أفكار وآراء

الزمن الاجتماعي.. فريسة مقايضات مختلفة

يحل الزمن الاجتماعي كأحد أهم المكتسبات المهمة لحياتنا الاجتماعية، وهو المسافة الزمنية من العمر المتاح لأي إنسان؛ في فرديته، وفي مجموعه، وبالتالي؛ فيفترض؛ أن لا تكون هناك قوة مباشرة تستطيع أن تحجم من هذا العمر، لبناء مصالحها الخاصة دون أن يكون هناك عائد للزمن المهدر، صحيح أن كل منا يملك زمنه الاجتماعي الخاص به، والذي لا يزاحمه عليه أحد؛ أبدا؛ كما يفترض، فمن هو الذي له القدرة على سرقة جزء من هذا الزمن بدون مقاومة منا؟ إن حدث ذلك فإن هناك ثغرة إسقاط، يتحملها الجميع، لأن هذا الزمن هو عامل مشترك يتقاسمه الجميع، فإن حصل أحتفاء بالمحافظة عليه، فذلك عائد خيره إلى الجميع، وإن حدثت مقايضة فيه؛ فذلك أيضا وزر يتحمله الجميع، والمقايضة هنا؛ يفترض؛ أن يكون هناك مقابل لإسقاط زمننا الاجتماعي في مستنقع الربح والخسارة، ولكن الذي يحدث أكثر أن نرجع بعد كل سرقة زمننا الاجتماعي بخفي حنين، فلا نحن 'أطلنا بلح الشام ولا عنب اليمن'صحيح؛ أننا نملك زمننا الاجتماعي في اجتماعاتنا، وفي تجمعاتنا، في إلتفافتنا وفي تكورنا، في لماتنا وفي تقاربنا، حيث نقايض بزمننا مجموعة من المكاسب الاجتماعية: مؤازرة، صلح، تعاون، مواساة، دعم، احتفاء بأمر ما، تعاون، ونجعل ذلك الوقت الـ 'مهدر' صدقة لأعمارنا التي انسلت منها في تلك اللحظات دقائق لا يمكن تعويضها بأي حال من الأحوال، وهكذا نستمرئ تكرار تقليص أعمارنا الاجتماعية لصالح المجموع، ونعيش مطمئنين أن ما هرقناه من زمن على أرصفة هذه التماثلات الاجتماعية؛ هو في صالح الجماعة، وفي صالح جميع القضايا الاجتماعية التي اندمجنا واقتنعنا بأهميتها، تقول الدكتورة نعيمة المدني – أستاذة علم الاجتماع والأنثربولوجيا بجامعة القاضي عياض بمراكش: 'التعامل مع الزمن كمعطى كيفي وليس كمي، أو جعل كمية الزمن للرفع من كيفيته، حيث أثبتت الدراسات أنه يحصل هدر كبير للزمن في العادة لأننا لا نرصد لمهامنا أو تحركاتنا وقتا محددا بدقة، وأعتقد أن زمن الحجر الصحي - (الإشارة هنا إلى جائحة كورونا) - هو تمرين حقيقي في حياتنا من أجل الاستعمال الأمثل للزمن كمورد اجتماعي ثمين'- وفق: (https://www.aljazeera.net/author/naimaelmadani)

عندما يتم الاحتكام على أهمية أن يكون هناك زمن اجتماعي خاص لكل فرد، أو مجموعة، فإنه في المقابل يجب أن لا يتم استغلال هذا الزمن دون مقابل مادي، أو معنوي، ويكون هذا الاستغلال متفق على توظيفه بما يخدم جميع الأطراف، وإلا عد ذلك سرقة مباشرة مع سبق الإصرار والترصد، وعندها لا يجب السكوت عن المطالبة بحق استرداد الزمن المسلوب، ولأن المطالبة باسترداده من المستحيلات، فإن الضرورة تقتضي أن يكون هناك تقنين في مختلف المشاريع الاجتماعية التي يراق فيها الزمن الاجتماعي، وهذا التقنين لن يكون مبادرة من فرد دون آخر، وإنما يقتضي الأمر أن تكون هناك رؤية اجتماعية شاملة، وهذه الرؤية ليس يسيرا تحققها إلا من خلال البناءات الأولى للتربية، حتى تحضر على الواقع وهي ثقافة مجتمع تربى عليها منذ الصغر، وهذا أمر مقدور عليه إذا توافقت الرؤى، وتعاضدت الهمم، حيث تكون الطفولة مرتع النشأة الأولى لكل القيم الإنسانية، ومنها قيمة المحافظة على الزمن الاجتماعي، الذي يعاني اليوم مشقة المحافظة عليه، فلكل يهدر وقته سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى الجمعي، ولأن حديثنا هنا عن المجموع فـ 'الزمن الاجتماعي' هو ما يتشكل من خلاله هذا المجموع، يتشكل في ممارساته اليومية، بدءا من المنزل، مرورا بالمؤسسة؛ أيا كانت صفتها؛ وصولا إلى الميدان الاجتماعي الكبير، الذي تمارس فيه جميع المقايضات، وإن كان جل هذه المقايضات غير عادلة، فما يتعرض له الزمن الاجتماعي من هدر، لا يكافئه إطلاقا العائد الاستثماري المتوقع؛ وهذه إشكالية موضوعية في العلاقة مع الزمن بشكل عام، والزمن الاجتماعي بشكل خاص.

