الحكاية قطعة الطين الأولى لكل فن
الأربعاء / 7 / محرم / 1445 هـ - 10:19 - الأربعاء 26 يوليو 2023 10:19
حكايات الأولاد في حارتنا لم تكن تزعجني ولم تكن تخيفني، كنا نتجمع ونجلس متقاربين ويحكى أحدنا عن الأرنب الذي ظهر لوالده أثناء خروجه لصلاة الفجر، لكنه ما أن نظر إليه حتى وجده يختفي ويظهر من جديد، ثم وجد الأرنب فجأة يتحول لعشرات الأرانب، ليكتشف أنه عفريت أراد أن يشاغله، ويؤخره عن الصلاة، آخر يحكي عن شيء يلمس ذراعه كلما مر من أمام شقة الدور الثاني المغلقة منذ سافر صاحبها للخارج، يشعر بسخونة أنفاس عند أذنه اليسرى ويد تلمس كتفه وكأن أحدا يقترب يريد أن يخبره بشيء ما، لكن الولد كان يجري ويصرخ مرعوبا في كثير من الأحيان..
كلها حكايات يساورني دوما الشك فيها، يحلفون بالله على صدقهم وصدق رواياتهم وأبدي أنني اقتنعت، ولكن في داخلي كنت أعرف أنهم يكذبون، وأتصنّع الخوف جبرا لخاطرهم، ولكن ما كان يخيفني بالفعل هي حكايات جدتي.
أتذكر جيدا في برد الشتاء، ونحن ملتفون حولها، صوت «وابور» الجاز يعمل ليقوم بالتدفئة وبراد الشاي يغلي من فوقه، بينما في الأيام السعيدة يكون لوح من الصاج عليه بطاطا حلوة تشوى، أو ربما تقوم إحدى العمات بعمل فطيرة السكر السريعة في الطاسة، أباء وأمهات وأحفاد، نستمع والجدة تحكي، كانت تجلس على سريرها المرتفع كثيرا عن الأرض، ذي العمدان النحاسية، حتى كان يسمح أن أقيم في النهار حياة كاملة أسفله، مرة أصطحب ألعابي، ومرة برطمان السكر لأقضي عليه في الخفاء، ومرة أختبئ تحته أثناء لعبة الغميضة.
تحكي الجدة وبعض الأحفاد يجلسون على الأرض يرفعون رؤوسهم لأعلى مندمجين وربما يفتحون أفواههم في بلاهة، ولأنني الحفيد الأكبر كنت أجلس بجوارها في معظم الأحوال كمن حجز «لوج» في أفخر سينما، تحكي وكنت أرفع قدميّ وأكورهما تحت جلبابي، أوقن تماما أنني لو سهيت عنهما ودليتهما فسوف يسحبني منهما أحد العفاريت المقيمين في هذه اللحظة لسبب ما تحت السرير، ولو تخيلت أن أبي أو أحدا من الموجودين سيحاول إنقاذي، أرى العفريت وهو غاضب يستعين بمارد من أصدقائه، وقد كنا نفرق في حكايتنا نحن الأطفال مع بعضنا البعض بين المارد والعفريت، بأن العفريت مخيف لكنه طيب ولن يؤذيك خاصة لو تمكنت ألا تبدي له خوفك، ولكن المارد شرير وضخم، ويستطيع التحكم في حجمه فيطول ويتضخم حتى يتعدى طوله ارتفاع عمود إنارة، ولا أعرف من أين كان يأتينا اليقين ونحن ننظّر ونقدم الفروق كخبراء بين أصناف الجن والعفاريت والمردة.
