أفكار وآراء

الأمن الغذائي العماني في ضوء سيناريوهات عالمية مقلقة

لن نتعمق في السيناريوهات المقلقة بشأن الأمن الغذائي العالمي في ضوء ما تقوله تقارير دولية إن العالم بعيد كل البعد عن القضاء على الجوع عام 2030، ولن ننسى عام 2022 الذي عانى فيه «735» مليون شخص من الجوع، و«204» مليارات شخص لم يحصلوا على الغذاء بصورة منتظمة، و«148» مليون طفل عانوا من توقف النمو، و«42%» من سكان العالم عجزوا عن تحمل تكلفة الغذاء... الخ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وأزمات مناخية، في وقت يتوقع أن تنخفض المنتجات الزراعية العام الحالي 2023 بنسبة 5%، ويتوقع كذلك ارتفاع الأسعار حتى عام 2024.

وستظل التوترات الجيوسياسية وأزمات المناخ تهدد الأمن الغذائي، وستتعاظم التوترات في النظام العالمي الجديد على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها. ولعل تعليق موسكو اتفاقها للحبوب مع أوكرانيا أحدث نموذجا للتوترات الجيوسياسية، وسيكون له انعكاسات خطيرة على الأمن الغذائي العالمي، وكان هذا الاتفاق قد ساهم عام 2022 في تخفيف حدة أزمة الغذاء العالمي عبر فتح باب التصدير للحبوب الأوكرانية، وهذه الأخيرة واحدة من أكبر موردي الحبوب، حيث يعتمد 400 مليون شخص في العالم على الحبوب الأوكرانية وتتوزع وفقا لأرقام برنامج الغذاء العالمي على النحو الآتي: 40% إلى أوروبا، و30% إلى آسيا، و13% إلى تركيا، و12% إلى إفريقيا، و5% للشرق الأوسط، ولنا أن نتصور لو لم تتراجع موسكو عن قرارها؟.

ومما تقدم يعني بالنسبة لسلطنة عمان أن تطبيق استراتيجية أمنها الغذائي أولوية الأولويات الوطنية، وتتوفر لها كل مقومات النجاح، ممثلة في: إرادة سياسية عليا، وذراع استثماري قوي، ومزارعين وشركات زراعية يبنى عليها في ظل أراض زراعية شاسعة ومنتشرة على طول مساحة البلاد البالغة 309،501 كم2، وهي بذلك تكون ثالث أكبر دولة في شبه الجزيرة العربية، وآخر سنتين قدم المزارع العماني المثالية الرائعة التي تذهب بنا إلى الرهان على تحقيق الأمن الغذائي العماني ذاتيا، وجعل سلطنة عمان سلة غذاء الخليج، وهذه المسألة قد أصبحت تتصدر الاهتمامات السياسية العمانية بعد أن اعتبرت قطاع الزراعة والثروة السمكية ضمن خمسة قطاعات تحظى باهتمامات رؤية عمان 2040 كمصادر بديلة عن النفط والغاز.

وهنا يمكن أن نقدم مجموعة استدلالات على الاهتمام السياسي بملف الأمن الغذائي، أحدثها، دعم إنتاج القمح المحلي بنحو خمسة ملايين ريال حتى 2027، وتخصيص أراض للانتفاع في بعض المحافظات، وإبرام عدة اتفاقيات في مختلف ولايات ومحافظات السلطنة كمحافظة البريمي وعقود لزراعة القمح والخضروات، وفي محافظة الظاهرة عقود لزراعة القمح كذلك، وفي محافظة الظاهرة عقود لزراعة الخضروات والفواكه وتربية المواشي.. الخ، وذلك بهدف التوسع في زراعة المنتوجات الزراعية والحيوانية.. الخ، ويأتي القمح من بين أهم الاستهدافات، وتستهلك سلطنة عمان منه ما يتراوح بين 325 ألف طن إلى 350 ألف طن سنويا، وتستهدف سلطنة عمان إنتاج 10% منه محليا.

وفي ضوء هذه التوجهات، أصبح هناك إقبال كبير للمزارعين على الإنتاج، خاصة في ضوء استقبال شركة مطاحن عمان الإنتاج بسعر جيد، مما سيحسن من دخل المزارع العماني، واستدامة الإنتاج، وأكدت الشركة أنها قامت حتى الآن باستلام ما يقارب خمسة آلاف طن من القمح العماني من المزارعين، وقد بعثت الشركة برسالة مهمة للمزارعين، مفادها أن الشركة ستستمر في خططها لشراء القمح من المزارعين خلال السنوات القادمة وتطويره، وطرحه كمنتج في الأسواق المحلية والإقليمية، مشيرة إلى أن القمح العماني يحظى بقبول لدى المستهلكين لجودته العالية.

وتستوقفنا هنا الفترة الزمنية المحددة لدعم القمح العماني حتى 2027، وهي فترة يمكن أن نطلق عليها بأنها مرحلة دعم رفع إنتاج القمح، فهذه فترة زمنية متوسطة الأجل سترسخ توجه المزارعين نحو الإنتاج، وتثبت أقدامهم فيه، ومن خلاله سيكتسب المنتج العماني «القمح» سمعته الإقليمية التنافسية خاصة وأن الوزارة تقدم تقاوي القمح عالي الجودة للمزارعين، وفي هذا الموسم قدمت «30» طنا.

