أعمدة

القرطاس والقلم

محمّد زرّوق
 
محمّد زرّوق
ماذا لو أنّ الأعمال الكُبرى التي تركها مفكّرون وأدباء أخذهم الموت ولم يتمكّنوا من نشرها في حياتهم كانت مُخزّنة في جهاز حاسوب ومحمية بكلمة سرّ وتمسّك الورثة باحترام ميّتهم وعدم العمل على فكّ المُشفّر، وترْك الأسرار لأصحابها، أو عجزوا عن فكّ رموز تشفيرها؟ ماذا لو أنّ الكتاب العظيم الذي ما زال يؤثّر في التفكير السياسي «الأمير» لميكيافيللي لم يُوجَد بعد موته في نسخة ورقية مخطوطة وغاب في غياهب كتمان الحاسوب؟ ماذا لو أنّ الأعمال التي تركها كافكا، وخاصّة منها «المحاكمة» والأعمال التي تركها همنجواي بعد مماته، وخاصّة منها المجموعة القصصيّة «الصيف الخطير»، والكتاب الذي يتناول فيه حياته «وليمة متنقلة» قد أكلتها الحواسيب، ولم تُتْرَك ورقيّا؟ أعمالٌ عديدةٌ خرجت للعالم بعد موت أصحابها، وكانت الأوراق حافظتها من الفناء والموت. صلةُ المبدع الكاتب بالورقة والقلم هي رابطةُ وجودٍ وتحقّق، فهي أدواته التي يأنس إليها ويتفاعل معها، ولذلك فإنّ الكُتّاب أوْجَدوا طُرقا ووسائط وطقوسا وعادات في التعامل مع أشياء الكتابة وخاصّة منها الورقة والقلم قبل سيادة الحواسيب، ولعلّ من أبين هذه الطقوس التي بدأت تُفْقَد آثارُها، تمزيق الورق وإلقاؤه، الشطْبُ، والمحو، وممارسة تفاعل إراديّ ولا إراديّ مع القلم ومع الورق، كلّ ذلك هو بصدد التهاوي والاستبدال، بِشاشة حاسوب ولوحة حروف، المحو فيها يسيرٌ والخطّ فيها آليّ، ولا يُمكن أن نكسر الشاشة دوما كلّما انزعجنا من فقرة أو صفحة أو مجموع صفحات، في حين كان من اليسير أن يغضب الكاتب ممّا كتب فيُفرغ شحنة غضبه في الورق، يُبعْثره، يُمزّقه، يُشعل فيه النار، يفعل فيه ما يُشفي غليله، كذلك فِعْله مع القلم، يكسره، يُقِيمه، يتخيّره، يُمارس معه طقسا صار نادرا. لقد مثّلت أدوات الكتابة عبر تاريخ الكتابة فعلَ إنشاءٍ واحتفاء. يفقد الكاتب جزءا من وجوده في علاقته بالكتابة، ويكتسبُ وجودا جديدا، هو وجود الجلوس على الشاشة، وتَيَسُّر المعلومة، التي أضحت متاحة بضغط زرّ، لهذا الأمر محاسن لا تُحصَى، وهو مكسبٌ لا تراجع عنه، ولكنّي من جيل مُخضرَم، ما زلتُ لم أتخلّص بعد من الرغبة في البحث عن المعلومة بتصفّح عدد من الموسوعات، ما زلت أرى أنّ البحث عن المعلومة بالطريقة البطيئة هو سبيل لتحصيل معارف ملقاة على قارعة الطريق، الكاتب المخضرم في ظنّي يعيش اغترابا واضطرابا، بين الورقة والقلم، الكتب وروائحها التليدة من جهة، وبين الأجهزة الذكيّة وما تقدّمه من سريع المعلومات ويسر الكتابة من جهة ثانية.

