة مركبة، وليست مجرد تصوير اعتيادي سهل لما يظهر من وقائع سطحية مرئية، وإنما هي علاقة تشمل الموقف من الواقع، وتشمل تصور الأديب للواقع الذي ينبغي أن يكون، فلا يحصر نفسه بما هو كائن أو موجود، وإنما يتطلع إلى الواقع الأفضل والأكمل للحياة الكريمة للإنسان أينما كان. خذ مثلا الأدب الذي ناهض ظاهرة عالمية ظالمة هي ظاهرة الرق والعبودية مبكرا قبل عقود طويلة، لقد تنبه الأدب وقاوم هذه الظاهرة (الواقعية)، وأسهم إسهاما فاعلا في تجريمها ومنعها وصولا إلى وضع قوانين وعهود دولية في مناهضتها. الأدب كان سباقا في قراءة الواقع وتبين الظلم الذي يقع على الإنسان المستعبد، فوقف مع المضطهدين وأسهم في تحريرهم. هذا مثال رفيع من إمكانات الأدب في مواجهة الواقع، وفي طبيعته التي لا تستسلم بيسر لما هو شائع أو معتاد.
الأدب الجيد هو الأدب الذي يتطلع إلى تغيير الواقع ليكون أكثر إنسانية وجمالا وأمنا، وحتى ينهض بوظيفته فلا بد أن يحافظ على استقلاله، ولا يتبع أية سلطة غير سلطة الأدب، فالأديب المستقل هو القادر على الاستبصار، وعلى أن يكون ضميرا يقظا لمجتمعه، وللإنسان بوجه عام.
يسعى الاستطلاع لكشف العلاقة المترابطة بين الواقع والأدب، واستكشاف تأثير كل جانب على الآخر من خلال استجلاء طبيعة تلك العلاقة، وتحديد مدى تأثير كل جانب على الآخر، بما يتيح لنا فهمًا أعمق لهذه العلاقة المعقدة.. ويسلط المثقفون والمبدعون استنادا إلى خبراتهم وتجاربهم الضوء على جوانب مختلفة من هذه العلاقة على أمل تعمق تحليلاتهم القيّمة فهمنا لعالم الأدب وعلاقته بالواقع.
في البدء يقول الدكتور يونس الأخزمي أنه لا يمكن للأدب أن ينفصل عن الواقع، وفي الغالب، الأدب انعكاس بطريقة أو بأخرى للواقع، ابتداء من مفردات اللغة التي يستخدمها الكاتب في كتاباته، فلا ريب أنها لغة الواقع التي أكتسبها خلال مسيرة حياته «الواقعية». لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأدب هو كتابة الواقع كما هو «نقل ولصق» ذلك ليس دقيقا. الأدب في العادة لا يخلو من الخيال ومن لغة فنية مختلفة، مزيج الواقع والخيال، فتركيبة لغة الأديب المكتوبة ليست اللغة اليومية التي يستخدمها في حديثه ونقاشاته مع الآخرين. الأديب يملك لغة مليئة بالجماليات بحيث يمكنه أن يحول ما هو واقع معاش إلى واقع متخيل أكثر قدرة على التأثير بما تحتويه تلك اللغة من إشارات أو رسائل تخدم قضايا إنسانية مختلفة.
ويضيف «الأخزمي»: لا يكتب الأديب في العادة إلا إذا وجد في داخله ذلك الصراع بين واقعه الحقيقي وواقعه المتخيل (الذي يتمناه، أو الذي يعتقد أنه أفضل)، فهو يعيش صراعا مستمرا يكشف عن عدم رضاه عن واقعه، وبالتالي يحاول الكشف عنه ومعالجته. لكن مهما كان ما يكتبه لن يكون سوى تراكم الصور والخيالات والمعارف التي اكتسبها من الواقع، سواءً أكان ذلك الاكتساب نتج عن الواقع المعاش أو نتيجة تراكمات معرفية نشأت وفقًا للقراءات والمشاهدات والإرث الشفاهي السماعي التي تحصل عليه عبر الزمن. فالأديب إذن ليس سوى نتاج ما اكتسبه من مجتمعه، المجتمع الذي شكله وشكل ما يصدر عنه من رؤى وخيالات، شاء ذلك أم أبى.