المخيف في الموضوع، أن جدتي لم تكن تحكي لتخيفنا، ولم تكن تقصد أن ينصت لها الجميع أثناء الحكي، بل كانت تتحدث بشكل طبيعي عن أحد الأمور العادية ولكنها فجأة تعرج لسيرة ظل تبع والدها ذات يوم، أو لحكاية المرأة التي تراها جدتها تمشط شعرها الطويل كلما نظرت في مرآتها ليلا، أو أن تعرج لسيرة «أبو الخير» مثلا وهو قتيل لقي حتفه في شارعنا قبل حكايتها هذه بنحو عشرين سنة، كنا نسكن منطقة «حدائق الزيتون» في الماضي البعيد كانت معظم المساحات خضراء، حدائق وغيطان كثيرة، قبل أن يتحول الحي كله لبيوت وعمارات سكنية مكتظة، وكان أبو الخير مزارع بسيط ولديه عربة خشبية يجرها حصان، يعمل عليها في نقل البضائع وقت فراغه من العمل في أرضه محدودة المساحة، ذات يوم تشاجرت زوجته مع زوجة أحد الرجال من أصاحب العزوة، وحين عاد الرجل لبيته وحكت له زوجته عما دار بينها وبين زوجة أبو الخير، خرج بنبوته مسرعا إلى بيت أبو الخير ونادى عليه، ليخرج الرجل مستفسرا ومعطيا الأمان، عاجله المتسرع بضربة واحدة فوق رأسه حتى أن مخه تناثر في الأجواء، وتبرع بعض الجيران ومنهم أحد أعمامي في لم أشلاء الرجل، كنت أستمع لكل ما سبق، ولم يكن يخيفني شيء فهو ماض، ولكن جدتي تصر أنها تسمع في كل يوم صوت عربة أبو الخير تمر من تحت شباك بيتنا وتقلقها أحيانا، فكنا نسمعها ليلا وهي تقول «غور بقى يا واكل ناسك» ولم نكن نفهم أنها تدعوه أن يرحل حتى لا يقلق نوم أحد، وتفسر ذلك بأنه قلق، بسبب أن أحدا لم يتمكن من الثأر له، وأن دمه راح هدرا لذلك فإن روحه قلقة وغير مستقرة، فكنت حين أسمعها تحدثه ليلا أوقن أنه موجود بالفعل، وانكمش على نفسي في السرير.
حياتنا كلها حكايات، حكايات الجن والعفاريت التي يقابلها الناس في الطرقات والشوارع، وتكون مادة للحكي والتسامر ليلا، فلم يكن هناك تلفاز ولا إنترنت، كانت المسامرات والحكايات الشعبية، حكايات حتى يؤخر دفع مبلغ استحق ميعاد سداده، حكايات لمحصل الكهرباء حتى يرحّل فاتورة الاستهلاك الحالية للفاتورة التالية، لم يكن هناك فعل مباشر، وراء كل فعل حكاية، وقبل كل فعل حكاية، وأصل كل فعل حكاية.
ربما لكل ما سبق صار لدي يقين كامل بأن الحكاية هي اللبنة، أو الطينة الأولى لكل فن.
ربما أيضا صار من المنطقي أن أكون عند بداية افتتاني بالقراءة والكتابة، تشدني فقط الحكاية، فهي الهاجس الأول الذي يدفعني للقراءة وللكتابة، أتذكر محاولاتي الدائمة لاصطياد فكرة جديدة، لم يسبقني أحد إليها، وكنت من الطيبة حد أنني أكتب ظنا أن ما أكتبه لم يسبقني إليه أحد، كنت أؤمن بالحكاية وسطوتها، وكان يرد على ذهني طوال الوقت شهريار المتلهف، والمسحور بالحكاية، وشهرزاد التي اكتسبت وجودها بالحكي.
تمر سنين وأقع في أسر حكايات ألف ليلة وليلة، تشدني السير الشعبية، عنترة بن شداد، الأميرة ذات الهمة، السيرة الهلالية، بل والحكايات الشعبية للشعوب، ربما تتشابه جميعها في المضمون، وفي انتصار الخير على الشر، بل وفي الجنوح للخيال أحيانا والفانتازيا في أحيان أخرى، كنت في ذلك الوقت ما زلت أسكن حدائق الزيتون التي صارت شديدة الازدحام، لم تعد بها مساحات خضراء، لم تعد بها مساحات بشكل عام، صخب في كل مكان، أصوات متداخلة ضحك وسهر وحكايات، ثم عملت في نفس التوقيت بمركز تنموي «بحي الزرايب» وهو من الأحياء العشوائية شديدة الفقر، به تجمع وتفرز قمامة القاهرة، لأرى مستوى آخر من البؤس والشقاء، والحكايات التي تعنى وتناقش تفاصيل أخرى، في هذه المرحلة كتبت روايتي «كيرياليسون» التي استقيت تفاصيلها من نفس البيئة المحيطة، المكان زاخر بالشخصيات الفريدة والحكايات وتفاصيل حياة يومية مختلفة، وما كتب بالرواية أقل بكثير من روح المكان والناس.