أجيالٌ من الكُتّاب كانت وما زالت تخلو إلى الكتابة مترهّبة في حرم الورقة والقلم تتعامل معهما بنوع من التآلف والقُدسيّة في حالات وبعنْف وقسوة في حالاتٍ، فمن ذلك أن محمود درويش كان في خلوته الكتابيّة، يخطّ ويشطبُ على الورق حتّى إذا ما لم يرض عمّا ورده من شعر مزّق الأوراق تمزيقا وأعاد الكرّة إلى أن يستقيم له القول، وهو ما كان يأتيه غابريال غارسيا ماركيز، ولقد تحدّث عن مراحل كتابته لروايته الحدث «مائة عام من العزلة» قائلا: «فقد كانت لدي تربية سيئة تجعلني أعتقد أن الأخطاء الطباعية أو اللغوية أو النحوية هي أخطاء إبداعية، كلما وقفت عليها كنت أمزق الورقة وأرمي بها في سلة المهملات لأبدأ من جديد. كانت مرسيدس تنفق نصف ميزانيتنا الشهرية في اقتناء أهرام من الحزم الورقية التي لا تدوم أسبوعا كاملا»، فالحصول على الورق من أجل الكتابة أو من أجل الآلة الراقنة كان يُمثّل معضلة لبعض الكُتّاب، ومع ذلك ينصرفون إلى تمزيقه في حالات التفاعل والدخول في مقام الكتابة رفضا وقبولا، غضبا وسعادة، وهذا ماركيز الذي يتحدّث عن عسر الحصول على الورق، يُمزّق فصلا كاملا من روايته «الحبّ في زمن الكوليرا»، يقول: «كنت قد بدأت هذه الرواية قبل نيلي جائزة نوبل للآداب. وأنجزت الفصل الأوّل منها. لكن للجائزة سلبياتها، ومنها إهداري سنتين بسبب ما يترتب على صاحب الجائزة من أعباء. وعندما عدت إلى الفصل الأوّل الذي كتبته، قبل سنتين، كان عليّ أن أمزق الصفحات وأبدأ من جديد». تخيُّر الورق أيضا فيه عادات، فمن الكُتّاب من كان يختار الورق المُسطّر، ومنهم من يختار حجم الورقة، ومنهم من يختار لون الورقة، ولكنّ الفعل الجامع والأساسيّ هو تكاثر الورق أمام الكاتب والقُدرة على إنهائه وإفنائه في مدد مختلفة وبحصول شعور رائع بالتدمير والتخلّص من المكتوب، لأنّ هذا الفعل التدميري يُمثّل متنفّسا وتصعيدا للكاتب له أثرٌ نفسيّ وهو يُشكّل حافزا لإعادة الكتابة على أرضيّة مُدمَّرَة. ولعلّ خير مثال على ذلك أنّ فلوبير إذا ما انقدحت له فكرة وألحّت عليه، قام فكسّر أقلامه ولفّها ووضعها تحت مخدّته ونام، وعندما يستيقظ، يأخذها ويشرع في الكتابة، وكذا التفاعل مع القلم تخيّرا لنوعه ولسُمكه وتلاعبا به وإمكان القضاء عليه في حالات الحُبْسة أو عدم الرضا.

