القومي والكوني في العولمة
الأربعاء / 28 / محرم / 1445 هـ - 19:41 - الأربعاء 16 أغسطس 2023 19:41
وقـر في أذهان أكثر دارسي العولمة أن الأخيرة واقعةٌ كونية عابرة لحدود الدول والقوميات، وأن مما يعتاص على المرء - لهذا السبب - أن ينسبها إلى دولةٍ بعينها من الدول الكبرى المنخرطة فيها، محاولا البحث لها عن الموقع الذي تحتـله داخل الاستراتيجيات العليا لتلك الدولة. إن كونية الظاهرة - وهي مسلمة عند هؤلاء - تنـتـقض ما إن يشـرع في البحث في صلاتها بسياساتٍ بعينها تأتيها دولٌ أو دولةٌ ما، لأن من شأن مثل ذلك البحث - كما يظن - أن يعيد العولمة إلى نطاقات قومية لا تناسب طبيعتها كظاهرةٍ نزاعة إلى الخروج عن الحدود السياسية والاقتصادية المألوفة و، بالتالي، لا يفضي إلى قراءتها على النحو الأصـوب والأنسب.
هذا كان واحدا من أسبابٍ عدة قادت إلى إشاعة اعتقادٍ متسرع بأن العولمة آذنت بميلاد حقبةٍ جديدة في العالم هي حقبة «ما بعـد القوميات»؛ الحقبة التي تتوقف فيها فاعليات الدولة القومية - أيـا كان حجمها ومهما عظم شأنها - عن إنتاج حقائق عالمية كبرى فائضة عن حدودها لتصبح، هي بدورها، موضع أثـرٍ لفواعل كبرى من خارجها. وليس مستغربـا أن ينجب هذا اليقين بحلول حقبةٍ ما بعد قوميةٍ سيلا من «مفاهيم» نظيرٍ تدور على النهايات أو على «المابعديات» من طراز: ما بعد الدولة؛ ما بعد المجتمع؛ ما بعد السيادة؛ ما بعد الإيديولوجيا؛ ما بعد الصناعة... إلخ؛ فلقد بدا العالم «الجديد» الذي فتحته نهاية حقبة الحرب الباردة وانطلاقة الموجات الأولى للعولمة عالما «ما بعديـا» يتجاوز نظام الما قبل في ميادينه وتجلياته كافـة ويحدث قطيعة نهائية معه، ذاهبا إلى أفق عالمي مفتوح لا تحده حدودٌ أو تفصل بينه عوازل.
ما كان يسع مثل هذه الرواية عن الأس «الكوني» للعولمة أن تصمد طويلا، لا لأنها لم تكن قادرة على تبرير صدقيـتها من طريق تبرير مطابقة الاسم للمسمى به، فقط، بل لأن منشأ العولمة نفسه يكذبها ويكشف زيف القول بها؛ إذ ما من أحدٍ يملك أن يتجاهل نسب العولمة الأول الذي كشف عنه اقترانها بقوى عالمية ثلاث، في مطالع تسعينيات القرن العشرين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، أوروبا (خاصة ألمانيا وبريطانيا). كما أن أحدا ليس يذهل عن حقيقة نجاح دولٍ أخرى كبيرة في المنافسة على العولمة - في العقدين الماضيين - مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا، وفي إضفاء شخصيتها الثـقافية والقيمية عليها. وهذا مما يدلـنا على أن فصل العولمة عن منابتها القومية ليس بالمسلك المفضي إلى إحسان قراءة طبيعتها بما هي ظاهرةٌ أنتجتها الدولة القومية (= الدول الكبرى) تعبيرا عن ميلها إلى مجاوزة نفوذها نطاق حدودها القومية الضيقة. نحن، هنا، أمام حقيقتين ربما كانتا في أساس ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن العولمة نشأت خارج الرحاب القومية، وجسدت لحظة القطيعة بين كونيةٍ تمثلها وقومية ولجت، بالتـبعة، طور التلاشي التدريجي:
أولى الحقيقتين أن خلطا مؤكـدا حصل، داخل تلك الرواية «الكونية» عن العولمة، بين المفاعيل والنتائج الكونية للعولمة من جهة، والديناميات الدولـتية القومية التي أطلقت فعلها من مراكز قومية بينها، من جهة أخرى، فكان أن حمل المعطى الثاني التأسيسي - حملا غير مشروعٍ - على معطى كونية نتائجها، فـبدا كما لو أنها كونية المنشأ أيضا. ما يقال عن العولمة، في هذا النطاق، يقال عن كل ظاهرةٍ نظيرٍ بدأت قومية وأنجبت نتائج كونية، ومن ذلك - مثلا- ظاهرة الاستعمار. من ينكـر أن فعـل الاستعمار فعـلٌ أوروبي بامتياز، منذ الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية في بدايات القرن السادس عشر وعلى امتداد القرن كله؟ من ينكر أن دولا أوروبية بعينها كانت مهدا لحركة استعمار العالم (إسپانيا، البرتغال، بريطانيا، فرنسا)، قبل أن تلتحق بها أخرى من أوروبا (إيطاليا، هولندا، ألمانيا، بلجيكا...) ومن خارج أوروبا (الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان)؟ لقد نشأت فكرته في بيئات قومية وثقافية بعينها (= في نطاق عقيدة المركزية الأوروبية)، لكن اندفاعته إلى خارج الحدود القومية وإطباقـته على بلدان القارات الأربع غير الأوروبية سرعان ما حوله إلى ظاهرة ذات نتائج كونية مست العالم برمته. هي هذه، أيضا، حال العولمة بين منطلقاتها القومية ونتائجها الكونية.