مع الوقت يلفت نظري الأمثال الشعبية، وهي تبدو كحكاية مضغوطة مصفاة ومقطرة المعنى في جملة واحدة، بعضها وقور مليء بالحكمة، بعضها يبدو خادشا للحياء ومليء بالحكمة أيضا، أو مليء بالتهكم، أو السخرية من بعض المتقعرين المدعين، وكنت دوما أقف مبهورا أمام الأمثال التي أسمعها من جدتي وأمي وجاراتنا، لا أتذكر أنني سمعت رجلا يلقي بمثل أثناء كلامه إلا فيما ندر، وكانت بضعة أمثال محدودة التي يستخدمها الرجال، ولكن أمثال النساء كثيرة لا حدود لها، لذا أتخيل أن الأمثال الشعبية أصلها اختراع للمرأة، التي تقف وتراقب وتستخلص المعنى، وتلقي بالحكمة في سطر، وأتخيل أن كل الأمثال التي تقال الآن كانت في بدايتها تذكر مصحوبة باسم قائلتها، فيقال على رأي خالتك فلانة ثم يذكر المثل.
جذبتني الأمثال وأصل كل مثل حتى أنني رفضت فكرة خير الخادم العجوز الذي دلق القهوة، بل كنت أتخيل مثلا عروسا جميلة تدخل لتقديم القهوة لعريسها كما هو متبع، فترتبك وتدلق القهوة، فتقول حماتها الفرحة بها والمتحمسة لإتمام الزواج متجاوزة الموقف الطارئ: «دلق القهوة خير»، ليستقر هذا القول في الوجدان الشعبي ويظل يردده الناس لسنوات طويلة، ولكن حين يتكرر نفس الموقف بعد سنوات، مع حماة أتخيلها نحيفة ترتدي نظارة سميكة، تنظر لعروسة ابنها وهي تتقدم نحوهم بعين الرفض، فتدلق القهوة عن دون قصد، فتقول الأم الطيبة مبتسمة في أريحية كأنها تذكرهم بالعقد الاجتماعي المبرم من قبل وهو: «دلق القهوة خير» لكنها تفاجأ بأن الحماة تمصمص شفتيها وهى تقول بلؤم وتتمهل في نطق الحروف موشوشة ابنها وفي نفس الوقت تسمح بأن يلتقط البعض ما قالت: «دلقوا القهوة من عماهم وقالوا الخير جاهم»، مثل هذا الحوار بين جدات لم نرهن، وبالتأكيد لم يروا بعضهن البعض، وربما يكون بين المثل الأول والثاني ما يزيد عن خمسين سنة، كل ما سبق يقول إنه لم يكن من السهل أن يمر الأمر دون تأمل، هذا السجال أو هذا الحوار الدائر بين الأمثال الشعبية كأنها مناظرة صغيرة، والذي يشبه ما يحدث الآن من تدوينك لبوست تعبر فيه عن وجهة نظرك، ويرد آخر عليك بوجهة نظر مختلفة، ولكن العجيب أن البوست المكتوب مهما كان عظيما سينسى بعد دقائق، ولكن الشفاهي بقي في حين أن العكس هو ما كان يجب أن يحدث، لكنها الذاكرة الشعبية التي تحمي تراثها.
ولكن المواقف المحورية بحق في بلورة فكرة سطوة الحكايات لدي، حين كنت أقرأ منذ سنوات بعيدة مذكرات أحد الجنود بالحملة الفرنسية، وكيف ضبطت نفسي أكثر من مرة متعاطفا معه، أخشى عليه فقد حياته، كلما تحدث عن خطر ما يعترضه، كنت بداخلي أعي أنه جندي في صفوف أعداء أجدادي، لكنه كان بالنسبة لي الراوي، فهو من يملك الحكاية، كأنني أشعر أن بنهايته سينتهي كل شيء وسأحرم متعة استكمال الحكاية، وهنا أدرك أن انتماءنا للحكاية قد يفوق كل اعتبار، ويغلب على أي انتماء.
