العصر الرقمي ديانة جديدة أم كارثة؟
الأربعاء / 7 / محرم / 1445 هـ - 11:27 - الأربعاء 26 يوليو 2023 11:27
لا أحد بوسعه اليوم أن يفلت من قبضة الرقميّ الذي يحاصرنا في كلّ مكان. إنّنا نودع فوق سطوحه كلّ أشكال غسيلنا وأسرارنا الحميمة، ونوكل إليه صناعة ذاكراتنا ونتوسّله كلّ لحظة لكي يحرّرنا من جهلنا حول أشيائنا الصغيرة، حول أجسادنا وأمراضنا والفيروسات الجديدة التي تهدّدنا، حول العالم الكبير، وحياة الكسموس وحكاية الثقوب السوداء والخريطة الجديدة للسماء..وحين يأتي المساء نختلي بحواسيبنا أو هواتفنا كي نقضّي معها معظم أوقات راحتنا.. نتواصل مع حبيب أو وليد..نتقاسم قصائدنا وخواطرنا وتفاهاتنا وصورنا وحكاياتنا ونجاحاتنا وموتاتنا على صدر العالم الرقمي.. ما أرحب ذاك الصدر فهو يتّسع للحمقى والمغفّلين والعظماء والتافهين والمتألّمين والمتطفّلين والمشعوذين أيضا..على صدر شبكات التواصل نسقط دولا ونتمرّد على الجلاّدين والفاشيين والطغاة..وعلى صدر العالم الرقمي ينام العشّاق على حلم أجمل أو على فراق..وبين تضاريسه الافتراضية تولد السياسات والمؤامرات وتُحاك اللوبيات..هناك تتمّ سرقة المعطيات وتصبح الذوات متاحة ومباحة..وتنتهي أسطورة الأسرار ومساحة الشخصيّ جدّا..وتتقلّص المسافات والمساحات..وتسقط الفواصل الجغرافية بين البشر..والزمان أيضا يتّخذ إيقاعا جديدا..لقد أنهى الرقمي العائلة التقليدية، وصارت عائلتنا هي أصدقاؤنا الافتراضيون..وتخلى عنّا أبناؤنا من أجل قصصهم الافتراضية وعلاقاتهم الرقمية.. لا أحد منّا يوجد وحيدا لكن لا أحد يوجد فعلا مع الآخرين أيضا..كلّ الأنظمة الرمزيّة تبعثرت..ما الذي يحدث لنا ؟ سحر أم لعنة أم وعد جديد؟ وفي خضمّ هذا الضباب المفهومي والسحر الفاتن للعالم الرقمي الذي منحنا مساحات جديدة للحياة والتعبير والحبّ والحلم وتقاسم الألم والخبر والمعلومة تولد أسئلة جديدة: هل انتهى العالم الواقعي؟ وما الفاصل الجديد بين الواقع والخيال ؟ هل العصر الرقمي الذي دخلته الإنسانية بلا رجعة دين جديد أم هو كارثة يجعل الآلة تسطو على صناعة الذكاء وتعوّض ذاكرة البشر بذاكرات رقمية رهينة الأمن السيبرني؟
يقول شارل بودلير: «ما دامت المخيلة قد صنعت العالم فإنّها تحكمه». لكن على أيّ نحو ستحكم المخيّلة العالم اليوم؟ قديما كانت المخيّلة تحكم العالم وفق أمزجة الملوك أمّا اليوم فالمخيّلة خلقت عوالم جديدة لم يكن في وسع أيّ ملك أو فيلسوف قديم أن يتوقّعها. لقد اخترعت المخيّلة في عصرنا عوالم افتراضية لا تشبه أيّ صورة تقليدية نحملها عن العالم الذي تخيّلناه دوما واحدا وقد تمّ تصميمه كأجمل العوالم الممكنة. أيّ نمط كينونة يمكن أن نقارب وفقه العوالم الرقمية أو الافتراضية؟ هل تنتمي هذه العوالم إلى ثنائية الخيالي والواقعي؟ أم هي نمط مغاير من الوجود؟ ما هو مستقبل العالم بعد الثورة الرقمية؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نعتمد على مقاربة طريفة لكينونة الرقمي نجدها في كتاب للفيلسوف الفرنسي ستيفان فايل تحت عنوان الكينونة والشاشة، كيف يغيّر الرقمي الإدراك (2013).