وثانيهما أن فكرة التجافي الماهوي بين القومي والكوني في العولمة ليست تصح على مراكز العولمة بل على هوامشها وأطرافها. هي لا تصح على الدول/القوميات الكبرى التي تنتج حقائق العولمة لسببٍ معلوم أن نتائج تلك العولمة تصب في رصيد تلك الدول، بل تزيد من تعظيم مواردها وقواها بما يعـزز مراكزها القومية في العالم. لذلك لا محل للقول بقطيعة العولمة مع حقبة نموذج الدول القومية الكبرى. وليست تلك حال هوامش العولمة وأطرافها من كيانات الدول الوطنية أو القومية الصغرى؛ ذلك أن هذه الدول والكيانات القومية الصغرى - أو الضعيفة - هي أول من يدفع أثمان تلك العولمة الزاحفة على داخلها الاقتصادي والسياسي الوطني، المطيحة بسياداتها، بل كثيرا ما تأتي على كيان الدولة فيها بمعاول الهدم. إن قياس العلاقة بين القومي والكوني في العولمة على مقاس حالة البلدان والوطنيات الصغرى ليس أساسا صالحا لترتيب قاعدةٍ عامة عليه وسحبها على حالات البلدان والدول والأمم كافـة.
هذا التدقيق في الحدود بين القومي والكوني في العولمة ضروري لبناء جملةٍ من الموضوعات التي يبـنى عليها تفكيرٌ دقيق في مسألة العولمة، وفي جملتها: التشديد على الإطار المرجعي القومي للعولمة؛ النظر إليها بما هي تعبير عن علاقاتٍ متغيرة بتغير موازن القوة بين الدول. هذه أسسٌ لا غنى عنها لتأسيس قراءة واقعية وتاريخية للعولمة بوصفها ظاهرة تجاذبٍ وصراع لا كما يرغب كثيرون في تقديمها في هيئةٍ قدرية ميتاتاريخية.
هذا كان واحدا من أسبابٍ عدة قادت إلى إشاعة اعتقادٍ متسرع بأن العولمة آذنت بميلاد حقبةٍ جديدة في العالم هي حقبة «ما بعـد القوميات»؛ الحقبة التي تتوقف فيها فاعليات الدولة القومية - أيـا كان حجمها ومهما عظم شأنها - عن إنتاج حقائق عالمية كبرى فائضة عن حدودها لتصبح، هي بدورها، موضع أثـرٍ لفواعل كبرى من خارجها. وليس مستغربـا أن ينجب هذا اليقين بحلول حقبةٍ ما بعد قوميةٍ سيلا من «مفاهيم» نظيرٍ تدور على النهايات أو على «المابعديات» من طراز: ما بعد الدولة؛ ما بعد المجتمع؛ ما بعد السيادة؛ ما بعد الإيديولوجيا؛ ما بعد الصناعة... إلخ؛ فلقد بدا العالم «الجديد» الذي فتحته نهاية حقبة الحرب الباردة وانطلاقة الموجات الأولى للعولمة عالما «ما بعديـا» يتجاوز نظام الما قبل في ميادينه وتجلياته كافـة ويحدث قطيعة نهائية معه، ذاهبا إلى أفق عالمي مفتوح لا تحده حدودٌ أو تفصل بينه عوازل.