وفي شأن اللغة، فأنا أتفق تماما مع ما يؤكده الدكتور سعيد توفيق من خلال تأكيده بأن «الأدب من بين الفنون جميعًا، هو أكثرها التصاقًا بالواقع، ذلك أن الأدب يتعامل بالكلمة، والكلمة هي أكثر الوسائط الفنية قدرةً على تصوير وتشخيص واقع الإنسان، بها يحيا ويتعامل مع مفردات الحياة اليومية، بل مع أمانيه وتطلعاته وأحلامه، إنها -باختصار- تشكل عالم الإنسان ومجمل وجوده». يقول أحمد فرج كذلك، أن الأدب هو بالضرورة انعكاس اجتماعي، وهو «نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطا لغويا. حتى اللغة تُفسَر من منظور اجتماعي قبل أن تُفسَر من منظور آخر».
على ذلك فإنه ليست وظيفة الأدب أن يعكس ما يجري في المجتمع كما هو، فالمسألة ليست توثيقا، بل التعمق في تفاصيل الحياة وسبر أغوارها وكشف حقائقها المخفية، وكشفها للقارئ بلغة قادرة على التأثير على القارئ وكسب تعاطفه أو عداوته للشخصيات أو الأحداث المحورية في العمل الأدبي. يقول الفيلسوف الكبير هيجل، أن الأدب -وهو جزء من الفن الإنساني في تعريفه الأوسع- ليس سوى ذلك «التجلي المحسوس للفكرة أو الروح»، وبالتالي فهو تجسيد للفكر أو الوعي لواقع الحياة، لكن هذا الفن أو الأدب يتطور ويتخذ صورا مختلفة باستمرار مع تعاقب السنوات وصيرورة التطور الحاصل في الأدوات والخيال مع تقدم الزمن.
ويشير الروائي الدكتور يونس الأخزمي إلى أنه ليس خفيا على القارئ إن أنجح الأعمال الروائية هي تلك التي عكست المجتمع بأبعاده المختلفة من فكر وشعور وهموم ومعاناة، فتعمقت في مشاكله وتقاطعاته وأبرزت أدق التفاصيل المعيشية فيه وكأن الكاتب يعيش في داخل نفسيات أبطال رواياته ويكشفها للقارئ، كتلك الأعمال لنجيب محفوظ (الثلاثية على سبيل المثال) وشارلز ديكنز، وستندال وفلوبير، وبلزاك. يقول بلزاك مدافعا عن الواقعية التي يكتب بها بأن مهمة الفن ليس أن يقدم نسخة طبق الأصل عن الواقع، بل التعبير عنه بشكل فني، بشكل يفكك أسراره وألغازه. المعروف أن بلزاك يعد من أكثر الروائيين الذين تعمق في دراسة عادات عصره وتقاليد مجتمعه وكان كمن يوثق لكل شيء يراه كيف لا يفوته شيء.
