عمان العلمي

مستقبل الصناعة في العصر الرقمي

 
جاءت الثورة الصناعية الأولى بحصيلتها العلمية المثمرة التي أسفرت عن بداية جديدة للصناعة في القرن التاسع عشر؛ فخرجت الآلة البخارية لتكون رمزًا لهذه الثورة الصناعية، ودخلت الصناعة مراحل جديدة أخرجتها من أنماطها التقليدية. دخول الآلة الميكانيكية إلى الصناعة ساهم في تغييرات إنسانية كثيرة في شتى المجالات منها زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، وتحسّن مستوى دخل الفرد والعائلة، وتحسّن النظام الغذائي والصحي والتعليمي. مع نهاية القرن التاسع عشر، اكتشفت الكهرباء التي كانت مدخلًا -بجانب الآلة الميكانيكية- إلى عصر صناعي ثانٍ عُرف بالثورة الصناعية الثانية، وقادت هذه الثورة الصناعية إلى تحسين الصناعة ومنتجاتها والاندماج مع النظام الميكانيكي السائد؛ فتضاعف الإنتاج الصناعي، وبدأت تتسع رقعة المدن المتحضرة الصناعية وتتسع مع متطلبات اليد العاملة في الصناعة.

جاءت الإلكترونيات متزعمة الثورة الصناعية الثانية، ومع الطاقة الكهربائية كان التمهيد إلى بداية العصر الرقمي الأول الذي يُعرف بالثورة الصناعية الثالثة وذلك مع منتصف القرن التاسع عشر؛ لتظهر الحواسيب بشكلها التقليدي، حيث الإلكترونيات تعمل وفق النظام الرقمي لأول مرة، وتفرّع من هذه الثورة الرقمية تغييرات صناعية كثيرة أثّرت في مجريات الحياة؛ فتطورت الأنظمة الصناعية لتكون بطابع رقمي ساهم في زيادة الإنتاج ورفع الجودة وإدخال النظام الرقمي في الآلات؛ بحيث بات من السهولة التحكم في الآلات الصناعية عبر الحاسوب، وتطورت وسائل الاتصالات، وظهر الإنترنت الذي كان تمهيدا إلى دخول الصناعة ثورتها الرابعة التي دُشنت بظهور تقنيات رقمية متقدمة مثل إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وتطبيقات الواقع الافتراضي والواقع المعزز وهندسة الجينات التي لم يكن لتكون لولا ظهور التقنيات الرقمية الدقيقة، وكذلك الطباعة ثلاثية الأبعاد وتقنيات أخرى مثل سلسلة الكتل «Blockchain» والحوسبة السحابية وغيرها الكثير من أدوات التقنية وتفرعاتها.