من أجل التأريخ لظهور المفهوم نلخّص أهم اللحظات الحاسمة التي نختزلها في التواريخ التالية: انطلاقا من ثلاثينات القرن الماضي اخترع عالم الرياضيات الانجليزي ألان تورينغ آلة حاسبة قادرة على إنجاز عمليات حسابية هائلة هي نوع من الحاسبة الكونية القادرة على البرمجة وهي بمثابة التمثّل الأوّلي للحاسوب. وفي سنة 1943 تمّ تصميم أوّل حاسوب عملاق تمّ استعماله من أجل صناعة قنبلة. وفي سنة 1947 ظهر مفهوم السيبرنيطيقا على يد الرياضي الأمريكي نوربارت واينر والتي تعني علم ميكانيزمات التواصل والمراقبة والآلات والأنساق المعلوماتية المنظّمة. وفي سنة 1950 ظهرت الصور الإلكترونية الأولى وتمّ اختراع الغرفة السوداء سنة 1959 من طرف وولف فوستال المصمّم لأوّل عمل فني قائم على الصور الإلكترونية وعلى البرمجة الغرافية. وفي سنة 1963 اخترع دوغلاس انغلبارت أوّل فأرة. وفي سنة 1976 ظهر الحاسوب ماكينتوش آبل، وفي سنة 1981 تمّ تسويق الحواسيب من طرف شركة أ.ب.م....وفي تسعينات القرن الماضي ظهرت الأنترنت وفي عام 2000 شهد العالم نموّا مذهلا للرقمنة عبر الإنترنت والرسائل الإلكترونية وواجهات الحاسوب وبدأت الرقمنة تغزو كلّ المجالات الحيوية للبشر. يكتب أستاذ الفلسفة الفرنسي ستيفان فيال في كتابه «الكينونة والشاشة» ما يلي: «الإنترنت هو في نظر بعضهم دين جديد. لكن، رجاء لا نُشيّدنّ لأنفسنا أوثانا جديدة..». والسؤال الذي بوسعنا طرحه حينئذ هو التالي: انطلاقا من أي نمط من السلوك النظري يمكن مقاربة الثورة الرقمية؟ ضدّ المواقف الانفعالية القائمة على ضرب من «كراهية التقنية» الشبيه بالشعارات اللاهوتية والبكائيات على موت الإنسان وخطورة التكنولوجيا على مصيره، علينا افتراع موقف نقدي استشرافي معا...فأنترنات التي تسم العصر الرقمي ليست دينا جديدا بالمعنى التبشيري وليست أيضا كارثة تهدد إنسانية الإنسان كما يحلو لبعض المتشائمين القول..فهي ليست دينا جديدا لأنّها ليست فاعلا مباشرا بل هي مجرّد وسيط خوارزمي أو هي مجرّد تجميع على درجة عليا من التعقيد والتشابك لجملة من الفاعلين الإنسانيين والمهارات التكنولوجية والخوارزميات والبرمجيات..الرقمي هو عمليات حسابية ومسارات وهندسات لمعطيات وقرارات وفرضيات علمية يجري اختبارها وتسجيلها وحفظها عبر برامج للأمن الرقمي..نحن إزاء كينونة معقّدة قائمة على خرائط وهندسات جديدة للزمان والمكان والمعارف والمشاعر أيضا.
ورغم أنّ المبرمج هو الإنسان فإنّ الثورة الرقمية قد أحدثت تحوّلات جوهرية في نمط إدراكنا للعالم، يتعلق الأمر بظهور «ابستمية جديدة» وليس بمجرّد اختراع تكنولوجي في تاريخ التقنيات. وفي هذا السياق تتنزّل أطروحة كتاب الكينونة والشاشة بحيث يعتبر ستيفان فيال أنّ «هذه الثورة الرقمية ليست حدثا تقنيا فحسب، بل إنّها بالتوازي حدث فلسفي»..وذلك انطلاقا من تصوّر للفيلسوف الفرسي غاستون باشلار الذي يقرّ بأنّ«العلم يخلق الفلسفة فعلا». وعليه يتمّ تأويل الآلات التقنية بما هي «آلات فلسفية» أي كما يسمّيها ستيفان فايل «أرحاما أنطوفانية» (البنى القبلية للإدراك..).
إنّ التفكير في العوالم الرقمية يتنزّل تحديدا ضمن مجال «فلسفة التقنيات» وهي فلسفة تقوم على افتراع سلوك نظري يحرّرنا من ثنائية الخوف من الرقمي أو توثينه. فالتقنية ليست مسخا كبيرا سيبتلعنا ويسلبنا إنسانيّتنا بإخضاعنا إلى منطق الآلة كما يذهب إلى ذلك الموقف المحافظ من التكنولوجيا، بل يتعلّق الأمر بالتفكير في الطابع الشعري للكينونة، باعتبار القاسم المشترك بين التقنية والبويزيس أو الإنشاء والصناعة وذلك أنّ الوجود الإنساني نفسه هو نتاج صناعة..