وحول سؤال من يشكل الآخر، هل الأدب يشكل الواقع أم الواقع هو من يشكل الأدب؟ فيقول «الأخزمي»: على الرغم من أن هناك من الأحداث العالمية التي تؤكد أن الأدب قد أسهم في خلق العديد من التغييرات في العالم كان أساسها كتابات لشعراء أو روائيين، فإن تلك الكتابات «الثورية في بعض الأحداث»، لم تخرج إلا بعد معاناة كتابها «كمواطنين في المقام الأول» من الممارسات المفروضة عليهم من قبل السلطة مثلاً، التي أدت إلى مزيد من الفقر والمعاناة أو تراجع الديمقراطية وسيطرة طبقة على مفاصل الدولة والاستئثار بثروات الوطن، وإلى غير ذلك من أسباب. وبالتالي، يبقى أن الواقع يأتي أولًا، فكل أشعار محمود درويش، على سبيل المثال، ليست سوى انعكاس لمعاناة مجتمع يرزح تحت وطأة الاحتلال الغاشم، وحتى اليوم، فالروايات التي تغوص في تفاصيل الحياة اليومية لمجتمعاتنا العربية، مثلاً، ما هي إلا محاولات لتعرية الواقع ومناطق الخلل التي فيه، ومن بين الأمثلة، رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي، أو كشف الممارسات المجتمعية الخاطئة ضد جنس على آخر كالعديد من الروايات التي تناولت تسلط الرجل على المرأة، والقائمة تطول.
- تداخلات فكرية
ومن وجهة نظره، يقول الدكتور يوسف بن سليمان المعمري الأستاذ المساعد بجامعة الشرقية: هذا سؤال مثير! فالحديث عن علاقة الأدب بالواقع أو الواقع بالأدب مرتبط تداخلات فكرية وفلسفية وأدبية وفنيّة، ولكن إجابتي الأولى عن علاقة الأدب بالواقع أنهما شيئان في شيءٍ واحد. كيف هذا؟
أقولُ هذا الرأي لأنّ الأدب غالبا لا ينفكّ ولا ينفصل عن الواقع انفصالًا تامًّا، ولو انفصل عن الواقع تمامًا ولم يتمثّله ولو بصورة رامزة وغامضة لكان الأدب يمثّل عبثًا! وهنا لن يعني الأدب للإنسان وواقعه أي معني وأيّ دلالة، ولكنه يتمثله فيعبر عن آلام الإنسان وهمومه التي لا يمكن أن يعبر بها إلا بالأدب والفن؛ ومن هذا المنطلق الأدب يحملُ في طيّاته أبعادًا شتى اجتماعيّة وفكرية وإنسانية ودينيّة وغير ذلك.
ويرى «المعمري» أن الأدب بوصفه شيئًا منفصلًا عن الواقع ولا يتصل به؛ فهذا برأيي فيه شيء من المبالغة وعدم الواقعية، ولكن أيضا الأدب وهو جزء من الفنون ليس الواقع بالضبط؛ لأنّ الأدب فنٌّ وليس واقعًا، ثمة شفرات ورموز شعرية هي حبال وصلٍ ما بين الواقع والأدب. يتميز الأدب بلغة يمكن أن نطلق عليها أحيانًا بالفوضى، ولكنها الفوضى الخلّاقة، الأدب يُعبّر بأساليب وصور فنية، وبطرقٍ شعرية كثيرة لا يمكن أنْ يحدَّ منها الواقع، الأدب يمكنه أن يُعبّر عن الماضي والحاضر، وأيضا يمكنه أن يستشرف المستقبل، الأدب لا يحدُّه الواقع من ممكنات العالم المتخيّل، ولا يمكن أن يكون عالم الخيال هو عالم الواقع ، ولكني أرى أنّ تلك العوالم المتخيّلة بها وشائج ثقافية متصلة بالواقع وما فيه، وإلا كان الأدب -كما قُلنا- عبثًا لا يحمل أيّ رسائل إنسانية سامية.
- حرك رئيسي
يقول الروائي زهران القاسمي (الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الـ16 لعام 2023: نما الأدب وتطور مع الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، حمل أحلامه وطموحاته ورؤاه عن المستقبل، وسجل يومياته ومعاناته وانتصاراته، كان الأدب ولا يزال ينهل من الواقع ويتشكل منه، يستفيد من الوقائع الحالية أو التاريخية، كما يحدث في الروايات التي تأخذ من الواقع أحداثها وتفاصيلها، وقد ينحى الأدب منحى بعيدا عن الواقعية شاطحا في الخيال ليبني رؤى مختلفة ولكن حتى في تلك الحالة سيجد القارئ رسائل مبطنة تعبر عن واقعه.