استقلال الآلات

لم يعهد التاريخ العلمي للصناعة نمطًا مثل الذي أصبحت عليه الصناعة مع دخولها العصر الرقمي الحديث؛ إذ نجد مع كل الثورات الصناعية التي ذكرناها آنفا دور الإنسان فيها بشكل مباشر وملحوظ؛ فالصناعة مع كل ما يطرأ عليها من تغييرات وتطورات يظل الإنسان ملازمًا لها بحضوره الدائم سواء عبر العمل اليدوي أو التحكم بالأنظمة الصناعية بما فيها الرقمية، ولكن مع السنوات العشر الأولى للقرن الواحد والعشرين وتحديدًا منذ 2010 بدأت تلوح مظاهر الاستقلال الرقمي ولو بشكل بدائي محدود، وبدأ دور الإنسان في الصناعة يتراجع عما كان عليه قبل سنوات سابقة؛ فظهرت الأنظمة الحاسوبية التي تعمل وفق برمجيات محددة -مسبقًا- في عمليات التشغيل والتحكم والإنتاج، وتعمل في توجيه الآلات «الروبوتية» دون الحاجة إلى اليد البشرية العاملة الكثيرة؛ فتحولت الأدوار التي كانت عند كثير من البشر العاملين إلى أنظمة التحكم الحاسوبي التي أخذت زمام كثير من الأعمال الصناعية من الإنسان وتركت له أدوارًا تتمثل في الإشراف والمراقبة. بدأت تظهر ملامح الآلات الذكية التي لا تحتاج إلى التحكم البشري بل يمكنها أن تعمل وفق أهداف معينة لتحقيق غايات صناعية يريدها الإنسان، وهنا الحديث يكون عن الذكاء الاصطناعي الذي يعمل وفق خوارزمية ذكية تحدد مسارها الخاص عبر آلية التعلّم المستمر الذي يعتمد على قاعدة بيانات كبيرة تُعدّ -في مفهوم الصناعة الحديثة- وقودًا حديثًا، أهميته ستتجاوز أهمية الوقود الأحفوري «النفط» وهذا ما سيشكل أحد أركان الصناعة مستقبلًا. أحد مشاهد توظيف الذكاء الاصطناعي في الصناعة هو في مجال الصيانة ومراقبة الآلات الذي تركزت عليه معظم أبحاثي العلمية؛ فدور الإنسان في مراقبة أداء هذه الآلات واكتشاف عيوبها يتباين في دقته من حيث سرعة اكتشاف المشكلة ودقة التحليل والنتائج؛ فجاء الذكاء الاصطناعي ليقوم بهذه المهمة عوضًا عن الإنسان بدءًا من مرحلة استقبال بيانات الآلات وانتهاءً بتحديد أعطالها حتى مع الأعطال في مراحلها المبكرة التي لم يكن الإنسان قادرًا على اكتشافها. تكمن قدرة الذكاء الاصطناعي في مثل هذه المهمة التي تخدم القطاع الصناعي في خوارزميته الذكية القادرة على التعلّم الذاتي عبر البيانات وسرعة تحليلها واستنتاج أفضل المخرجات، والمخرجات المقصودة في هذه الحالة هي تحديد الأعطال الموجودة وتحديد مستوياتها من حيث قوة العطل. تعددت الأبحاث فيما يخص توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات الصيانة والمراقبة الذكية للآلات الصناعية؛ فاستعملت نماذج تعمل تحت أحد فروع الذكاء الاصطناعي الذي يُعرف بـ«تعلّم الآلة» «Machine Learning»، وأحد خوارزمياته المجرّبة في نظام مراقبة الآلات هو «آلة المتجهات الداعمة» «Support Vector Machine» الذي يعمل وفق آلية التصنيف «Classification» للأعطال؛ فيقوم بتحديد الأعطال عبر تمييز الأعطال وتصنيفها وفقًا لإدراكه بالنمط الخاص لكل عطل. أدخل كذلك نوع متقدم من أنواع الذكاء الاصطناعي وهو خوارزميات التعلّم العميق «DeepLearning» التي تعمل على التعلّم الذاتي وفقًا لخوارزمية الانتشار الخلفي «Back-Propagation»، وأظهر هذا النوع من النماذج الذكية قدرات كبيرة في اكتشاف عيوب الآلة وتمييزها بدقة وصلت في حالات كثيرة إلى 100٪.

ساهمت كذلك المستشعرات «الحساسات» الدقيقة التي تتصل بالآلات في نقل البيانات المطلوبة إلى نماذج الذكاء الاصطناعي، وتكون هذه البيانات -غالبا- في أنماطها الأولية عبارة عن اهتزازات «Vibration» تصدرها الآلة وتختلف في مستويات تردداتها بناء على درجة الأعطال وأنواعها، وكذلك هناك أنماط أخرى لهذه البيانات مثل درجات حرارة الآلة وتغييرات التيار الكهربائي ودرجات ضغط السوائل في حالة بعض الآلات التي تتعامل مع السوائل مثل المضخات. هناك طرق متعددة لمعالجة هذه البيانات قبل استقبالها من قبل نماذج الذكاء الاصطناعي، وكذلك هناك أساسيات من المهم تنفيذها أثناء عملية معالجة البيانات ومنها فرز البيانات وانتقاء أفضلها، ومن ضمن الطرق الحديثة المستعملة في هذه العملية هي الخوارزمية الجينية «Genetic algorithm» التي أثبتت نجاحها في معالجة البيانات، وهي خوارزمية رياضية تتبنى الآلية البيولوجية الخاصة بتطور الكائنات حيث تعمل وفقًا لنظام انتقاء أفضل البيانات ملاءمة للأنماط المحددة الخاصة بكل مجموعة بناءً على الأعطال المحددة. بدأت مثل هذه النماذج -التي تعمل بالذكاء الاصطناعي- الخاصة بمراقبة الآلات الصناعية والكشف المبكر عن عيوبها في الدخول إلى القطاعات الصناعية؛ لتسهم في رفع كفاءة الصيانة عبر أنظمة كشف عيوب الآلات المبكر والسريع؛ حيث تقل نسبة الخطأ إلى مستويات تصل -أحيانا- إلى 0٪، وتحوّل دور الإنسان إلى توجيهها الأولي، وكذلك الإشراف العام دون التدخل في عمل الذكاء الاصطناعي الذي أظهر تفوقًا تجاوز قدرات الإنسان.