هنا بدوت لنفسي وكأنني أكتشف من جديد أهمية الحكي، «طاقة الحكي» إن جاز التعبير، طاقة تنتقل من الراوي لنا، تسيطر على حواسنا كاملة، ويكون لها السيطرة والسطوة، ويكون لها الاعتبار فوق كل الاعتبارات، ولها منطق خاص بها يفوق كل منطق. مع الوقت عرفت أن الأفكار ملقاة في الطرقات كما يقولون، وأن الحكايات أكثر من الهم على القلب كما يقولون أيضا، وأن السر أعظم من الحكاية، إنه في التقنية، وزاوية الرؤية، السر في النبرة الخاصة، وفي الإيقاع. لتبدأ مرحلة جديدة، وبدلا من الاحتفاء بالحكاية سيكون اللعب مع الحكاية، حتى صرت أضج من كل حكاية لها بداية ووسط ونهاية، ومن حكايات لا تقدم سوى معناها القريب المباشر. أهرب من الحكاية التي تتعامل معي بنفس منطقي وبنفس منطق باقي الحكايات، صرت أنتظر الحكاية التي تخلق لها منطقا خاصا، تجعلني أعيشه وأصدقه، لذا فإنه من الصعب نسيان رواية العظيم إيتالو كالفينو «البارون ساكن الأشجار»، البارون الصغير كوزيمو الذي يتمرد على الحياة المملة المغلفة المرسومة بعناية، ويقرر أن يترك كل شيء، يهجر الزيف ويعيش وحيدا فوق شجرة في حديقة قصرهم، الأمر الذي يبدو معه الموضوع مجرد تمرد طفل سيعود لأسرته وسريره بعد قليل، لكنه لن يعود، وسيعيش حياته كما يريدها حرا طليقا، ينتقل من شجرة لأخرى، يكتسب قدرات وصفات ويرسم حياته بالطريقة التي يريدها، قد تبدو الفكرة غير منطقية، وقد تبدو مستحيلة التحقق خاصة لو علمنا أنه صار ينتقل من مكان لمكان بل ومن بلد لآخر عبر الأشجار، وأنه قضى حياته دون أن ينزل على الأرض مرة أخرى، ولكن ونحن نقرأ الرواية سنصدقها، ولن نفكر إن كان هذا ممكنا بالفعل أما لا، بل سنترك أنفسنا لنصدق كوزيمو ونشاركه متعته وتحرره.
تمر السنوات وأنتقل من مكان عملي بحي الزرايب لمكتبة عامة في مصر الجديدة، أنقل سكني من حدائق الزيتون المزدحمة لمدينة جديدة في شرق القاهرة، حيث المساحات الواسعة الخضراء، هدوء، لا وجود لصخب، أو ضجيج، في الكافيه الناس صامتون، بعض الناس وأنا منهم يذهبون وحيدين للمقهى، تتناول مشروبك صامتا تحدق في الفراغ البعيد، تترك ثمن المشروب على «الترابيزة» وتقوم دون أن تكون نطقت بكلمة واحدة، بعض الناس يجلسون في جماعات ولكن كل منهم مشغول بهاتفه المحمول، قلت مساحة الحكايات، والأصوات لم تعد واضحة وسط هذه المساحات الشاسعة، لم يعد هناك صوت جيران يمكنك الاستماع له من شباك داخلي، ولم أعد أصادف كثيرين يستخدمون الأمثال الشعبية في حديثهم، لتأتي مرحلة أخرى تحدد علاقتي بتفضيلاتي في الكتابة وفي القراءة، وهي الهروب من الحكاية نفسها، كأن كلانا هرب من الآخر، لم أعد أتحمل قراءة حكاية بها الكثير من الأحداث التي تصف ما أعرفه، سيطر على عشق الروايات التي لا تحمل فكرة عظيمة، ليس بها حكاية، بل مجرد خط بسيط، أحداث شبه غائبة وغائمة، لتكون اللعبة هنا، كيف يظل القارئ مرتبطا بالقراءة، كيف لا يترك الكتاب ويظل مستمتعا من أول الكتاب لآخره بالرغم من أن أصل الحكاية في غاية البساطة.
وهنا أستحضر ماريا مارجريتا الفتاة الصغيرة الموهوبة في رواية «راوية الأفلام» للتشيلى إيرنان ريبيرا لتيلير قصة بسيطة جدا تخرج عملا عظيما، أسرة يمنعها الفقر من دخول السينما معا، فيجمعون ثمن تذكرة واحدة وتدخل ماريا السينما، لتحكي لهم بعد ذلك الفيلم بطريقتها الساحرة فيستمتعون بحكيها، لتصبح راوية دائمة لهم، ثم راوية للقرية أو للحي بأكمله لتصبح هذه فقط مهنتها رواية وحكي الأفلام التي تشاهده بطريقتها.
وكما أن في السينما تعد الحكاية هي المادة الخام للفيلم، لكنها ليست هي كل الفيلم، هناك العديد من العناصر الأخرى، مثل الإضاءة والموسيقى التصويرية والديكور والملابس.. الكثير من التفاصيل التي تتجاور بجانب القصة ليخرج لنا الفيلم على الشاشة، وكما أن الفيلم يفقد الكثير من جماله عند حكيه مجردا (عدا إن كنا مثل ماريا مرجريتا)، وكما أنه لا يمكنك مثلا حكي قصيدة أو لوحة أو لحن موسيقى لأحد، فهكذا الرواية إن اعتمدت على الحكاية فقط ستفقد الكثير.