ذاك عالم أفاض فيه العرب كُتُبا وشعرا في مدح القلم والدواة والقراطيس وبيان آثارها وطرائق التفاعل معها خاصّة في زمن ازدهار فنّ الكتابة عند العرب، ويُمكن أن نحيل للتمثيل فحسب على أبي بكر الصولي الذي توسّع في مدح أدوات الكتابة وإظهار منزلتها في وجود الكاتب، ولنا أيضا في الشعر القديم شواهدُ كُثر تبين هذه الصلة الوجودية بين الشاعر وأدوات كتابته. آلة الحاسوب بديل عمليّ، سريع، فاعليّ، عمليّ، آليّ، أعتقد أنّه بكلّ ما يُقدّمه من تيسير لفعل الكتابة، هو يُعطّل أيضا بعض العادات الجيّدة، ويعطّل الصلة الحميمة التي تجمع الكاتب بنسخته المخطوطة الأولى، نحن الآن بصدد فقدان المخطوطات، أو الآثار المكتوبة بخطّ الكاتب، وكم من عمل فقده صاحبه بسبب حركة أو تعطّل برنامج في الأجهزة الذكيّة، الأمر نفسه يجري على الصُور الفوتوغرافيّة التي بدأت تفقد هيئتها الورقيّة، وتدخل في حرم الرقميّ المُرشّح للفقدان في كلّ لحظة مهما اجتهدنا في حفظها بتنويع عمليّات التخزين، فقد يفاجئُنا العلم يوما بانهيار المنظومة الرقمية كما نشاهد في أفلام الخيال العلمي، فنصبح بلا ذاكرة. بدأنا نفقد أيضا -إلى حدّ ما- روائح الكتب والصلة بالمكتبات العامّة التي كانت مخزنا للعلاقات وللسياحة في كتب لا تبحث عنها، فأنت تدخل المكتبة العامّة باحثا عن عنوان بعينه فتُلاقيك في الأثناء عناوين وكتب تلتهمك وتطلبك إليها فتدخل عالمها رضيّا مرضيّا، ولي قناعةٌ أنّ جانبا هامّا من تكويننا يرجع إلى هذه الكتب التي وجدناها في طريقنا أذكر منها كتابين غيّرا من حياتي العلميّة، وقد وجدتهما صدفة في المكتبة العامّة بمدينة القيروان أثناء طوافي برفوف الكتب، وهما كتاب المستشرق التركي الألماني فؤاد سزكين «تاريخ التراث العربي»، وكتاب المؤرّخ والمفكّر العراقي جواد علي «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، فهل يُعوَّضُ الطواف في المكتبات العينيّة بالطواف في المكتبات الافتراضيّة والرقميّة، وهل يُستبدَل في القادم القريب الكتاب الورقي بالكتاب الرقمي، لا أعتقد ذلك، فالكتاب الرقميّ يظلّ وسيلة تيسير وهو لا يُعوّض -آنيّا على الأقلّ- الكتاب الورقي الذي يحوي سرّا خاصّا في البحث عنه وفي الحصول عليه وفي وضعه في رفوف المكتبات، وقد كان امبرتو إيكو في الحوار الذي أجرته معه جمانة حداد، الوارد في كتابها «صحبة لصوص النار» متفائلا خيرا، ومؤمنا ببقاء الكتاب الورقي، يقول: «أمّا الكتاب الإلكتروني في ذاته، أي ذاك الذي يتوجّب الاطّلاع عليه من خلال شاشة كمبيوتر، فلا حظوظ كبيرة لنجاحه في رأيي: هل تتخيّلين شخصا يقرأ «الكوميديا الإلهيّة» على شاشة كمبيوتر؟ يا للهول! الأوراق ضروريّة للتأمّل في النصّ. وماذا عن الكتب التي نحب قراءتها في السرير قبل النوم؟ أو تلك التي يحلو لنا تصفّحها في حضن كرسيّنا الهزّاز الأثير؟ لا، إنّها في رأيي مخاوف غير مبرّرة». قلتُ سابقا إنّنا من جيل مُخضرم، حائر، مغترب فعلا، ننشدّ إلى الورقي والقلميّ من جهة، ونعمل على التعوّد على شاشة حاسوب من جهة ثانية، نتعامل مع التطوّر المعلوماتي بشكل ورقي، مضحك، نجد الكتاب في نسخته الإلكترونيّة فنستخرجه ورقيّا للاطّلاع عليه، ونكتب على جهاز الحاسوب ثمّ نستخرج ما نكتب على الورق ونعود إلى القلم شطبا وإضافة وخبطا ونقصانا، إنّنا جيلٌ مُضحكٌ فعلا، الأحسن أن نظلّ في كهفنا الورقيّ صحبة روائح الكتب العطرة بذاكرتنا الورقيّة في انتظار حلول جيل ذاكرته في شبكةٍ رقميّة لا أمان ولا أمن فيها، وبالنسبة إلى إيكو، نعم، الجيل القادم يُمكن أن يقرأ «الكوميديا الإلهية» على شاشة لوحة كمبيوتر، ويمكن أن يستعملها في سريره وعلى كرسيّه الهزّاز عندما يشيخ.