وهنا علينا أن نشير إلى أنّ الأمر يتعلّق تحديدا بمعركة فلسفية حول ماهية التقنية أقامها الفيلسوف الألماني سلوتردايك ضدّ التصور الهيدغري للتقنية. لقد آن الأوان للتفكير بالتقنية خارج هرمينوطيقا الكينونة في ضرب من الكلبية الخاصة بتحويل الكينونة نفسها إلى تقنية. لم يعد بوسعنا أن نفكر وفق التناقض التقليدي بين الإنسان كماهية والتقنية كأشياء. وربّما علينا تجديد معجمنا اللغوي ونحن نتحدّث اليوم عن التقنية. نحن مطالبون بتحرير الخطاب أيضا من هذا الوهم الماهويّ الذي ورثناه من التصورات التقليدية لأنفسنا كما لو كان الإنسان جوهرا أو ماهية ثابتة صُنعت على أحسن صورة وأنّ كلّ الأشياء التي تؤثث عالمه هي مجرّد أشياء لا ترتقي إلى طبيعته الإلاهية..لقد سقطت هالة التقديس والتوثين عن البشر وانكشفت هوياتهم الهشّة والمتحوّلة في ظلّ تحوّلات تكنولوجية وأنطولوجية عميقة لعلاقة الإنسان بالعالم. هكذا يصبح من الضروري وفق هذا المنظور تغيير تأويلنا لمفهوم التقنية نفسها وتحريرها من ثنائية الذات والموضوع. الكينونة نفسها هي هذا العالم التكنولوجي المعقّد بآلاته وأشيائه ومساراته وأنظمته الرمزية فالتقنية إذن «لا توجد في الأشياء فحسب، بل في الذوات أيضا»..لم يعد بوسعنا أن نحافظ على الجدار الميتافيزيقي الذي رسمه الفلاسفة القدامى بين الإنسان بوصفه أفضل الكائنات لأنّه يتميّز عنها بالعقل، لقد أصبحت التكنولوجيا جزءا جوهريا من ماهيتنا كبشر..لا أحد منّا سيبقى إنسانا محضا، كلّنا صرنا هويّات هجينة بين الحيوان والإنسان والآلة..فنحن حيوانات بفعل انتمائنا إلى مجال الحياة، تلك التي تهدّدها الأوبئة والفيروسات، ونحن بشر من جهة الأنظمة الرمزيّة والأحلام والآلام والحروب والطموحات، لكنّنا آلات أيضا في عصر الروبوتات والإنسان المزيد ومختلف أشكال التهجين الجيني التي صارت ممكنة في عالمنا هذا..
تكشف لنا الثورة الرقمية أنّ الكينونة والتقنية أمر واحد..لقد أتاحت لنا الثورة الرقمية اكتشاف كائنات جديدة وطرق جديدة في الإدراك وعادات معرفية جديدة تزعزع فينا الفكرة التي كنا نحملها عمّا هو حقيقي، وعمّا هو خيالي.. وتدفعنا إلى التفكير مرّة أخرى بما يمكن أن يعنيه مفهوم الواقع نفسه. ما هي كينونة هذه الكائنات الرقمية التي تظهر لنا في ألعاب الفيديو؟ ما الفرق بين المعلوماتي والافتراضي والرقمي؟ أيّ معنى لكينونتنا في زمن الرقمنة؟
من أجل التفكير بالثورة الرقمية علينا أوّلا تنزيلها ضمن مسار التقنية كنسق من التحولات التاريخية. ولقد شهد مفهوم التقنية تحولات عديدة يمكن تجميعها في ثلاثة مراحل الثورة الصناعية الأولى (ثورة الفحم والآلة البخارية والمعادن)، ثم الثورة الصناعية الثانية (ثورة الكهرباء والمحرك الانفجاري والفولاذ) وأخيرا الثورة الرقمية (ثورة الحاسوب والشبكات العنكبوتية والأنترنت والخوارزمية الجماهيرية)..يتعلق الأمر بالتأريخ للتقنية من خلال مفهوم تاريخ الثورات التقنية مثلما يتكلّم توماس كوهن عن تاريخ الثورات العلمية وفق نظرية البراديغم. بحيث يصبح تاريخ الثورات التقنية هو إذن تاريخ التقدم المستمر لاستخدام الآلة. (ظهور المعلوماتية في الثمانينات وازدهار الأنترنت في التسعينات ونجاح الواب.2.0 والشبكات الاجتماعية والأجهزة المحمولة عام 2000.. )