مع عشقي للحكايات أصبحت الآن أتخيل في نفس الوقت أن كل ما يعتمد على الحكاية فقط فهو به نقص يخرجه عن الفن الحقيقي.
هاني عبد المريد روائي مصري
كلها حكايات يساورني دوما الشك فيها، يحلفون بالله على صدقهم وصدق رواياتهم وأبدي أنني اقتنعت، ولكن في داخلي كنت أعرف أنهم يكذبون، وأتصنّع الخوف جبرا لخاطرهم، ولكن ما كان يخيفني بالفعل هي حكايات جدتي.
أتذكر جيدا في برد الشتاء، ونحن ملتفون حولها، صوت «وابور» الجاز يعمل ليقوم بالتدفئة وبراد الشاي يغلي من فوقه، بينما في الأيام السعيدة يكون لوح من الصاج عليه بطاطا حلوة تشوى، أو ربما تقوم إحدى العمات بعمل فطيرة السكر السريعة في الطاسة، أباء وأمهات وأحفاد، نستمع والجدة تحكي، كانت تجلس على سريرها المرتفع كثيرا عن الأرض، ذي العمدان النحاسية، حتى كان يسمح أن أقيم في النهار حياة كاملة أسفله، مرة أصطحب ألعابي، ومرة برطمان السكر لأقضي عليه في الخفاء، ومرة أختبئ تحته أثناء لعبة الغميضة.
تحكي الجدة وبعض الأحفاد يجلسون على الأرض يرفعون رؤوسهم لأعلى مندمجين وربما يفتحون أفواههم في بلاهة، ولأنني الحفيد الأكبر كنت أجلس بجوارها في معظم الأحوال كمن حجز «لوج» في أفخر سينما، تحكي وكنت أرفع قدميّ وأكورهما تحت جلبابي، أوقن تماما أنني لو سهيت عنهما ودليتهما فسوف يسحبني منهما أحد العفاريت المقيمين في هذه اللحظة لسبب ما تحت السرير، ولو تخيلت أن أبي أو أحدا من الموجودين سيحاول إنقاذي، أرى العفريت وهو غاضب يستعين بمارد من أصدقائه، وقد كنا نفرق في حكايتنا نحن الأطفال مع بعضنا البعض بين المارد والعفريت، بأن العفريت مخيف لكنه طيب ولن يؤذيك خاصة لو تمكنت ألا تبدي له خوفك، ولكن المارد شرير وضخم، ويستطيع التحكم في حجمه فيطول ويتضخم حتى يتعدى طوله ارتفاع عمود إنارة، ولا أعرف من أين كان يأتينا اليقين ونحن ننظّر ونقدم الفروق كخبراء بين أصناف الجن والعفاريت والمردة.
المخيف في الموضوع، أن جدتي لم تكن تحكي لتخيفنا، ولم تكن تقصد أن ينصت لها الجميع أثناء الحكي، بل كانت تتحدث بشكل طبيعي عن أحد الأمور العادية ولكنها فجأة تعرج لسيرة ظل تبع والدها ذات يوم، أو لحكاية المرأة التي تراها جدتها تمشط شعرها الطويل كلما نظرت في مرآتها ليلا، أو أن تعرج لسيرة «أبو الخير» مثلا وهو قتيل لقي حتفه في شارعنا قبل حكايتها هذه بنحو عشرين سنة، كنا نسكن منطقة «حدائق الزيتون» في الماضي البعيد كانت معظم المساحات خضراء، حدائق وغيطان كثيرة، قبل أن يتحول الحي كله لبيوت وعمارات سكنية مكتظة، وكان أبو الخير مزارع بسيط ولديه عربة خشبية يجرها حصان، يعمل عليها في نقل البضائع وقت فراغه من العمل في أرضه محدودة المساحة، ذات يوم تشاجرت زوجته مع زوجة أحد الرجال من أصاحب العزوة، وحين عاد الرجل لبيته وحكت له زوجته عما دار بينها وبين زوجة أبو الخير، خرج بنبوته مسرعا إلى بيت أبو الخير ونادى عليه، ليخرج الرجل مستفسرا ومعطيا الأمان، عاجله المتسرع بضربة واحدة فوق رأسه حتى أن مخه تناثر في الأجواء، وتبرع بعض الجيران ومنهم أحد أعمامي في لم أشلاء الرجل، كنت أستمع لكل ما سبق، ولم يكن يخيفني شيء فهو ماض، ولكن جدتي تصر أنها تسمع في كل يوم صوت عربة أبو الخير تمر من تحت شباك بيتنا وتقلقها أحيانا، فكنا نسمعها ليلا وهي تقول «غور بقى يا واكل ناسك» ولم نكن نفهم أنها تدعوه أن يرحل حتى لا يقلق نوم أحد، وتفسر ذلك بأنه قلق، بسبب أن أحدا لم يتمكن من الثأر له، وأن دمه راح هدرا لذلك فإن روحه قلقة وغير مستقرة، فكنت حين أسمعها تحدثه ليلا أوقن أنه موجود بالفعل، وانكمش على نفسي في السرير.
