أفكار وآراء

المركزية الاجتماعية لوسائل الإعلام

أتصور أن البحث أو مناقشة موضوع «المركزية الاجتماعية لوسائل الإعلام» في ظل هذا الكم الهائل من تعدد وسائل الإعلام، وتنوعها، وتعدد وتنوع القائمين على مختلف هذه الوسائل، بالإضافة إلى غياب المنهجية الحقيقية لممارسة جل وسائل الإعلام الحالية؛ يضحى الأمر كمن «يبحث عن إبرة في كومة قش» ، ويظهر بوضوح مدى أهمية أن تكون هناك مرجعية لأخلاقيات النشر، وأن ترك أمر النشر لكل ما «هب ودب» ومن غير هدى: ويخالف أسس أخلاقيات المهنة، وأسس الأطر الفنية، وأسس المسؤولية الاجتماعية، وأسس المسؤولية الدينية، وأسس المسؤولية السياسية، و أسس المسؤولية الثقافية، وأسس المسؤولية الذاتية «الرقابة الذاتية» وترك ذلك يؤدي ليس فقط إلى تهلهل الرسالة الإعلامية، وتمييع موضوعاتها، وإنما إلى تقويض البناء العام؛ والصورة المثلى في تأسيس البنى الفكرية والمعرفية، وتهذيب السمت الاجتماعي، وتقويم سلوكه، للخروج بأجيال تعي مسؤوليتها تجاه نفسها؛ قبل كل شيء، وتعي مسؤوليتها أمام مجتمعها، وتعي مسؤوليتها في الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من رسائلها الإعلامية المختلفة.

نُظِرَ؛ قبل هذه المرحلة؛ إلى أن العلاقة بين الوسيلة الإعلامية والمجتمع، علاقة تكاملية، ما يخل به أحد الطرفين من دور يكمله الآخر، كما نظر إليها على أنها علاقة تكافئية؛ وذلك على أن كلا الطرفين متكافئان في تحمل المسؤولية في تأصيل البناءات الاجتماعية؛ فإن أخفق أحدهما؛ كان الآخر عونا ومعينا، ومملئا لمجمل الفراغات التي من شأنها أن تشوه الصورة الجمالية العامة للمجتمع، ونظر إليها على أنها علاقة ذات مسؤولية اجتماعية؛ الجميع يعمل لبناء المجتمع، حيث تأتي مختلف هذه القناعات من وجود سبب رئيسي مهم، وهو أن من يعمل في الوسيلة الإعلامية هم أفراد من أبناء المجتمع، ارتضوا؛ ابتداء؛ بأن يتحملوا هذه المسؤولية الكبيرة، المحصنة بالأمانة، وبالصدق، وبالموضوعية، وبالحيادية، وبالعزم على تعضيد مجمل البناءات التي من شأنها أن تعزز من مكانة الأفراد في المجتمع، وقدرتهم على تحمل مختلف المسؤوليات التي من شأنها أن تضيف للمجتمع أبعادا قيمية في مختلف مجالات الحياة اليومية التي تشهد تغيرات نوعية تدخل في تركيب البناءات السلوكية للأفراد، وخاصة لدى صغار السن.

وفي هذه المرحلة اختلف الأمر كلية، ويبدو أن استقلال أحدهما يكون على حساب الآخر. وهذه الصورة أعلاه لا تنفي أن هناك شيئا من المماحكة أو التقاطع بين أن تكون الوسيلة الإعلامية بهذا النهج القويم، وبين أن توظف توظيفا ثانويا لاجترار مصالح شخصية، سواء جاء هذا التوظيف من سعي حامل الرسالة الإعلامية بنفسه؛ استجابة لما تجيش به أطماعه (فهو في النهاية بشر محكوم بكثير من الضعف) أو سواء من طموح بعض المتنفذين في جعل الوسيلة الإعلامية خاضعة لما يرسمه من مسارات مختلفة يرى في هذه المسارات على أنها تعزز مكانته كمسؤول أمام المسؤولية الكبرى، وفقا لمقولة (ليونيد شيبارشين/دبلوماسي روسي): «الفقير يشتري الجريدة والغني يشتري رئيس التحرير!». فهذا موجود مهما كانت السياسة الإعلامية التي تتبناها الدول رصينة، ومحكمة بأطر قانونية، ومهما كان الحس المهني لدى كثير من العاملين في المؤسسة الإعلامية ــ والمؤسسة الإعلامية هنا؛ ليست معنية بذات صفتها الاعتبارية (خاصة كانت أو عامة) وإنما أية مؤسسة ارتضت لنفسها أن تكون ضمن قائمة المؤسسات الإعلامية في أي نظام سياسي كان، وهذا مما يرفع من تكلفة الحرج الذي تقع فيه المؤسسة الإعلامية الرسمية عندما يتم التعامل مع المسؤولية الاجتماعية في الرسالة الإعلامية وفقا لما يريده الجمهور، وليس وفقا لما يجب أن تكون عليه الرسالة الإعلامية من سمو ونزاهة، خاصة ونحن نتحدث اليوم في ظل عشرات إن لم نقل المئات مما يندرج تحت مسمى «وسيلة إعلامية» بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي؛ التي غيرت الكثير من المفاهيم والأطر الفنية لما كانت عليه المؤسسة الإعلامية الاعتبارية، ويحل اليوم الذكاء الاصطناعي؛ كآخر صيحة في هذا المجال؛ ليُغَرِّبَ بدوره كل المفاهيم المعروفة عن المؤسسة الإعلامية، وهذه لوحدها كافية في زيادة التماهي في تحمل المسؤولية المهنية قبل كل شيء، ومن ثم الإشارة المحددة إلى مؤسسة بعينها في تحمل المسؤولية الاجتماعية للوسيلة الإعلامية.