لقد اخترعت الثورة الرقمية للإنسانية عالما جديدا هو عالم تصممه الآلات الرقمية التي تتضمن كمّا هائلا من الآلات مثل الحواسيب المركزية الكبرى والحواسيب الشخصية المحمولة وخوادم الواب ووحدات التحكم بالألعاب والهواتف المحمولة والذكية واللوحات الرقمية..والسؤال الخطير حينئذ هو التالي: أيّ مستقبل تعدّه لنا هذه الآلات؟ هل سيقع الاستغناء عن العقل البشري وتفويض مهارة الذكاء إلى الآلات الرقمية؟ أيّ وعد بالسعادة تحمله لنا العوالم الافتراضية؟
لا بدّ أن نتوقف هنا عند معنى لفظة «رقمي» التي تعني مباشرة الرقم بحيث يتعلق الأمر بإيداع عمليات العقل كلها داخل الحواسيب..فالنسق الرقمي إنما هو توسيع لمجال الحساب..وذلك يعني أنّ كل أنشطتنا الذهنية يمكن اختزالها في المعلومة القابلة للحساب بواسطة الحواسيب القادرة على معالجة عدد لامتناه من المعطيات.. لقد غيرت الثورة الرقمية وجه العالم وذلك منذ اختراع الحاسوب 1940 وبداية المعلوماتية 1950-1960..ثم ازدهار الإنترنت 1990-2000.... لا يتعلق الأمر باختراع آلات جديدة، بل بولادة عالم مغاير تماما للعالم الواقعي التقليدي للبشر. إنّ الأمر يتعلّق بولادة عالم المستقبل أي العالم الافتراضي. لكن ما معنى العالم الافتراضي وأيّ نوع من الكائنات تسكنه؟ وهل فقدنا الواقع بولادة الافتراضي؟ إنّ هذا المفهوم يعود فلسفيا إلى التمييز الأرسطي بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل..بحيث إنّ الشيء حين يوجد بالفعل فهو فعلي ومتحقق وحين يوجد بالقوة فهو في حالة كمون فقط.. ومن هنا فإن الافتراضي كما يظهر في الميتافيزيقا القديمة هو نظام أنطولوجي يكمن في أن الوجود يمكن أن يوجد دون ظهور. غير أنّ هذا المعنى القديم تمّ تجاوزه داخل التصوّر الجديد لمفهوم الافتراضي نفسه. لقد غيّر المعجم الفلسفي من علاماته. فمع الثورة الرقمية لم يعد الافتراضي مجرّد وجود كامن أو خفيّ أو هو احتمال لكينونة ليست فعلية إنّما صار إلى واقع فعليّ ربّما أكثر فعليّة إنجازيّة واقتدار وسرعة وذكاء ونجاعة من العالم الواقعي نفسه..
لكن ثمة مفهوم جديد للافتراضي في عالم الرقمنة وهو مفهوم تطور خلال النصف الثاني من القرن العشرين بحيث صرنا نتحدث عن «ذاكرة رقمية» وعن «واقع افتراضي» وعن «كائنات افتراضية». وفي هذا المعنى يتمّ تنضيد تعريف جديد للافتراضي يصوغه ستيفان فيان كما يلي: «نسمي افتراضيا ضمن منظور الحاسوب كل عملية قادرة بفضل تقنيات البرامج على تقليد سلوك رقمي بمعزل عن دعامته المادية..»..
هل صار كلّ شيء في عصر الرقمنة إذن قابلا لأن يتمّ تحويله إلى كائن افتراضي ؟ هل صار الوجود الذي اعتقدنا أنّه محصّن ضمن ثنائية واضحة هي ثنائية الواقعي والخيالي، قابلا للاختزال في عملية رقمية؟
وبالتالي فالمعلوماتي هو شيء اصطناعي في معنى برنامج تمت إعادة إنتاجه صناعيا..أي بالاعتماد على تقنيات البرمجة المعلوماتية أي على الحساب الخوارزمي..هل صار المبرمج يقوم مقام المبدع أو المفكّر أو الفيلسوف الذي كان هو سيّد العملية العقلية أو الإبداعية عموما؟
إنّ المعلوماتية هي محاكاة صناعية لا علاقة لها بالمحاكاة في المعنى الميتافيزيقي القديم لذلك لا يتعلق الأمر بالخداع أو بالظلّ بل إن الكائنات الافتراضية هي كائنات واقعية تماما. لقد أصبحنا في العالم الافتراضي نتحرك داخل «بيئات بصرية غامرة..فضاءات اصطناعية مركبة معلوماتيا يمكن لإنسان ما أن يندمج فيها وأن يتجسد».