يمكن النظر إلى أهمية الزمن الاجتماعي من خلال ما يتيحه للفرد في حالته الخاصة من القدرة على توظيفه، والحرية في توزيعه؛ وعدم منازعة الآخرين له على أنهم جزء من منظومته الاجتماعية، لأن في كل هذه الحالات هناك زمن متاح لكل فرد ينفقه في أي شيء يشاء دون ضغوط، ولأن هذا هو الفهم السائد لتوزيع الزمن، ولذلك يلحظ أنه عندما تعقد اتفاقا مع فرد من الناس على موعد زمني معين يتحول الزمن هنا إلى زمن اجتماعي، وبالتالي يستلزم الأمر المحافظة عليه من الجميع، ومعنى ذلك فإن أي طرف يخل بما تم التعاقد حوله، عليه أن يدفع ثمن هذا الإخلال، وإلا أصبحت الحياة أمرا مشاعا لا قيود في التحكم على جزئياته المختلفة، ومنها هذا الزمن المستقطع من العمر الاجتماعي، وهذه الصورة الأخيرة هي السائدة في التعامل مع الزمن الاجتماعي، فكثير لا يحسب لهذا الزمن قيمته، وتسقط المقايضة هنا في أن فلان على الطرف الآخر هو صديق، أو أخ، أو تجمعني به مصلحة ما، وبالتالي هو سيتفهم موقفي إن تأخرت عن الموعد المتفق عليه، والخسارة الكبرى عندما تجد هذا النوع من المقايضات في المؤسسات الرسمية التي تهدر فيها وقتك دون حول منك ولا قوة، فأنت ضمن طرف طالب خدمة، وهو طرف ضعيف، والموظف في طرف المقدم الخدمة؛ وهو طرف قوي، وبالتالي تكون المقايضة هنا في حكم الخسران، فأنت طالب الخدمة خسارة مضاعفة للزمن الذي تهدره دون نتيجة مباشرة، وللمسافة التي تقطعها من مكان سكنك إلى الجهة المقدمة للخدمة، ولحرق الأعصاب الذي تتعرض له من موظف لا يعي مسؤوليته الوطنية والإنسانية على حد سواء، وذات الأمر ينطبق عندما نتحلق حول الشاشة المرئية لنتابع حدثا ما هناك أكثر من طرف يستقطع منا زمننا الاجتماعي الذي اخترنا توظيفه في هذه اللحظات بإرادتنا، فما هو العائد الخاص بنا، من هذه الأطراف المستفيدة منا، فتكاد المحصلة صفرا؛ إلا لحظة الاستمتاع أو المعرفة، فقط، بينما تنصب كل العوائد لصاحب الرسالة، وصاحب الإعلان التجاري، وللقناة، وما بين هذه الأطراف الثلاثة الأخيرة مجموعة من المقايضات، والمكاسب، والمصالح المتبادلة، وقد تكون هناك أطراف أخرى تعيش في الظل، تسترزق من هذه المنظومة كلها.

في عالمنا الممتد هناك شعوب لا تقيم وزنا للزمن الاجتماعي، بل وتنظر إليه كحالة عادية، يمكن تعويضها في مسار تفاوضي آخر، ونقول بملء أفواهنا: 'غدا سنعوض ما فات' ولذلك تسقط مكتسبات مهمة في قائمة حياتنا اليومية، حيث كانت متاحة بالأمس قبل اليوم، بينما؛ في المقابل؛ هناك شعوب أخرى لا تتنازل عن أزمنتها الاجتماعية، وتحرص كثيرا أن تستغل كل أوقاتها، وتقدره ذلك بأثمان مقبوضة، ونطلق عليها – جهلا - شعوبا مادية مطلقة، ومن وعيها هذا بأهمية زمنها المتاح؛ تنجز، وتُعَظِّمْ من مكتسباتها المادية والمعنوية، بل قد نتخذها مثالا، ونباهي بمواقفها وما أنجزته، وكان بمقدورنا تحقيق ذلك، فقط؛ لو انتبهنا قليلا لحجم الخسائر المهدرة جراء ثقافتنا الاجتماعية، التي لم تضع لزمن أفرادها وزنا ذا قيمة، ولا تحرص على مقايضة زمنها الـ 'مهدر' بما يسمو بمكانة هذا الزمن وأهميته، وضرورياته الحتمية بصورة مستمرة.

عندما نقول: 'يسقط الزمن الاجتماعي فريسة مقايضات' فإننا بذلك نعلن عن خسائر، وعن ممارسات خاطئة، وعن سلوكيات ليست بذلك الأمر المهم لكي تبقى، وعن توظيف قناعات مغلوطة في فهمها، وفي توظيفها، وفي مآلات الاستمرار فيها، ومعنى هذا يستلزم الأمر مراجعة مستمرة؛ لكل ذلك، ومقارنة ما هو مكتسب مقابل التموضعات الاجتماعية كلها، والفرد منا غير معذور في تجاوز مظان الأخطاء التي يقع فيها، لأنه – قربت المدة أو بعدت – فهناك محاسبة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره؛ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره' – الآيتان (8-9) سورة الزلزلة.