أفكار وآراء

الفيلم الوثائقي: قيمة معرفية وأكثر

كرمت وزارة الإعلام مؤخرا الفائزين في مهرجان تونس للإعلام العربي. تنوعت البرامج التي حصدت الجوائز في موضوعاتها وأشكالها الفنية ولكن الملفت هو حصول ثلاثة أفلام وثائقية على مراكز متقدمة في المهرجان.

هي بالتأكيد ليست المرة الأولى فلطالما كانت مشاركات السلطنة في المهرجانات العربية في مجال الإنتاج الوثائقي متميزا. المتتبع للإنتاج الوثائقي في السلطنة لن تفوته ملاحظة هذه الإمكانية الهائلة التي تتوفر لدينا والتي يمكننا استثمارها بالتأكيد بشكل أفضل.

أقول جدلا لا زال الفيلم الوثائقي «بأشكاله الكلاسيكية» يحتفظ بشريحته المهتمة من الجماهير وأقول في قراءة للواقع وما يرصده من بعض البحوث المتوفرة أن الأنماط الجديدة للنشر متمثلة في وسائل النشر الإلكتروني والأشكال الجديدة التي تهتم بالإيفاع الجذاب وبراعة تكثيف الحدث واختصاره في وقت قصير وتقنيات السرد الجديدة أعطت الأفلام الوثائقية زخما جديدا ومدت في عمرها (عمر جماهيريتها في وقت يتنبأ فيه البعض بموت أشكال وإحلال أخرى محلها) ووسعت شريحة المتابعين لها والمتأثرين بها. بل ولأن العصر الذي تلاشى فيه الفارق بين الصحفي وجمهوره ازداد عدد المشتغلين والمنتجين لهذا النوع حيث تمكن العديد من الهواة من إنتاج مواد توثيقية تضاف لهذا الإنتاج.

وربما ليس أدل على نجاح الأفلام الوثائقية وقدرتها على الاحتفاظ بجماهيريتها من وجود العديد من المهرجانات والجوائز العالمية التي تمنح سنويا للبارزين في هذا المجال. وإن كانت الأفلام الروائية هي الأكثر بروزا وحضورا وقوة في التأثير الآن فإن ذلك لم يلغ الأفلام الوثائقية من قائمة الجوائز التي تمنحها الأوسكار على سبيل المثال.

لم يعد خافيا أو أمرا قابلا للجدل أن الإعلام بإنتاجه المختلف أحد أشكال القوة الناعمة التي يمتد تأثيرها لما هو أبعد من تشكيل وتوجيه الآراء السياسية إلى التأثير على منظومة القيم والأخلاق والهويات وتحديد التبعية والهيمنة الثقافية. ورغم أنه من المنطقي القول إن القوة الناعمة تطلب شكلا من أشكال التفوق السياسي والاقتصادي والعسكري إلا أنه من الملاحظ أنه ثمة انفلات من هذه القاعدة في بعض الحالات مكنته أساليب النشر الحديث واهتمام البعض تحديدا بتعويض (الضعف إن صح القول عسكريا وسياسيا وربما اقتصاديا) بتبني أساليب أخرى للدفاع عن قضاياها أو نشر آراءها وثقافتها. ناهيك عن أن فكرة والتفوق تتدرج في مستويات مختلفة. فنحن يمكن أن نتحدث عن هيمنة عالمية إقليمية أو محلية فالقوى المختلفة تتخلق بتوازناتها الخاصة في محيطها المعنية به وفي كثير من الأحيان لا يمكن فصلها عن التكوينات الثقافية الأخرى الاجتماعية والدينية مثلا هذه أيضا تشكل متغيرات فاعلة في مدى تقبل وانتشار الرسالة التي يراد إيصالها باستخدام أحد أساليب القوى الناعمة وهنا تحديدا نتحدث عن الإعلام.