حياتنا كلها حكايات، حكايات الجن والعفاريت التي يقابلها الناس في الطرقات والشوارع، وتكون مادة للحكي والتسامر ليلا، فلم يكن هناك تلفاز ولا إنترنت، كانت المسامرات والحكايات الشعبية، حكايات حتى يؤخر دفع مبلغ استحق ميعاد سداده، حكايات لمحصل الكهرباء حتى يرحّل فاتورة الاستهلاك الحالية للفاتورة التالية، لم يكن هناك فعل مباشر، وراء كل فعل حكاية، وقبل كل فعل حكاية، وأصل كل فعل حكاية.
ربما لكل ما سبق صار لدي يقين كامل بأن الحكاية هي اللبنة، أو الطينة الأولى لكل فن.
ربما أيضا صار من المنطقي أن أكون عند بداية افتتاني بالقراءة والكتابة، تشدني فقط الحكاية، فهي الهاجس الأول الذي يدفعني للقراءة وللكتابة، أتذكر محاولاتي الدائمة لاصطياد فكرة جديدة، لم يسبقني أحد إليها، وكنت من الطيبة حد أنني أكتب ظنا أن ما أكتبه لم يسبقني إليه أحد، كنت أؤمن بالحكاية وسطوتها، وكان يرد على ذهني طوال الوقت شهريار المتلهف، والمسحور بالحكاية، وشهرزاد التي اكتسبت وجودها بالحكي.
تمر سنين وأقع في أسر حكايات ألف ليلة وليلة، تشدني السير الشعبية، عنترة بن شداد، الأميرة ذات الهمة، السيرة الهلالية، بل والحكايات الشعبية للشعوب، ربما تتشابه جميعها في المضمون، وفي انتصار الخير على الشر، بل وفي الجنوح للخيال أحيانا والفانتازيا في أحيان أخرى، كنت في ذلك الوقت ما زلت أسكن حدائق الزيتون التي صارت شديدة الازدحام، لم تعد بها مساحات خضراء، لم تعد بها مساحات بشكل عام، صخب في كل مكان، أصوات متداخلة ضحك وسهر وحكايات، ثم عملت في نفس التوقيت بمركز تنموي «بحي الزرايب» وهو من الأحياء العشوائية شديدة الفقر، به تجمع وتفرز قمامة القاهرة، لأرى مستوى آخر من البؤس والشقاء، والحكايات التي تعنى وتناقش تفاصيل أخرى، في هذه المرحلة كتبت روايتي «كيرياليسون» التي استقيت تفاصيلها من نفس البيئة المحيطة، المكان زاخر بالشخصيات الفريدة والحكايات وتفاصيل حياة يومية مختلفة، وما كتب بالرواية أقل بكثير من روح المكان والناس.
مع الوقت يلفت نظري الأمثال الشعبية، وهي تبدو كحكاية مضغوطة مصفاة ومقطرة المعنى في جملة واحدة، بعضها وقور مليء بالحكمة، بعضها يبدو خادشا للحياء ومليء بالحكمة أيضا، أو مليء بالتهكم، أو السخرية من بعض المتقعرين المدعين، وكنت دوما أقف مبهورا أمام الأمثال التي أسمعها من جدتي وأمي وجاراتنا، لا أتذكر أنني سمعت رجلا يلقي بمثل أثناء كلامه إلا فيما ندر، وكانت بضعة أمثال محدودة التي يستخدمها الرجال، ولكن أمثال النساء كثيرة لا حدود لها، لذا أتخيل أن الأمثال الشعبية أصلها اختراع للمرأة، التي تقف وتراقب وتستخلص المعنى، وتلقي بالحكمة في سطر، وأتخيل أن كل الأمثال التي تقال الآن كانت في بدايتها تذكر مصحوبة باسم قائلتها، فيقال على رأي خالتك فلانة ثم يذكر المثل.