لكن هل يستطيع الأدب تغيير الواقع؟ يقول «القاسمي»: في هذا السؤال الجدلي نرى أن كل تطور يحدث في حياة الإنسان يبدأ عادة في الأدب، يحلم الإنسان بالطيران، يكتب قصصا حول ذلك، ثم يتحول هذا كله بعد ذلك إلى ما نراه الآن، أوليس سبر الإنسان للفضاء وتعمقه في أصقاع الكون وكتابته عن آلة الزمن كلها ظهرت في الأدب قبل أن تكون واقعا معاشا، أليست الأوبئة والتغيرات وقصص نهاية الكون والغزو الفضائي وغيرها بدأت من الأدب لتشكل نظرة عن المستقبل القريب أو البعيد، وعلى ماذا اتكأ الأدب في ذلك سوى على نتائج الواقع المحمل بكثير من الاحتمالات التي تنتج منها صورا عديدة لما سيحدث في المستقبل... قد لا يغير الأدب الواقع بطريقة مباشرة ولكنه يتدخل مع عدة جوانب أخرى في التغيير، ولكنه بلا شك هو من المحركات الرئيسية لذلك.
- جوهر الأدب ولبه
ويرى القاص سمير العريمي أن هذه العلاقة شائكة وطبيعية في آن وربما يبدو الوصف للوهلة الأولى متناقضا لكنها الحقيقة فالواقع النبع الذي يستقي منه الأدب وجوده ويستنير بنوره ويحلق في سماواته، إنه جوهر الأدب ولبه وأساسه المتين الذي لولاه ما كان للأدب معنى أو مقام ومهما تماهى الأدب عن الواقع أو حلق في فضاءات الخيال أو غاص في بحار الرمز فإنه لا يمكن أن ينفصل عن الواقع بالكلية أو يقطع صلته به على الإطلاق، ومن هنا فإن الواقع لا شك يشكل جزءا كبيرا من الأدب ويوجهه بل ويحدد مساره، ومن هنا ظهر الأدب الواقعي الذي لا يغادر عباءة الواقع ولا يقطع صلته به وظهرت واقعية ماركيز السحرية التي تمزج الواقع بسحر الأدب َوخياله الجميل فكأنهما روحان في جسد واحد لا يمكن تخيل أحدهما دون الآخر. وآداب الشعوب تعكس روح تلك الشعوب وكينونتها بل وتاريخها وما يحمله من إرث ثقافي ونتاج حضاري متراكم تم نقله من جيل إلى جيل عبر مختلف الفنون والآداب وبهذا المعنى المعاكس فالأدب أيضا يشكل الواقع ويسهم في تغييره للأفضل وفي بث معاني الوحدة والأصالة والتفرد والتميز فيه وهي بلا شك لا تعني الفخر والاغترار بالنظر بدونية للآخر بقدر ما تعني تقدير الذات والاعتزاز بالكينونة والإرث الحضاري الذي أشرت إليه. دون تقليل الاحترام الواجب بآداب الآخر وفكره وفنونه وحضارته ضمن معاني الحضارة الإنسانية الجامعة إن جاز لنا القول، ومن هنا نتوصل إلى معرفة مدى تأثير كل جانب منهما على الآخر.