ذكاء متسارع

ما سقته في الفقرة السابقة هو مجرد مثال من ضمن عدد كبير من الأمثلة التي تعكس واقع توظيف الذكاء الاصطناعي في الصناعة، ويعكس شكل الصناعة ومخرجاتها في عصر رقمي متقدم. ومع تسارع التقدم العلمي وخصوصا الرقمي؛ تعددت وظائف أنظمة الذكاء الاصطناعي في الصناعة، وازدادت رقعتها مع اندماجها مع تقنيات متقدمة مساعدة مثل إنترنت الأشياء الذي أسهم -مع وجود المستشعرات الدقيقة- في رفع كفاءة انتقال البيانات عبر اتصال الأنظمة الرقمية بعضها ببعض، ومع وجود أنظمة التخزين المتقدمة التي تستطيع أن تستوعب البيانات الكبيرة مثل التخزين السحابي وكذلك سلسلة الكتل، وكذلك توفر الحواسيب فائقة السرعة مثل الحواسيب الكوانتمية. مع وجود الكم الكبير من البيانات نتيجة ارتباط أنظمة الذكاء الاصطناعي بمثل هذه التقنيات؛ تحسنت قدرات الذكاء الاصطناعي وباتت تقترب من قدرات الذكاء العام أو الخارق الذي بدأت تظهر بعض ملامحه بداية في 2022 مع ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل شات جي بي تي «ChatGPT»، إلا أنّ هذا النوع من الذكاء الاصطناعي ليس إلا بداية لمشوار تطوري جديد للأنظمة الرقمية وللصناعة في عصر رقمي حديث. يحتاج الذكاء الاصطناعي العام إلى عدة سنوات ليبدأ مباشرة أعماله الواقعية في الصناعة، والذي سقناه من أمثلة في توظيف نماذج الذكاء الاصطناعي في الصناعة يعكس الأنواع الخاصة «البسيطة» وليس العامة «الخارقة»، وحينها تكون العمليات الصناعية مرهونة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي الذي لا تحتاج إلى وجود الإنسان؛ إذ إنها تتعلّم عبر البيانات الكبيرة التي تجمعها، وتحدد أهدافًا صناعية محددة وفقًا لنوع المجال الصناعي المطلوب.

هذه عملية رقمية معقدة، ومن المبكر أن نشرح أبجدياتها حتى مع توفر كثير منها، إلا أنّ ما يهم القارئ في معرفته هو البحث عن جواب لسؤال مفاده: أين دور الإنسان حينها؟ والجواب هنا أيضا غير مؤكد كونه يفترض عدة احتمالات منها ما يتصل بقضية الذكاء الاصطناعي والخطر الوجودي للإنسان، وسبق أن نُوقش هذا من قبل فرضيات احتمالية كثيرة لا ضرورة من إعادتها، والفرضيات «الإيجابية» الأخرى لهذا الجواب هي أن الذكاء الاصطناعي العام سيقود الإنسانية إلى ازدهار علمي وصناعي غير معهود يشمل قطاع الصناعة بما في ذلك الصناعات الرقمية والصحية مثل الأدوية والهندسة الجينية المتقدمة وعبر ما يُعرف برقمنة الإنسان؛ مما سيسهم في تحسين صحة الإنسان وإبطاء تقدمه في العمر «الشيخوخة»؛ وبالتالي إطالة متوسط عمر الإنسان، وأن الذكاء الاصطناعي سيبتكر تخصصات تعليمية جديدة تقود الإنسان إلى وظائف غير معهودة من قبل. لم تعد هذه مجرد سيناريوهات مفترضة، بل هي تعكس واقعًا أثبت نجاحها داخل أروقة المختبرات العلمية، وتنتظر وجودها على أرض الواقع العملي الشامل الذي سيعكس ما يمكن أن نطلق عليه الثورة الصناعية الخامسة التي ستحدد شكل الصناعة الجديد في العصر الرقمي الحديث.

أكاديمي وباحث عُماني