جذبتني الأمثال وأصل كل مثل حتى أنني رفضت فكرة خير الخادم العجوز الذي دلق القهوة، بل كنت أتخيل مثلا عروسا جميلة تدخل لتقديم القهوة لعريسها كما هو متبع، فترتبك وتدلق القهوة، فتقول حماتها الفرحة بها والمتحمسة لإتمام الزواج متجاوزة الموقف الطارئ: «دلق القهوة خير»، ليستقر هذا القول في الوجدان الشعبي ويظل يردده الناس لسنوات طويلة، ولكن حين يتكرر نفس الموقف بعد سنوات، مع حماة أتخيلها نحيفة ترتدي نظارة سميكة، تنظر لعروسة ابنها وهي تتقدم نحوهم بعين الرفض، فتدلق القهوة عن دون قصد، فتقول الأم الطيبة مبتسمة في أريحية كأنها تذكرهم بالعقد الاجتماعي المبرم من قبل وهو: «دلق القهوة خير» لكنها تفاجأ بأن الحماة تمصمص شفتيها وهى تقول بلؤم وتتمهل في نطق الحروف موشوشة ابنها وفي نفس الوقت تسمح بأن يلتقط البعض ما قالت: «دلقوا القهوة من عماهم وقالوا الخير جاهم»، مثل هذا الحوار بين جدات لم نرهن، وبالتأكيد لم يروا بعضهن البعض، وربما يكون بين المثل الأول والثاني ما يزيد عن خمسين سنة، كل ما سبق يقول إنه لم يكن من السهل أن يمر الأمر دون تأمل، هذا السجال أو هذا الحوار الدائر بين الأمثال الشعبية كأنها مناظرة صغيرة، والذي يشبه ما يحدث الآن من تدوينك لبوست تعبر فيه عن وجهة نظرك، ويرد آخر عليك بوجهة نظر مختلفة، ولكن العجيب أن البوست المكتوب مهما كان عظيما سينسى بعد دقائق، ولكن الشفاهي بقي في حين أن العكس هو ما كان يجب أن يحدث، لكنها الذاكرة الشعبية التي تحمي تراثها.
ولكن المواقف المحورية بحق في بلورة فكرة سطوة الحكايات لدي، حين كنت أقرأ منذ سنوات بعيدة مذكرات أحد الجنود بالحملة الفرنسية، وكيف ضبطت نفسي أكثر من مرة متعاطفا معه، أخشى عليه فقد حياته، كلما تحدث عن خطر ما يعترضه، كنت بداخلي أعي أنه جندي في صفوف أعداء أجدادي، لكنه كان بالنسبة لي الراوي، فهو من يملك الحكاية، كأنني أشعر أن بنهايته سينتهي كل شيء وسأحرم متعة استكمال الحكاية، وهنا أدرك أن انتماءنا للحكاية قد يفوق كل اعتبار، ويغلب على أي انتماء.
هنا بدوت لنفسي وكأنني أكتشف من جديد أهمية الحكي، «طاقة الحكي» إن جاز التعبير، طاقة تنتقل من الراوي لنا، تسيطر على حواسنا كاملة، ويكون لها السيطرة والسطوة، ويكون لها الاعتبار فوق كل الاعتبارات، ولها منطق خاص بها يفوق كل منطق. مع الوقت عرفت أن الأفكار ملقاة في الطرقات كما يقولون، وأن الحكايات أكثر من الهم على القلب كما يقولون أيضا، وأن السر أعظم من الحكاية، إنه في التقنية، وزاوية الرؤية، السر في النبرة الخاصة، وفي الإيقاع. لتبدأ مرحلة جديدة، وبدلا من الاحتفاء بالحكاية سيكون اللعب مع الحكاية، حتى صرت أضج من كل حكاية لها بداية ووسط ونهاية، ومن حكايات لا تقدم سوى معناها القريب المباشر. أهرب من الحكاية التي تتعامل معي بنفس منطقي وبنفس منطق باقي الحكايات، صرت أنتظر الحكاية التي تخلق لها منطقا خاصا، تجعلني أعيشه وأصدقه، لذا فإنه من الصعب نسيان رواية العظيم إيتالو كالفينو «البارون ساكن الأشجار»، البارون الصغير كوزيمو الذي يتمرد على الحياة المملة المغلفة المرسومة بعناية، ويقرر أن يترك كل شيء، يهجر الزيف ويعيش وحيدا فوق شجرة في حديقة قصرهم، الأمر الذي يبدو معه الموضوع مجرد تمرد طفل سيعود لأسرته وسريره بعد قليل، لكنه لن يعود، وسيعيش حياته كما يريدها حرا طليقا، ينتقل من شجرة لأخرى، يكتسب قدرات وصفات ويرسم حياته بالطريقة التي يريدها، قد تبدو الفكرة غير منطقية، وقد تبدو مستحيلة التحقق خاصة لو علمنا أنه صار ينتقل من مكان لمكان بل ومن بلد لآخر عبر الأشجار، وأنه قضى حياته دون أن ينزل على الأرض مرة أخرى، ولكن ونحن نقرأ الرواية سنصدقها، ولن نفكر إن كان هذا ممكنا بالفعل أما لا، بل سنترك أنفسنا لنصدق كوزيمو ونشاركه متعته وتحرره.