وهنا ينبغي أن نفتح قضية الشروط اللازمة لقبول المنتجات من المزارعين، وبالذات القمح، فمثلا، أن يكون مالك المزرعة أو المنتفع لديه سند ملكية ورسم مساحي للأرض الزراعية وحق انتفاع.. الخ، وحتى الآن لم تحسم هذه القضايا في النجد في محافظة ظفار، ورغم الانتهاء من حصر المزارع ومساحاتها، إلا أن اللجنة المشكلة من مختلف الجهات الحكومية لم تنته من هذا الملف، ولا يزال الفكر لم ينفتح على المزارعين الجادين في النجد رغم أن بصمتهم الزراعية في المكان الصحراوي المعقد جدا واضحة شكلا على الواقع وإنتاجا في أسواقنا المحلية.

وعلمنا عن تشكيل لجنة حكومية مهمتها تسوية المخالفات في كل المحافظات، ومنحت صلاحية التسوية من خلال شرعنة الواقع كما هو في الميدان، واستصدار الملكيات وهذا ينم عن رغبة عليا في إغلاق هذا الملف المثير، لكن، هذه الآلية لو طبقت حرفيا على المزارع في النجد، فلن تخدم قضية الجادين فيه، فهناك مساحات زراعية موسمية، فالمزارع ينتقل في زراعته من فدان إلى آخر بعد كل موسم زراعي لدواعي إراحة التربة، وعندما يتم حصر المساحة الزراعية وفق معيار «شرعنة الواقع» فإن المساحة الزراعية التي منحت راحة لموسم كامل لن يعتد بها للمزارع، ومن ثم سيؤثر ذلك على مستقبل إنتاجه، وعلى طموحاته التي أنفق عليها الأموال من البنوك للانتفاع منها، ومن ثم مساهمته في الأمن الغذائي لبلاده، وهو الذي - أي المزارع الجاد - قد كشف أهمية الزراعة في النجد، وانكشفت إمكانيات النجد عن طريقه قبل أن تتوجه إليه الاستثمارات الحكومية، بل كان موجها لبوصلتها، لذلك فإن معلومة المساحة الموسمية، مهمة جدا، وينبغي أن تكون معلومة بالضرورة للجنة، ولا يمكن أن نقول في المقابل إن المزارعين الآخرين غير جادين، وإنما ينتظرون دخول التيار الكهربائي لمزارعهم، فتكلفة الديزل عالية جدا، كما أنه لا يمكن إدخال الكهرباء دون ملكيات أو حق انتفاع.

كما تدفع بنا قوة الزخم السياسي لأمننا الغذائي إلى المطالبة بإعادة النظر في رسوم الانتفاع في النجد الزراعية، ذلك أن «50» ريالا للفدان مع سعر الكهرباء المرتفع، يثقل الأعباء على المزارعين الذين يواجهون بإمكانياتهم المحدودة الظروف المناخية الصحراوية المتقلبة، وبعد المسافة عن صلالة، والتكاليف المرتفعة بسبب كل ذلك، لذلك لابد من إيجاد معايير تميزهم وتنصفهم للرهانات الوطنية على المزارعين في تكاملية لا غنى عنها مع الشركات الزراعية الحكومية والخاصة، خاصة أن إنتاج المزارعين في النجد الواعدة قد أصبحت ملموسة في الأسواق.

وقد بلغ الإنتاج الكلي فيها لعدد «25» مزرعة فقط لموسم 2022 / 2023 من الخضار «50.250» ألف طن، وقد كانت الإنتاجية قبل ثلاث سنوات تقدر «27» ألف طن، أي بزيادة تصل إلى 80% تقريبا، أما إنتاجية محصول القمح في مزارع النجد لموسم 2022/ 2023 فقد بلغ «5940» طنا، من «81» مزرعة، بمساحة «5112» فدانا، وبلغت مدة الحصاد «77» يوما، وهنا ينبغي الرهان على المزارعين عوضا عن الشركات وحدها، وهذه الثنائية ضمانة للديمومة، بدلا من أن يكون الخيار مركزا على الشركات فقط، وهي التي تتأثر أكثر بالأزمات المالية والجيوسياسية، مما يصبح المزارع العادي خيارا استراتيجيا مستداما ماليا للحكومة والمجتمع.

وكنا متفائلين بإقامة مكتب تطوير النجد الزراعي، لكنه لم يستمر ذلك طويلا، وهو الذي أنيط بعاتقه إحداث النهضة الزراعية في النجد - إنتاجا وتسويقا - وهنا ندعو إلى دراسة الأسباب، والإسراع في حالها، وربما الحاجة تقتضي تحويله إلى هيئة زراعية مستقلة على غرار الهيئات الاقتصادية، وكامل دواعيها تحتمها الرهانات على النجد لاستدامة الأمن الغذائي العماني في ضوء ما أشرنا إليه من سيناريوهات عالمية مقلقة، لم تترك لسلطنة عمان من خيار سوى ضمان الحدود الآمنة لأمنها الغذائي محليا، والتفكير في امتداد الضمان للسلال الغذائية الخليجية.