ويضيف «العريمي»: الأدب يمثل الواقع بلا شك لكنه ليس بالضرورة الواقع كما هو، إنه عالم خاص متفَرد له قواعده القائمة على الإيهام وإيصال المتلقي /القارئ إلى الشعور أن ما يتلقاه/يقرأه عين الواقع وتصديق هذه الكذبة المتخيلة الجميلة إن شئتم الأدب إذن بعض ما نتصوره من الواقع يضاف إليه قدر معقول من الخيال والبناء الأدبي صرح يقوم على الواقع والخيال كلاهما، والأدب الجيد هو الذي ينجح في الوصول إلى المتلقي ويسهم في أن تتولد لديه الكثير من الأسئلة بدل العثور على كل الإجابات إنه يشبه ذلك الشعور الجميل الذي يراودك بعد مشاهدة فيلم جميل ويحقق متعتك ويضيف إليك فائدة ويشجعك على طرح الأسئلة حوله بدل الاقتناع بالإجابات. هذا هو الأدب بمعناه الحقيقي ليس فقط تمثيلا أمينا وحرفيا للواقع بل إضافة خلاقة تتجاوز حدود الواقع إلى آفاق أرحب تمثل قيما إنسانية أرقى وفكر أعلى قائم على منتج إبداعي أصيل.
ويؤكد القاص سمير العريمي: يمكن للأدب أن يؤثر في الواقع ويغيره فالأدب القرآني غير العرب وحولهم من قبائل متناحرة على ناقة أو بئر ماء إلى أمة فتحت أصقاع العالم وقصائد الشعر وهي ديوان العرب ضخت الدماء في هذه الأمة وصنعت تاريخها ومن منا ينكر دور تلك الأشعار كرائعة أبي تمام في فتح عمورية أو قصيدة الزهراء التي استنهضت الصلت بن مالك لإنقاذ سقطرى.. وفي إنجلترا كان لأدب شكسبير دوره في الرقي بالمجتمع وزرع الفضائل والسمو بالأفكار.. ولا يخفى تأثير كتابات الأدباء والمفكرين الفرنسيين كفولتير وجاك جاك روسو في التعجيل بالثورة الفرنسية إذ كانوا ملهمين لها عبر أفكارهم الثورية وأختم هذا الاستدلال بدور الفيلسوف والشاعر الكبير محمد إقبال وكتاباته الأدبية في إقامة دولة باكستان التي اختار اسمها وحلم بها في كتاباته لتقوم وتتجسد حقيقة على أرض الواقع بعد وفاته بسنين.
- تحديد المفاهيم
ويشير الأستاذ الدكتور عبدالمالك بلخيري أستاذ اللسانيات والمصطلح والعجم في جامعة زيان عاشور الجفلة بالجزائر إلى أن فحص جدلية العلاقة بين الأدب والواقع، لا يمكن فهمها وتمثلها وتفسيرها إلا ضمن سياق المعرفة بطبيعة التساؤلات الفلسفية واللسانية والمعرفية الأخرى الفاحصة لتلك العلاقة والتي تولدت عنها وجهات نظر علمية مختلفة ومتنوعة، إلا أنه يمكننا القول إنه بالرغم من اختلاف طبيعة المساءلة وتنوع وجهات النظر العلمية في دراسة تلك العلاقة بين الأدب والواقع من حيث التأثير والتأثر ودور كل واحد منهما في الآخر، فهي في حقيقة تكوينها المعرفي والمنهجي لم تتجاوز أصول المعرفة بكيفية إثراء التجربة الإنسانية بمعرفة جديدة ومفاهيم جديدة، ومن المؤكد أيضا، أن معالجة الحدود المعرفية والعلاقات الوظيفية بين الأدب والواقع لا يمكن فهمها وتمثلها وتفسيرها خارج سياق المعرفة بحدود ومستويات التكامل المعرفي والمنهجي بين اللغة والفكر والواقع.
ويضيف «بلخيري»: الكشف عن حدود العلاقة بين الأدب والواقع، من حيث الوظيفة، والدور، والتأثير، هي في حقيقة الأمر لا تتجاوز علاقة اللغة بالواقع، وهذا إجراء معرفي ومنهجي أساسه المعرفة بكيفية فهم وتفسير وتصنيف النصوص والخطابات، من حيث البحث في أصل تشكل تعابيرها وأساليبها اللغوية ودلالاتها مشكلة في العادة من تركيبات وظيفية أساسها اللغة ومن تجارب إنسانية متمايزة ومتنوعة مستمدة من تركيبات معرفية أساسها علاقة الإنسان بعالم الأشياء ومساره الاجتماعي والتاريخي والثقافي المحكوم بمستويات من الوعي والإدراك والمعرفة بقواعد التواصل.
