أعمدة

أنساغ.. أيجب أن نحلم؟

عبدالله حبيب
 
عبدالله حبيب
(1)

في هذا الحين (والحنين) من العمر صرت أخاف الشَّخص (النَّص لم يعد مخيفا).

أخاف الشَّخص لأنه قد يتخلَّص من الخوف.

وبهذا ستحدث الكارثة من جديد في ما لا قِبَل لي به، وسأقبله.

(2)

قد يكتب أحدهم كتابا ليس تيقُّنا كاملا بأن في الكتاب أهميَّة، بل لأن ذلك الكاتب يستشعر بؤس كتبٍ أخرى.

(3)

الكتابة محض تمويه (لكن الكارثة الأكبر هي أن ذلك التمويه يخصُّ الكاتب أكثر مما يعني القارئ، وذلك مهما حاول القارئ أن يشمِّر عن ساعديه، أو أن يحتسي قارورة من أردأ أنواع الويسكي أو أفخر أنواع الفلسفة).

القارئ سيأتي لاحقا (دوما، لاحقا).

(4)

الرِّفاق مُنْحَدَرٌ غير ضروري، خطيئة أخرى، على الطريق الطويل والمقفر المُعَبَّد بذكرياتهم الرَّكيكة والبائسة. هم انزلاق ليس سببه الوحيد فشل فريق الاستطلاع (تأتي الطَّلقات الأخيرة دوما من فطرة الثِّقة وموهبة السَّذاجة)، ولا أحد يعرف الشُّهداء الذين لا يزالون في قيد الحياة.

لقد كان الرِّفاق رفاقا، ولم يعد الرِّفاق رفاقا (وهذا كل شيء، ببساطة، فحسب).

لقد كان الرِّفاق مُنْحَدَرَا ضروريّا، لبالغ الأسف، وعاتي الهزيمة، وضرورة الصَّيرورة، وذلك كي يصبح الحديث عن الذِّكريات ضربا من ضروب الهزيمة والموت في التَّأجيلات.

لقد كان الرِّفاق رفاقا، فحسب.

(5)

'الحقيقة' موضوع للبحث العلمي وأنابيب ودوارق المختبرات فحسب (يمكن للشُّعراء أن يأتوا لاحقا حين، كعادتهم، لا حاجة لهم سوى من باب برهنة الاعتذار والإنذار).

يقول العلماء إن القمر يبتعد عن الأرض بمقدار أربعة سنتيمترات في كل عام.

الحقيقة أقل من أربعة سنتيمترات في كل شهقة (للعلماء والشُّعراء معا).

(6)

في مقتلة السِّتينيات والسَّبعينيات من القرن البائد كانوا كلابا تأكل من فُتات مائدة القاتل. وكانوا نجوماً تقطر دما.

في العقد الثاني من الألفية الجديدة صاروا ينهشون ذاكرة المقتول كالكلاب كذلك، كي يظلوا نجوما أيضا.

لا فائدة تُرجى أبدا منهم، ولا خير في تلك البلاد.

(7)

عمَّا قليل، سندفن صديقا آخر. أما من لم يدفنه منا أصدقاؤه حتى الآن

فسيدفنونه في ليلة صامتة كهذه، أو ذات صباح ممطر وكئيب.

إلى متى سيستطيعنا هذا؟

(8)

أفاق السَّيد. تقدم إلى الطَّاولة. جلس على الكرسي. فتح ملف الاجتماع المهم. رنَّ جرس هاتفه. لم يردَّ على المكالمة لأن السيد كان قد مات.

(9)

أسترسلُ في الذكريات (فقط لأعيد التأكد من أنها لم تحدث بالطريقة التي أستحضرها بها).

(10)

معاناة كل ما يحدث بعد الخروج من الرَّحم مما لا يعرف الفَرْجُ عنه أي شيء (على ذلك أن يكون من آثام المضاجعة ومآزق الوجود).

(11)

المرأة التي تدخل وترمي عَرَقها وشالها على حافة السرير والأيام وتقول: 'أنا متعبة' تجعل الصَّخر في كل الطُّيور، والرِّيش في كل الجبال.