ليست الثورة الرقمية مجرّد تحوّل تكنولوجي حصل في حقل التواصل بين البشر، إنّما هي حدث تاريخي بدّل وجه العصر ووقّع زمانية جديدة لكلّ أشكال التفكير بالمستقبل. فما يحدث اليوم في رحاب العالم الرقمي هو تغيّرات عميقة في بنية المعرفة والذكاء والذاكرة وفي معنى الزمان والمكان..في شكل مشاعرنا الحميمة وهويّاتنا كأشخاص أيضا. لا أحد منّا يعيش وحيدا في هذا العالم لكنّ العوالم الافتراضية قد اخترعت أشكالا أخرى من العزلة..عزلة الشخص عن بيئته الواقعية..وهجرة الجميع نحو الافتراضي لأنّ الواقع صار لا يُحتمل بحروبه وأوبئته واحتباساته الأيكولوجية ومجاعاته ومعتقلاته الخانقة..لقد أصبحنا اليوم نودع ذاكراتنا وعقولنا ومعلوماتنا ومعطياتنا جميعها إلى الحواسيب والخوارزميّات كما لو أنّنا لم نعد مطالبين بأن نكون أذكياء..فالذكاء صناعة تتكفّل بها البرامج الرقمية بما هي جزء من كينونتنا وهوياتنا الجديدة..ليس العصر الرقمي كارثة لكنّه ليس دينا جديدا..وربّما آن الأوان أن نتخلّص من هذه الثنائيات العقيمة وأن نخترع سلوكا نظريا جديدا في التفكير نفسه. ثمّة استراتيجيات وسياسات للحقيقة تنظر إلى التاريخ بوصفه صيرورات وإبداعات لأشكال مغايرة من الحياة. لقد انتهى عصر تشييد المعابد في أنفسنا لأنّنا قد تغيّرنا بوصفنا كائنات حيوية تتخلى عن خلايا ميّتة كلّ لحظة وتنمو بخلايا جديدة معا..لقد صار العالم الرقمي جزءا من كينونتنا التاريخية وليس مجرّد آلات خارجة عنّا وتهدّد وجودنا..وربّما سيضحك منّا أطفال المستقبل طويلا ولا أحد منهم سيربّي أبناءه على حشو الأدمغة بالمعلومات والتواريخ والرياضيات والديانات والمحفوظات والشعوذات..لأنّ الذكاء صار مهنة موكولة بيد العملاق الافتراضي جوجل كأذكى الكائنات في العالم اليوم..ولأنّ وجه الإنسان وجسده وأعضاؤه أيضا قد تُغيّر من نظامها وخطّتها مع تطوّر تكنولوجيات السايبورغ والإنسان المزيد.. فلننصت جيّدا إلى إيقاع التاريخ في عالمنا ولنهيّئ أنفسنا إلى خطط حيوية جديدة..
يقول شارل بودلير: «ما دامت المخيلة قد صنعت العالم فإنّها تحكمه». لكن على أيّ نحو ستحكم المخيّلة العالم اليوم؟ قديما كانت المخيّلة تحكم العالم وفق أمزجة الملوك أمّا اليوم فالمخيّلة خلقت عوالم جديدة لم يكن في وسع أيّ ملك أو فيلسوف قديم أن يتوقّعها. لقد اخترعت المخيّلة في عصرنا عوالم افتراضية لا تشبه أيّ صورة تقليدية نحملها عن العالم الذي تخيّلناه دوما واحدا وقد تمّ تصميمه كأجمل العوالم الممكنة. أيّ نمط كينونة يمكن أن نقارب وفقه العوالم الرقمية أو الافتراضية؟ هل تنتمي هذه العوالم إلى ثنائية الخيالي والواقعي؟ أم هي نمط مغاير من الوجود؟ ما هو مستقبل العالم بعد الثورة الرقمية؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نعتمد على مقاربة طريفة لكينونة الرقمي نجدها في كتاب للفيلسوف الفرنسي ستيفان فايل تحت عنوان الكينونة والشاشة، كيف يغيّر الرقمي الإدراك (2013).
من أجل التأريخ لظهور المفهوم نلخّص أهم اللحظات الحاسمة التي نختزلها في التواريخ التالية: انطلاقا من ثلاثينات القرن الماضي اخترع عالم الرياضيات الانجليزي ألان تورينغ آلة حاسبة قادرة على إنجاز عمليات حسابية هائلة هي نوع من الحاسبة الكونية القادرة على البرمجة وهي بمثابة التمثّل الأوّلي للحاسوب. وفي سنة 1943 تمّ تصميم أوّل حاسوب عملاق تمّ استعماله من أجل صناعة قنبلة. وفي سنة 1947 ظهر مفهوم السيبرنيطيقا على يد الرياضي الأمريكي نوربارت واينر والتي تعني علم ميكانيزمات التواصل والمراقبة والآلات والأنساق المعلوماتية المنظّمة. وفي سنة 1950 ظهرت الصور الإلكترونية الأولى وتمّ اختراع الغرفة السوداء سنة 1959 من طرف وولف فوستال المصمّم لأوّل عمل فني قائم على الصور الإلكترونية وعلى البرمجة الغرافية. وفي سنة 1963 اخترع دوغلاس انغلبارت أوّل فأرة. وفي سنة 1976 ظهر الحاسوب ماكينتوش آبل، وفي سنة 1981 تمّ تسويق الحواسيب من طرف شركة أ.ب.م....وفي تسعينات القرن الماضي ظهرت الأنترنت وفي عام 2000 شهد العالم نموّا مذهلا للرقمنة عبر الإنترنت والرسائل الإلكترونية وواجهات الحاسوب وبدأت الرقمنة تغزو كلّ المجالات الحيوية للبشر. يكتب أستاذ الفلسفة الفرنسي ستيفان فيال في كتابه «الكينونة والشاشة» ما يلي: «الإنترنت هو في نظر بعضهم دين جديد. لكن، رجاء لا نُشيّدنّ لأنفسنا أوثانا جديدة..». والسؤال الذي بوسعنا طرحه حينئذ هو التالي: انطلاقا من أي نمط من السلوك النظري يمكن مقاربة الثورة الرقمية؟ ضدّ المواقف الانفعالية القائمة على ضرب من «كراهية التقنية» الشبيه بالشعارات اللاهوتية والبكائيات على موت الإنسان وخطورة التكنولوجيا على مصيره، علينا افتراع موقف نقدي استشرافي معا...فأنترنات التي تسم العصر الرقمي ليست دينا جديدا بالمعنى التبشيري وليست أيضا كارثة تهدد إنسانية الإنسان كما يحلو لبعض المتشائمين القول..فهي ليست دينا جديدا لأنّها ليست فاعلا مباشرا بل هي مجرّد وسيط خوارزمي أو هي مجرّد تجميع على درجة عليا من التعقيد والتشابك لجملة من الفاعلين الإنسانيين والمهارات التكنولوجية والخوارزميات والبرمجيات..الرقمي هو عمليات حسابية ومسارات وهندسات لمعطيات وقرارات وفرضيات علمية يجري اختبارها وتسجيلها وحفظها عبر برامج للأمن الرقمي..نحن إزاء كينونة معقّدة قائمة على خرائط وهندسات جديدة للزمان والمكان والمعارف والمشاعر أيضا.