البحث في التركيبات الوظيفية المشكلة من اللغة والتركيبات المعرفية المشكلة من الإنسان والواقع وعلاقتهما بجدلية العلاقة بين الأدب والواقع، سيمكننا ذلك من فحص كيفية اشتغالهما ووظيفتهما في تمثل المعرفة وتشكيل المفاهيم. في حدود ما هو متعارف عليه بين الدارسين والأكاديميين فالتركيبات الوظيفية في حقيقة تكوينها اللغوي تعتبر الدعامة الأساس في تشكيل الأدب في شكله النصي والتواصلي كما أنه لا يمكن تصور وتمثل معرفة وتشكيل مفاهيم جديدة دون تركيب لغوي. أما بخصوص التركيبات المعرفية في حقيقة تكوينها الاجتماعي والتاريخي والثقافي والمرتبطة بعالم الأشياء فإنه لا يمكن تمثلها وتفسيرها دون وجود بصمة التجربة الإنسانية منجزة لها، من خلال فعل إنساني على وعي وإدراك بعالم الأشياء.
ويلخص الكاتب والناقد الجزائري الأستاذ الدكتور عبدالمالك بلخيري فكرة بحثه في حدود المعرفة بقواعد التكوين اللغوي للأدب، من حيث المعرفة بطبيعة التركيبات الوظيفية المشكلة له على المستوى الهيكلي والتواصلي، وعلاقته بالواقع من خلال المعرفة بطبيعة تركيباته المعرفية وما يتضمنه من محتويات اجتماعية وتاريخية وثقافية لها علاقة مباشرة بالإنسان وعالم الأشياء، وهذا سيحيلنا معرفيا ومنهجيا نحو تحديد مجموعة من الافتراضات المنهجية تحدد العلاقة بين الأدب والواقع في تمثل المعرفة وتشكيل المفاهيم ومنها تصوير الواقع أو وصف تجربة إنسانية ما لا يمكن تحديدهما دون لغة أو تعابير أدبية، وصياغة مفاهيم جديدة لا يمكن تشكيلها وضبط المحتوى المعرفي لها وفعاليتها التداولية دون ضبط تسميتها لها بكلمات أو تراكيب لغوية، وتشكيل تعابير أدبية لا يمكن صياغتها دون المعرفة بمؤشرين أساسهما الواقع والإنسان، وإثراء المعجم وتجويد التعابير الأدبية من حيث التركيب والدلالة والأسلوب لا يمكن تصورها خارج أسوار المعرفة والمفاهيم وعلاقتهما بالواقع.
مؤكدا في ختام حديثه أن جدلية العلاقة بين الأدب والواقع محكومة بأسس أساسها التكامل بالرغم من اختلاف طبيعة المسائل وتمايز وجهات النظر في فحص تلك العلاقة.
- الحكم في الظروف
يعد الناقد العراقي سعد الساعدي العلاقة بين الأدب والواقع علاقة ذات تأثير مهم، كون الأدب يتأثر بالواقع بشكل مباشر غالبا، ويقول: تلك الحالة أشبه بدور الإعلامي في نشر قصة خبرية حين يمثل الإعلام مرآة المجتمع العاكسة للأحداث، والأدب هو صورة من صور الإعلام الحقيقي، ومن هنا يبدأ التأثير في البناء والتشكيل، فالأدب يستلهم المواضيع والأحداث والشخصيات من خلال الواقع، ويعكسها عبر رؤية وتجربة الكاتب وما يشاء من تعابير، وفي المقابل، يؤثر الأدب على الواقع حين يؤثر على الأفكار والمشاعر والتصورات والسلوكيات لدى الجماهير.