ووفق كل التقييمات تظل هناك صورة نمطية متجذرة عند الجمهور المتلقي لرسائل الوسيلة الإعلامية، وهذه الصورة تؤثر كثيرا على المسؤولية الاجتماعية للوسائل الإعلامية، بل وتشوه صورتها إلى حد كبير، وإن كان فيها شيء من الحقيقة، ومفادها؛ أن الوسائل الإعلامية هي خاضعة للسلطة السياسية خضوعا مطلقا ــ ولا يستثنى من ذلك المؤسسة الرسمية أو غير الرسمية - وأن الوسائل الإعلامية؛ وفق هذا التقييم؛ تهدف من رسائلها الإعلامية إرضاء السلطة السياسية قبل كل شيء، بغض النظر عن مسؤوليتها الاجتماعية، وأن مجمل العناوين العريضة المطروحة أمام المؤسسة الإعلامية والمتمثلة في مناخات: التنمية والمعرفة والفكر والثقافة، يتم تجاوزها في رسائل الوسائل الإعلامية، في أحايين كثيرة، إلا ما يتوافق مع الأجندة التي تضعها السلطة السياسية، وهذه؛ كما أتصورها؛ مسألة ليست دقيقة بصورة مطلقة، لأن المجالات الإعلامية مجالات واسعة، وشاملة، وعندها من المساحة ما يتسع لأن تعمل على كل العناوين المطروحة، بما فيها توظيف الأجندة السياسية؛ إن كانت هناك ضرورة ما، وهي الضرورة التي تقتضيها المصلحة الوطنية العليا، ولا أتصور أن في ذلك أي خوف على استمرار منهج الوسيلة في التعاطي مع المتلقي، مع الإدراك العميق أن المسؤول عن الوسيلة الإعلامية يعي تماما ما يأمله المتلقي من الوسيلة الإعلامية، ويدرك تماما الحمولة الكمية من النقد والعتاب الذي يتعرض له في حالة أنه لم يضع أي اعتبار لهذا الجمهور المتلقي لوسيلته الإعلامية من خلال الرسائل التي يبثها طوال الـ (24) ساعة في اليوم. عند النظر إلى حالات التوافق والتضاد بين السياسة الإعلامية والمسؤولية الاجتماعية، يمكن الأخذ في الاعتبار مجموعة الظروف المحلية المحيطة، فالوسيلة الإعلامية لم تنشأ من فراغ التأسيس، بل تنشأ انطلاقا من مجموعة من المكتسبات الحضارية بشقيها المادي والمعنوي، ووفق هذه الصورة؛ يفترض؛ ألا يكون هناك تضاد بين الطرفين، وتبقى مجالات التوافق أكثرها، لأن المسؤولية الاجتماعية هي ذاتها تحرص على المحافظة على هذه المكتسبات، وتعظيم فوائدها لخدمة المجتمع الإنساني، سواء وفق نطاق البعد الجغرافي للوسيلة، أو ما يتجاوز ذلك، فالمهمة هنا إنسانية بالدرجة الأولى، وهذه الإنسانية هي التي تتمركز بين طرفي معادلة الرسالة الإعلامية؛ الذي يمثل أحد أطرافها السياسة الإعلامية، والطرف الثاني المؤسسة الإعلامية، والمؤسسة الإعلامية، وانطلاقا من مسؤوليتها الاجتماعية؛ غالبا؛ ما تنحاز إلى كل ما من شأنه أن يلبي رغبات وطموحات المتلقي، والذي يمثله الجمهور العريض، ولكن هذا الأمر يتطلب شرطا مهما حتى يتحقق هذا الهدف، وهذا الشرط تمثله المؤسسة الإعلامية الاعتبارية، ولن تحققه؛ مطلقا؛ مجموعة والوسائل المجنحة عبر الفضاء، لا يعلم مصادرها، ولا متبنيها، ولا توجد لها مرجعية يمكن الرجوع إليها عند الضرورة، من هنا يمكن التأكيد: أنه لا ثمة علاقة وشائجية بين المسؤولية الاجتماعية وهذا النوع من الوسائل الإعلامية، ونتيجة لذلك لن تكون المسؤولية الاجتماعية مطروحة على خارطة هذه الوسائل، وكما هذه الوسائل تعمل بصفتها الفردية ــ وبحرية مطلقة ــ فعلى الأفراد؛ في المقابل؛ أن يجدوا لأنفسهم مصدات تحميهم من سهام الرسائل المتواردة عليهم من كل حدب وصوب عبر هذه الوسائل المختلفة.