تمر السنوات وأنتقل من مكان عملي بحي الزرايب لمكتبة عامة في مصر الجديدة، أنقل سكني من حدائق الزيتون المزدحمة لمدينة جديدة في شرق القاهرة، حيث المساحات الواسعة الخضراء، هدوء، لا وجود لصخب، أو ضجيج، في الكافيه الناس صامتون، بعض الناس وأنا منهم يذهبون وحيدين للمقهى، تتناول مشروبك صامتا تحدق في الفراغ البعيد، تترك ثمن المشروب على «الترابيزة» وتقوم دون أن تكون نطقت بكلمة واحدة، بعض الناس يجلسون في جماعات ولكن كل منهم مشغول بهاتفه المحمول، قلت مساحة الحكايات، والأصوات لم تعد واضحة وسط هذه المساحات الشاسعة، لم يعد هناك صوت جيران يمكنك الاستماع له من شباك داخلي، ولم أعد أصادف كثيرين يستخدمون الأمثال الشعبية في حديثهم، لتأتي مرحلة أخرى تحدد علاقتي بتفضيلاتي في الكتابة وفي القراءة، وهي الهروب من الحكاية نفسها، كأن كلانا هرب من الآخر، لم أعد أتحمل قراءة حكاية بها الكثير من الأحداث التي تصف ما أعرفه، سيطر على عشق الروايات التي لا تحمل فكرة عظيمة، ليس بها حكاية، بل مجرد خط بسيط، أحداث شبه غائبة وغائمة، لتكون اللعبة هنا، كيف يظل القارئ مرتبطا بالقراءة، كيف لا يترك الكتاب ويظل مستمتعا من أول الكتاب لآخره بالرغم من أن أصل الحكاية في غاية البساطة.
وهنا أستحضر ماريا مارجريتا الفتاة الصغيرة الموهوبة في رواية «راوية الأفلام» للتشيلى إيرنان ريبيرا لتيلير قصة بسيطة جدا تخرج عملا عظيما، أسرة يمنعها الفقر من دخول السينما معا، فيجمعون ثمن تذكرة واحدة وتدخل ماريا السينما، لتحكي لهم بعد ذلك الفيلم بطريقتها الساحرة فيستمتعون بحكيها، لتصبح راوية دائمة لهم، ثم راوية للقرية أو للحي بأكمله لتصبح هذه فقط مهنتها رواية وحكي الأفلام التي تشاهده بطريقتها.
وكما أن في السينما تعد الحكاية هي المادة الخام للفيلم، لكنها ليست هي كل الفيلم، هناك العديد من العناصر الأخرى، مثل الإضاءة والموسيقى التصويرية والديكور والملابس.. الكثير من التفاصيل التي تتجاور بجانب القصة ليخرج لنا الفيلم على الشاشة، وكما أن الفيلم يفقد الكثير من جماله عند حكيه مجردا (عدا إن كنا مثل ماريا مرجريتا)، وكما أنه لا يمكنك مثلا حكي قصيدة أو لوحة أو لحن موسيقى لأحد، فهكذا الرواية إن اعتمدت على الحكاية فقط ستفقد الكثير.
مع عشقي للحكايات أصبحت الآن أتخيل في نفس الوقت أن كل ما يعتمد على الحكاية فقط فهو به نقص يخرجه عن الفن الحقيقي.
هاني عبد المريد روائي مصري