ويضيف «الساعدي»: عندما يتأثر الأدب بالواقع، يمكن أن يساعد ذلك على توثيق مجموعة من الأحداث، ويمكن أن يعزز الوعي بالقضايا المتعلقة بالمجتمع عموم الإنسانية، ويمكن أن يساعد ذلك على تعزيز الوعي والتفكير لدى القراء والمتلقين، ويمكن أن يحفزهم على التغيير والعمل على تحسين الوضع الحالي، وبالتالي خلق حركية سيكولوجية، مهما تكن، فلها فلسفتها الخاصة، طالما هناك شعور بمسؤولية الانتماء، ويؤثر الأدب على المجتمع بجودته وقدرته حين يكون فاعلا بخلق التغيير.
ويرى الناقد العراقي «الساعدي» أن الأدب يتأثر بالعديد من العوامل التي تنعكس على الواقع، ومنها الظروف الاجتماعية التي تؤثر على الأدب من خلال تأثيرها على الكاتب في حالته الوجدانية ورؤيته وتجربته للواقع، كالفقر والظلم الاجتماعي والحروب والصراعات.
مشيرا إلى أن الظروف السياسية لها خصوصية في التأثير، حيث يمكن للأحداث أن تؤثر على الأدب من خلال إلقاء ظلالها على الجماهير، مثل الثورات والانقلابات والحكومات الاستبدادية والديكتاتورية، وكذلك الظروف الاقتصادية كعامل مؤثر مهم على حياة الناس وظروفهم المعيشية كالفقر والبطالة والظلم الاجتماعي.. يضاف إلى ذلك العادات والتقاليد من خلال تأثيرها على الثقافة والتصورات لدى الناس، ويمكن أن تظهر هذه التأثيرات في الخطاب الأدبي والشخصيات والتفاصيل.
ينبغي الوقوف أيضا عند صور من الثقافة ذات التأثير الواضح على الأدب من خلال تأثيرها على التصورات والأفكار والقيم لدى الكاتب والمتلقي، ويمكن أن تظهر هذه التأثيرات في الأساليب الأدبية والمواضيع المطروحة والرؤية الشاملة للعالم.
جميع هذه العوامل، وربما غيرها الكثير يمكن أن تنعكس على الأدب وتؤثر على جودته ومضمونه، وتؤثر أيضًا على المتلقي واستقباله للأدب وفهمه للرسالة الإعلامية التي ينشدها الأدب من خلال عملية الاتصال الجماهيري بشكل عام.
ويبقى السؤال المهم: أيهما الأقوى تأثيرا؛ الأدب أم الواقع؟ يمكن الإجابة باختصار: الظروف الموضوعية هي من تتحكم بذلك وتقرر النتيجة، ومدى إمكانية وجود الأرضية المناسبة للتغير والصلاح هي الفيصل في قرار الحكم.
- أدب يتفهم الواقع
وفي علاقة الأدب بالواقع يقول الناقد والأديب الأردني الدكتور محمد عبيدالله: يصعب تصوّر أدب منبتّ الصلة بالواقع، ذلك أن الأديب والإنسان عموما نتاج واقعه، الذي يشمل خبراته وتجاربه ومشاهداته، كما يشمل قراءاته وتعليمه وثقافته، ولذلك فالأدب إجمالا شديد الصلة بالواقع، ولكن ما ينظم هذه العلاقة ويمنحها هوية خاصة عناصر أخرى تتعلق بموقف الأديب من مفردات الواقع، ورؤيته لمحيطه من النواحي المختلفة، وبتعبير آخر من المهم أن يمتلك الأديب منظورا خاصا حيويا ومتطورا وإنسانيا يستعين به على قراءة الواقع واستكشافه ونقده، ذلك أن مهمة الأديب لم تعد متعلقة بتصوير الواقع أو تقديمه، فهذه وظيفة قديمة تجاوزها الأدب المعاصر، ولم يعد نهوضه بها مجديا في عصر ثقافة الصورة بتقنياتها الأقوى والأدق من أدوات الأدب وطرائقه.