ورغم أنّ المبرمج هو الإنسان فإنّ الثورة الرقمية قد أحدثت تحوّلات جوهرية في نمط إدراكنا للعالم، يتعلق الأمر بظهور «ابستمية جديدة» وليس بمجرّد اختراع تكنولوجي في تاريخ التقنيات. وفي هذا السياق تتنزّل أطروحة كتاب الكينونة والشاشة بحيث يعتبر ستيفان فيال أنّ «هذه الثورة الرقمية ليست حدثا تقنيا فحسب، بل إنّها بالتوازي حدث فلسفي»..وذلك انطلاقا من تصوّر للفيلسوف الفرسي غاستون باشلار الذي يقرّ بأنّ«العلم يخلق الفلسفة فعلا». وعليه يتمّ تأويل الآلات التقنية بما هي «آلات فلسفية» أي كما يسمّيها ستيفان فايل «أرحاما أنطوفانية» (البنى القبلية للإدراك..).
إنّ التفكير في العوالم الرقمية يتنزّل تحديدا ضمن مجال «فلسفة التقنيات» وهي فلسفة تقوم على افتراع سلوك نظري يحرّرنا من ثنائية الخوف من الرقمي أو توثينه. فالتقنية ليست مسخا كبيرا سيبتلعنا ويسلبنا إنسانيّتنا بإخضاعنا إلى منطق الآلة كما يذهب إلى ذلك الموقف المحافظ من التكنولوجيا، بل يتعلّق الأمر بالتفكير في الطابع الشعري للكينونة، باعتبار القاسم المشترك بين التقنية والبويزيس أو الإنشاء والصناعة وذلك أنّ الوجود الإنساني نفسه هو نتاج صناعة..
وهنا علينا أن نشير إلى أنّ الأمر يتعلّق تحديدا بمعركة فلسفية حول ماهية التقنية أقامها الفيلسوف الألماني سلوتردايك ضدّ التصور الهيدغري للتقنية. لقد آن الأوان للتفكير بالتقنية خارج هرمينوطيقا الكينونة في ضرب من الكلبية الخاصة بتحويل الكينونة نفسها إلى تقنية. لم يعد بوسعنا أن نفكر وفق التناقض التقليدي بين الإنسان كماهية والتقنية كأشياء. وربّما علينا تجديد معجمنا اللغوي ونحن نتحدّث اليوم عن التقنية. نحن مطالبون بتحرير الخطاب أيضا من هذا الوهم الماهويّ الذي ورثناه من التصورات التقليدية لأنفسنا كما لو كان الإنسان جوهرا أو ماهية ثابتة صُنعت على أحسن صورة وأنّ كلّ الأشياء التي تؤثث عالمه هي مجرّد أشياء لا ترتقي إلى طبيعته الإلاهية..لقد سقطت هالة التقديس والتوثين عن البشر وانكشفت هوياتهم الهشّة والمتحوّلة في ظلّ تحوّلات تكنولوجية وأنطولوجية عميقة لعلاقة الإنسان بالعالم. هكذا يصبح من الضروري وفق هذا المنظور تغيير تأويلنا لمفهوم التقنية نفسها وتحريرها من ثنائية الذات والموضوع. الكينونة نفسها هي هذا العالم التكنولوجي المعقّد بآلاته وأشيائه ومساراته وأنظمته الرمزية فالتقنية إذن «لا توجد في الأشياء فحسب، بل في الذوات أيضا»..لم يعد بوسعنا أن نحافظ على الجدار الميتافيزيقي الذي رسمه الفلاسفة القدامى بين الإنسان بوصفه أفضل الكائنات لأنّه يتميّز عنها بالعقل، لقد أصبحت التكنولوجيا جزءا جوهريا من ماهيتنا كبشر..لا أحد منّا سيبقى إنسانا محضا، كلّنا صرنا هويّات هجينة بين الحيوان والإنسان والآلة..فنحن حيوانات بفعل انتمائنا إلى مجال الحياة، تلك التي تهدّدها الأوبئة والفيروسات، ونحن بشر من جهة الأنظمة الرمزيّة والأحلام والآلام والحروب والطموحات، لكنّنا آلات أيضا في عصر الروبوتات والإنسان المزيد ومختلف أشكال التهجين الجيني التي صارت ممكنة في عالمنا هذا..