عليه يبدو الفيلم الوثائقي أحد الموارد المتاحة والتي لا تقدم المتعة فقط وقيمة فنية ومعرفية بل تصنع ما هو أكثر من ذلك إن أردنا. وبالتأكيد نحن نريد لأننا جزء من عالم يتصارع أو يتعايش ويتحد في منظومة متباينة ومتغيرة على الدوام من القيم والمعايير. ولا يمكننا أن نعبر هذا العالم مغمضي العينين عن كل ما يدور حولنا. فعلى سبيل المثال نحن جزء من هذا العالم الذي تتعالى فيه أصوات وتشتد محاولات لفرض قيم وأخلاق لا تناسبنا في سعي لتحويل العالم إلى مسخ مستنسخ وليس شهر ( الفخر/ النخر) عنا ببعيد فرسائله المباشرة والمخبأة كانت تصلنا بشتى الطرق. ونحن جزء من منظومة التحولات السياسية والاقتصادية كذلك وفي سعينا للحفاظ على هويتنا وتقديم أنفسنا لأنفسنا وللآخرين فإن الأفلام الوثائقية تتيح بجاذبيتها الجماهيرية فرصة للتوثيق والكشف والتعريف.

رغم الإنتاج المتميز ووجود كفاءات واعدة في مجال الإنتاج الوثائقي فلا يبدو أننا إلى الآن استثمرنا في هذا المجال بالدرجة الكافية لأن نشير إليه على أنه أحد الأدوات التي يمكن أن نحقق من ورائه غايات بعينها أو تبرز تميزنا وتعرف عنا حقيقة. لأن ذلك يحتاج لتخطيط استراتيجي حقيقي أن توضع موازنات وأفكار إبداعية وخطط ترويج وغيرها. ربما كان التلفزيون العماني من أوائل الذين اهتموا بالإنتاج الوثائقي في منطقة الخليج على أقل تقدير ووجود بيئة جاذبة من الموضوعات وتوفر مادة بيئية وثقافية تاريخية فنية شعبية إلى آخره يمكن أن تحول إلى أفلام ناجحة شجع هذا الاهتمام بالإضافة إلى الاعتماد عليها مبكرا كأحد طرق الترويج السياسي وتوثيق المشاريع والتطور التنموي. أظنه الأمر الذي أكسب المشتغلين في المجال بعض الخبرة الضرورية لكن ذلك لم يبن عليه أي تطوير دراماتيكي. ظل نمو القطاع متأنيا جدا ويسير ببطء لا يتناسب مع الإمكانيات الهائلة التي يمكننا التحصل عليها. وسبقتنا في حين كان يمكن أن يكون لنا السبق شبكة الجزيرة بتخصيص قناة للأفلام الوثائقية وتخصيص مهرجان والاهتمام بالمشتغلين والباحثين في هذا المجال.

أظن أنه ما زال لدينا فرصة هائلة أن نستثمر في هذا القطاع الواعد. القناة الثقافية تعد نواة يمكن البناء عليها. وجود مواهب في التصوير والكتابة والإخراج والمونتاج والجرافيكس وغيرها من التقنيات هي أحد الموارد المتوفرة بالتأكيد نحن نحتاج أن نوسع آفاق المشتغلين ليتجرؤوا في تجريب أساليب فنية جديدة ويفكروا في زوايا للطرح مختلفة. هم كذلك بحاجة للخروج من عباءة المواضيع المكررة والمستهلكة وتوسعة طرق التناول والمجالات التي يمكن أن يكون الفيلم الوثائقي فيها فاعلا ونضيف إلى الاشتغال في مواضيع الثقافة والتاريخ والتراث موضوعات سياسية بيئية اجتماعية وغيرها.

نحن بحاجة كذلك أن نفرد على الطاولة كذلك مخططات واعية لماذا نريد على مستوى القيادات وربما لاحقا على مستوى الجمعيات والأفراد والمنظومات الأهلية (التي بالضرورة ستكون لها مساراتها والتي يتوفر لها الآن إن تنبهت إمكانية الاعتماد على هذه الأداة بموازنات مالية متواضعة إن عوضت بفكر إبداعي ومهارات فنية هائلة) ماذا نريد من هذه الأداة أن تقدم لنا ونرفق ذلك بالخطط اللازمة والتقييم وخطط الترويج. لكن علينا أولا أن نقتنع أن هذا الحصان رابح. لقد جربنا لحد ما الاستثمار في الدراما وربما أقول في الفنون التشكيلة وإن كان بشكل متواضع. أظن أن الإنتاج الوثائقي يستحق الالتفات ولكن لنفعل ذلك كما يجب برؤيا واضحة وتخطيط استراتيجي لأنه التفات يفترض أنه مبني على قناعة وتبنٍ وليس على سبيل التجربة. وأظن فعلا أننا إذا قمنا بالأمر بالشكل الصحيح فإن النتائج ستكون مبهرة.