الأدب الجيد في نظري هو الأدب الذي يتفهم الواقع، والأدب الجيد من هذا المنظور الواقعي هو أيضا أدب مقاوم بالمعنى الواسع لمفهوم «المقاومة»، بمعنى أنه أدب منحاز للإنسان، وللجمال، وللقيم الإنسانية الكبرى، مضاد للظلم وناقد للظالمين مهما يكن جبروتهم عاتيا، ذلك أن الأدب الذي يتطلع أن يكون أدبا واقعيا ينبغي أن يمتلك موقفا صريحا من قوى عصره، فلا يقف مع المحتلين والمغتصبين ولا يجاملهم أو يسكت على أفعالهم، فالأدب العربي والعالمي الذي ينتصر للقضية الفلسطينية ويقف مع الإنسان الفلسطيني في مواجهة الاستيطان والاحتلال مستكشفا أسباب الصراع، متنبها إلى الصور الخفية للاحتلال ومخاطر التبعية هو أدب واقعي بالمعنى السياسي، والإنساني، ذلك أنه لم ينخدع بالدعاية والصور الوهمية لوجود الاحتلال، وإنما تجاوزها ليصل إلى الحقيقة وإلى الواقع المختفي وراء زيف الاحتلال وأكاذيبه التي يستطيع الأدب المقاوم اكتشافها ومواجهتها باقتدار. ونقيس على هذه القضية مختلف القضايا العربية والعالمية.
ويتميز الأدب بأنه يمتلك أدوات تعينه على تحليل الواقع وعلى النفاذ إلى طبقاته المخفية، كأن الواقع جبل الجليد الذي صوره (هيمنجواي) يظهر خمسه وأربعة أخماسه مخفية، ولا بد أن نستكشف تلك الجوانب البعيدة غير الظاهرة ونحدد موقفنا منها، ولا ننشغل بالأجزاء الظاهرة وحدها.
ويضيف الدكتور محمد عبيد الله علاقة الأدب بالواقع علاقة شائكة مركبة، وليست مجرد تصوير اعتيادي سهل لما يظهر من وقائع سطحية مرئية، وإنما هي علاقة تشمل الموقف من الواقع، وتشمل تصور الأديب للواقع الذي ينبغي أن يكون، فلا يحصر نفسه بما هو كائن أو موجود، وإنما يتطلع إلى الواقع الأفضل والأكمل للحياة الكريمة للإنسان أينما كان. خذ مثلا الأدب الذي ناهض ظاهرة عالمية ظالمة هي ظاهرة الرق والعبودية مبكرا قبل عقود طويلة، لقد تنبه الأدب وقاوم هذه الظاهرة (الواقعية)، وأسهم إسهاما فاعلا في تجريمها ومنعها وصولا إلى وضع قوانين وعهود دولية في مناهضتها. الأدب كان سباقا في قراءة الواقع وتبين الظلم الذي يقع على الإنسان المستعبد، فوقف مع المضطهدين وأسهم في تحريرهم. هذا مثال رفيع من إمكانات الأدب في مواجهة الواقع، وفي طبيعته التي لا تستسلم بيسر لما هو شائع أو معتاد.
الأدب الجيد هو الأدب الذي يتطلع إلى تغيير الواقع ليكون أكثر إنسانية وجمالا وأمنا، وحتى ينهض بوظيفته فلا بد أن يحافظ على استقلاله، ولا يتبع أية سلطة غير سلطة الأدب، فالأديب المستقل هو القادر على الاستبصار، وعلى أن يكون ضميرا يقظا لمجتمعه، وللإنسان بوجه عام.