تكشف لنا الثورة الرقمية أنّ الكينونة والتقنية أمر واحد..لقد أتاحت لنا الثورة الرقمية اكتشاف كائنات جديدة وطرق جديدة في الإدراك وعادات معرفية جديدة تزعزع فينا الفكرة التي كنا نحملها عمّا هو حقيقي، وعمّا هو خيالي.. وتدفعنا إلى التفكير مرّة أخرى بما يمكن أن يعنيه مفهوم الواقع نفسه. ما هي كينونة هذه الكائنات الرقمية التي تظهر لنا في ألعاب الفيديو؟ ما الفرق بين المعلوماتي والافتراضي والرقمي؟ أيّ معنى لكينونتنا في زمن الرقمنة؟
من أجل التفكير بالثورة الرقمية علينا أوّلا تنزيلها ضمن مسار التقنية كنسق من التحولات التاريخية. ولقد شهد مفهوم التقنية تحولات عديدة يمكن تجميعها في ثلاثة مراحل الثورة الصناعية الأولى (ثورة الفحم والآلة البخارية والمعادن)، ثم الثورة الصناعية الثانية (ثورة الكهرباء والمحرك الانفجاري والفولاذ) وأخيرا الثورة الرقمية (ثورة الحاسوب والشبكات العنكبوتية والأنترنت والخوارزمية الجماهيرية)..يتعلق الأمر بالتأريخ للتقنية من خلال مفهوم تاريخ الثورات التقنية مثلما يتكلّم توماس كوهن عن تاريخ الثورات العلمية وفق نظرية البراديغم. بحيث يصبح تاريخ الثورات التقنية هو إذن تاريخ التقدم المستمر لاستخدام الآلة. (ظهور المعلوماتية في الثمانينات وازدهار الأنترنت في التسعينات ونجاح الواب.2.0 والشبكات الاجتماعية والأجهزة المحمولة عام 2000.. )
لقد اخترعت الثورة الرقمية للإنسانية عالما جديدا هو عالم تصممه الآلات الرقمية التي تتضمن كمّا هائلا من الآلات مثل الحواسيب المركزية الكبرى والحواسيب الشخصية المحمولة وخوادم الواب ووحدات التحكم بالألعاب والهواتف المحمولة والذكية واللوحات الرقمية..والسؤال الخطير حينئذ هو التالي: أيّ مستقبل تعدّه لنا هذه الآلات؟ هل سيقع الاستغناء عن العقل البشري وتفويض مهارة الذكاء إلى الآلات الرقمية؟ أيّ وعد بالسعادة تحمله لنا العوالم الافتراضية؟
لا بدّ أن نتوقف هنا عند معنى لفظة «رقمي» التي تعني مباشرة الرقم بحيث يتعلق الأمر بإيداع عمليات العقل كلها داخل الحواسيب..فالنسق الرقمي إنما هو توسيع لمجال الحساب..وذلك يعني أنّ كل أنشطتنا الذهنية يمكن اختزالها في المعلومة القابلة للحساب بواسطة الحواسيب القادرة على معالجة عدد لامتناه من المعطيات.. لقد غيرت الثورة الرقمية وجه العالم وذلك منذ اختراع الحاسوب 1940 وبداية المعلوماتية 1950-1960..ثم ازدهار الإنترنت 1990-2000.... لا يتعلق الأمر باختراع آلات جديدة، بل بولادة عالم مغاير تماما للعالم الواقعي التقليدي للبشر. إنّ الأمر يتعلّق بولادة عالم المستقبل أي العالم الافتراضي. لكن ما معنى العالم الافتراضي وأيّ نوع من الكائنات تسكنه؟ وهل فقدنا الواقع بولادة الافتراضي؟ إنّ هذا المفهوم يعود فلسفيا إلى التمييز الأرسطي بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل..بحيث إنّ الشيء حين يوجد بالفعل فهو فعلي ومتحقق وحين يوجد بالقوة فهو في حالة كمون فقط.. ومن هنا فإن الافتراضي كما يظهر في الميتافيزيقا القديمة هو نظام أنطولوجي يكمن في أن الوجود يمكن أن يوجد دون ظهور. غير أنّ هذا المعنى القديم تمّ تجاوزه داخل التصوّر الجديد لمفهوم الافتراضي نفسه. لقد غيّر المعجم الفلسفي من علاماته. فمع الثورة الرقمية لم يعد الافتراضي مجرّد وجود كامن أو خفيّ أو هو احتمال لكينونة ليست فعلية إنّما صار إلى واقع فعليّ ربّما أكثر فعليّة إنجازيّة واقتدار وسرعة وذكاء ونجاعة من العالم الواقعي نفسه..