ما كان يسع مثل هذه الرواية عن الأس «الكوني» للعولمة أن تصمد طويلا، لا لأنها لم تكن قادرة على تبرير صدقيـتها من طريق تبرير مطابقة الاسم للمسمى به، فقط، بل لأن منشأ العولمة نفسه يكذبها ويكشف زيف القول بها؛ إذ ما من أحدٍ يملك أن يتجاهل نسب العولمة الأول الذي كشف عنه اقترانها بقوى عالمية ثلاث، في مطالع تسعينيات القرن العشرين؛ الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، أوروبا (خاصة ألمانيا وبريطانيا). كما أن أحدا ليس يذهل عن حقيقة نجاح دولٍ أخرى كبيرة في المنافسة على العولمة - في العقدين الماضيين - مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا، وفي إضفاء شخصيتها الثـقافية والقيمية عليها. وهذا مما يدلـنا على أن فصل العولمة عن منابتها القومية ليس بالمسلك المفضي إلى إحسان قراءة طبيعتها بما هي ظاهرةٌ أنتجتها الدولة القومية (= الدول الكبرى) تعبيرا عن ميلها إلى مجاوزة نفوذها نطاق حدودها القومية الضيقة. نحن، هنا، أمام حقيقتين ربما كانتا في أساس ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن العولمة نشأت خارج الرحاب القومية، وجسدت لحظة القطيعة بين كونيةٍ تمثلها وقومية ولجت، بالتـبعة، طور التلاشي التدريجي:
أولى الحقيقتين أن خلطا مؤكـدا حصل، داخل تلك الرواية «الكونية» عن العولمة، بين المفاعيل والنتائج الكونية للعولمة من جهة، والديناميات الدولـتية القومية التي أطلقت فعلها من مراكز قومية بينها، من جهة أخرى، فكان أن حمل المعطى الثاني التأسيسي - حملا غير مشروعٍ - على معطى كونية نتائجها، فـبدا كما لو أنها كونية المنشأ أيضا. ما يقال عن العولمة، في هذا النطاق، يقال عن كل ظاهرةٍ نظيرٍ بدأت قومية وأنجبت نتائج كونية، ومن ذلك - مثلا- ظاهرة الاستعمار. من ينكـر أن فعـل الاستعمار فعـلٌ أوروبي بامتياز، منذ الاستعمار الأوروبي للقارة الأمريكية في بدايات القرن السادس عشر وعلى امتداد القرن كله؟ من ينكر أن دولا أوروبية بعينها كانت مهدا لحركة استعمار العالم (إسپانيا، البرتغال، بريطانيا، فرنسا)، قبل أن تلتحق بها أخرى من أوروبا (إيطاليا، هولندا، ألمانيا، بلجيكا...) ومن خارج أوروبا (الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان)؟ لقد نشأت فكرته في بيئات قومية وثقافية بعينها (= في نطاق عقيدة المركزية الأوروبية)، لكن اندفاعته إلى خارج الحدود القومية وإطباقـته على بلدان القارات الأربع غير الأوروبية سرعان ما حوله إلى ظاهرة ذات نتائج كونية مست العالم برمته. هي هذه، أيضا، حال العولمة بين منطلقاتها القومية ونتائجها الكونية.
وثانيهما أن فكرة التجافي الماهوي بين القومي والكوني في العولمة ليست تصح على مراكز العولمة بل على هوامشها وأطرافها. هي لا تصح على الدول/القوميات الكبرى التي تنتج حقائق العولمة لسببٍ معلوم أن نتائج تلك العولمة تصب في رصيد تلك الدول، بل تزيد من تعظيم مواردها وقواها بما يعـزز مراكزها القومية في العالم. لذلك لا محل للقول بقطيعة العولمة مع حقبة نموذج الدول القومية الكبرى. وليست تلك حال هوامش العولمة وأطرافها من كيانات الدول الوطنية أو القومية الصغرى؛ ذلك أن هذه الدول والكيانات القومية الصغرى - أو الضعيفة - هي أول من يدفع أثمان تلك العولمة الزاحفة على داخلها الاقتصادي والسياسي الوطني، المطيحة بسياداتها، بل كثيرا ما تأتي على كيان الدولة فيها بمعاول الهدم. إن قياس العلاقة بين القومي والكوني في العولمة على مقاس حالة البلدان والوطنيات الصغرى ليس أساسا صالحا لترتيب قاعدةٍ عامة عليه وسحبها على حالات البلدان والدول والأمم كافـة.
هذا التدقيق في الحدود بين القومي والكوني في العولمة ضروري لبناء جملةٍ من الموضوعات التي يبـنى عليها تفكيرٌ دقيق في مسألة العولمة، وفي جملتها: التشديد على الإطار المرجعي القومي للعولمة؛ النظر إليها بما هي تعبير عن علاقاتٍ متغيرة بتغير موازن القوة بين الدول. هذه أسسٌ لا غنى عنها لتأسيس قراءة واقعية وتاريخية للعولمة بوصفها ظاهرة تجاذبٍ وصراع لا كما يرغب كثيرون في تقديمها في هيئةٍ قدرية ميتاتاريخية.