(12)

الليل خصمي اللدود، الليل عدوُّي الوحيد (أما النهار فهو واضح بما فيه الكفاية للجميع).

(13)

تتسبَّبُ الخمرة في أن تكون الحياة شعورا أفقيَّا، واستعادات مُتَنمِّلة، ووهما لذيذا يتمدَّد كما الطَّحالب حتى في استدعاء المآسي. وهذا بالضَّبط ما يفعله الماء أيضا.

لا الخمرة ولا الماء يقنعانني بما فيه الكفاية من الآن فصاعدا.

(14)

كان ينبغي حذف هدف 'السَّعادة' من دستور المشروع الاشتراكي (لأن 'السَّعادة' واردة في الدستور الأمريكي أيضا، ولأن السعادة -أو الشَّقاء- قَدَرٌ شخصي).

كان ينبغي الإبقاء على 'العدالة' و'الحريَّة' فقط (لا داعي للمبالغات الفضفاضة).

(15)

'الفيسبوك' تمييع، 'التويتر' (بشعاره القديم والجديد الذي أعمى بصر النَّاس في سان فرانسسْكو) تمييع، 'الوتساب' تمييع، 'الإنستجرام' تمييع، 'السنابات' تمييع، 'الثردز' تمييع.

وقبل اختراع جميع تلك الأشياء كان روبير بريسون قد كتب: 'السينما، الراديو، التلفزيون، المجلَّات، مدرسة للغفلة: الناس ينظرون من غير أن يبصروا، يستمعون من غير أن يسمعوا' (ملاحظات في السينماتوغرافيا).

(16)

دوما يحدث هذا بلا أي داع في الأصل أو التكرار: الصَّلاة على الجثمان، ثم يأتي أناس أشدَّاء، ووجوههم قمطريرا ومكفهرَّة، يتدافعون في التنافس تقريبا وهم يحملون النعش. ويصير علينا أن نشكِّل موكبا في الطريق إلى المقبرة ونحن نبسمل ونحوقل في ذهول مصطنع.

منذ صباي (حيث كان كل شيء يحتِّم علي المسير في الجنائز) لم أقتنع أبدا بكل ما يحدث لأسباب منها أن الميت لا يريد كل ذلك التَّشويش والبَلْبَلة؛ فكل ما يرغبه هو أن يكون وحيدا بلا إزعاج.

أنا لا أريد أن يزعجني أي أحد (أخيرا).

(17)

في هذا الهزيع من العمر صرت حين البدء في مشاهدة فيلم روائي أنسى ذلك الذي يسمونه 'النقد'؛ فأشعر بالحريَّة، والسَّذاجة، والتَّقمُّص، والهواء، والأسماك، والأعشاب (من قال أن 'الواقعيَّة' واقعيَّة بما فيه الكفاية)؟

النَّقد هو أسوأ ما حدث لنا بعد الخروج من الغابة (النَّقد هو الذي أخرجنا من الغابة، وقد يعيدنا إليها).

(18)

أنتِ عاصفة تتبرعم في حزن هادئ، وخجول، ونبيل (كما في قولنا عن شيء من موسيقى عمر خيرت على طريق جبلي في وقت الغروب).

(19)

أيجب أن نحلم؟

الشَّخص الذي يوجِّه هذا السؤال هو لينين (الذي ينسى البعض أنه كان حالما كبيرا -حتَّى، بل خاصَّة- عندما كان يقود النضَّال في أقبية العمل السِّري الذي أفضى إلى ثورة 1917).

أيجب أن نحلم؟ نعم. هكذا يجيب لينين الذي وجَّه السُّؤال إلى نفسه أولا قبل أن ينشد الإجابة لنفسه وللآخرين، ولا ينبغي الاستخفاف بأحلامه ليس في ذاكرة ما مضى فحسب، بل خاصة في خضم حقائق اليوم المفزعة من تناقص الأرغفة والأمصال، وتزايد المليارات والبحار الخاصَّة (وكلُّنا، في الوقت نفسه، بِحِلٍّ من تلك المأساة الفظيعة التي حدثت في الاتحاد السوفييتي السَّابق: أعني، ظاهرة 'عبادة الفرد').