لكن ثمة مفهوم جديد للافتراضي في عالم الرقمنة وهو مفهوم تطور خلال النصف الثاني من القرن العشرين بحيث صرنا نتحدث عن «ذاكرة رقمية» وعن «واقع افتراضي» وعن «كائنات افتراضية». وفي هذا المعنى يتمّ تنضيد تعريف جديد للافتراضي يصوغه ستيفان فيان كما يلي: «نسمي افتراضيا ضمن منظور الحاسوب كل عملية قادرة بفضل تقنيات البرامج على تقليد سلوك رقمي بمعزل عن دعامته المادية..»..
هل صار كلّ شيء في عصر الرقمنة إذن قابلا لأن يتمّ تحويله إلى كائن افتراضي ؟ هل صار الوجود الذي اعتقدنا أنّه محصّن ضمن ثنائية واضحة هي ثنائية الواقعي والخيالي، قابلا للاختزال في عملية رقمية؟
وبالتالي فالمعلوماتي هو شيء اصطناعي في معنى برنامج تمت إعادة إنتاجه صناعيا..أي بالاعتماد على تقنيات البرمجة المعلوماتية أي على الحساب الخوارزمي..هل صار المبرمج يقوم مقام المبدع أو المفكّر أو الفيلسوف الذي كان هو سيّد العملية العقلية أو الإبداعية عموما؟
إنّ المعلوماتية هي محاكاة صناعية لا علاقة لها بالمحاكاة في المعنى الميتافيزيقي القديم لذلك لا يتعلق الأمر بالخداع أو بالظلّ بل إن الكائنات الافتراضية هي كائنات واقعية تماما. لقد أصبحنا في العالم الافتراضي نتحرك داخل «بيئات بصرية غامرة..فضاءات اصطناعية مركبة معلوماتيا يمكن لإنسان ما أن يندمج فيها وأن يتجسد».
ليست الثورة الرقمية مجرّد تحوّل تكنولوجي حصل في حقل التواصل بين البشر، إنّما هي حدث تاريخي بدّل وجه العصر ووقّع زمانية جديدة لكلّ أشكال التفكير بالمستقبل. فما يحدث اليوم في رحاب العالم الرقمي هو تغيّرات عميقة في بنية المعرفة والذكاء والذاكرة وفي معنى الزمان والمكان..في شكل مشاعرنا الحميمة وهويّاتنا كأشخاص أيضا. لا أحد منّا يعيش وحيدا في هذا العالم لكنّ العوالم الافتراضية قد اخترعت أشكالا أخرى من العزلة..عزلة الشخص عن بيئته الواقعية..وهجرة الجميع نحو الافتراضي لأنّ الواقع صار لا يُحتمل بحروبه وأوبئته واحتباساته الأيكولوجية ومجاعاته ومعتقلاته الخانقة..لقد أصبحنا اليوم نودع ذاكراتنا وعقولنا ومعلوماتنا ومعطياتنا جميعها إلى الحواسيب والخوارزميّات كما لو أنّنا لم نعد مطالبين بأن نكون أذكياء..فالذكاء صناعة تتكفّل بها البرامج الرقمية بما هي جزء من كينونتنا وهوياتنا الجديدة..ليس العصر الرقمي كارثة لكنّه ليس دينا جديدا..وربّما آن الأوان أن نتخلّص من هذه الثنائيات العقيمة وأن نخترع سلوكا نظريا جديدا في التفكير نفسه. ثمّة استراتيجيات وسياسات للحقيقة تنظر إلى التاريخ بوصفه صيرورات وإبداعات لأشكال مغايرة من الحياة. لقد انتهى عصر تشييد المعابد في أنفسنا لأنّنا قد تغيّرنا بوصفنا كائنات حيوية تتخلى عن خلايا ميّتة كلّ لحظة وتنمو بخلايا جديدة معا..لقد صار العالم الرقمي جزءا من كينونتنا التاريخية وليس مجرّد آلات خارجة عنّا وتهدّد وجودنا..وربّما سيضحك منّا أطفال المستقبل طويلا ولا أحد منهم سيربّي أبناءه على حشو الأدمغة بالمعلومات والتواريخ والرياضيات والديانات والمحفوظات والشعوذات..لأنّ الذكاء صار مهنة موكولة بيد العملاق الافتراضي جوجل كأذكى الكائنات في العالم اليوم..ولأنّ وجه الإنسان وجسده وأعضاؤه أيضا قد تُغيّر من نظامها وخطّتها مع تطوّر تكنولوجيات السايبورغ والإنسان المزيد.. فلننصت جيّدا إلى إيقاع التاريخ في عالمنا ولنهيّئ أنفسنا إلى خطط حيوية جديدة..