أعمدة

نوافذ: استعارات الموت

 
الفرد العبقري بحسب الفيلسوف الألماني شوبنهاور هو «الوحيد الذي يستطيع عبر معرفته الحدسية إدراك جوهر الوجود وحقيقة الحياة»، فهل يكمنُ جوهر الحياة في نقيضها.. أعني «الموت»، ذلك الذي يُضيء بجلاء مُبهر كلما اصطدمنا به؟!

يحيط بنا الموت منذ بداية تشكل وعينا، إلا أنّ اللافت للأمر، جموح تصوراتنا عنه فوق حدود المخيلة! فلا يزال يشكل جرحا أبديا كلما اقترب من سياج عالمنا وكلما اختطف أحبتنا!

تمنح الروائية السعودية فاطمة عبدالحميد في روايتها «الأفق الأعلى» والصادرة عن دار مسكلياني صوتا خاصا للموت، بل تجعله يقص قصص الأحياء، تجعلنا نرى شباكه التي يوقعنا بها، دون أن ندرك الخطة الأكبر التي تدير مصائرنا الغامضة، فلا ينتظر الموت حبكة متقنة ينهي بها حكاية أحدنا كما قد يحدث في أفلام هوليود، فنسيجه خارج التسويغ، والحكمة محفوظة في مكان لا تمسها الأيدي ولا الأفئدة.

يضحك «الموت» ساخرا منا نحن البشر لكوننا نعيش برفقة الاستعارات، تلك التي تمنحنا معنى كافيا لإكمال حياتنا، بينما «الموت» الذي يكره الاستعارات، يتحين الفرص المواتية للانقضاض على ضحاياه حتى ليتبدى وكأنّه الحقيقة الأكثر ضجيجا في الحياة الدنيا، فيعيد البشر إلى باطن الأرض التي يمشون فوقها مختالين الآن. وعندما ينجو أحدنا منه بصورة عجائبية تنفرج أساريرنا، متجاهلين -عبر الاستعارات أيضا- تربصه الأبدي بنا، فالنجاة لا تعني أكثر من دخولنا إلى حيز التأجيل لا أكثر!

وعلى الجانب الآخر من العمل الروائي، تظهر لنا قصص البشر شديدة التعقيد، تلك التي يحسمها الموت دون أن يرف له جفن، فليست أكثر من دمى بين حبائله. تظهر لنا شخصيات الرجال ضعيفة ومتوارية، تائهة بلا قرار، بينما تقدم الرواية نساء قويات ومتحكمات.

يعيش بطلنا سليمان علي الريس، بين امرأتين أنضج منه، شخصية الأم وشخصية الزوجة الذي تكبره بأكثر من عقد من الزمان، وعندما تموت السلطة المتمثلة في شخصيتي الأم والزوجة، يشعر سليمان لأول مرة في حياته أنّه حر وأنّه يختار شيئا لنفسه، كما اختار من قبل أن يلعب كرة القدم، وكما تتجلى ذاته المسلوبة في صنع بيوت الكبريت تلك التي لا يسكنها ولا يرتاح فيها. لكن الأكثر غرابة أن يبقى تأثيرهما عليه قويا وحادا حتى بعد مغادرتهما للحياة!

مات سليمان علي الريس مرتين، مرّة -عبر الاستعارة- عندما اختطفته أمّه من الملعب وهو ابن الـ13 لتزوجه امرأة تكبره، ومات مرّة أخرى بعد ثمانية وثلاثين عاما في الملعب أيضا، وهو يحاول أن يتصل بخيار من خياراته الضئيلة في الحياة.

نقرأ النصّ كنسيج من العلامات الدالة، فالموت يكتب قصّته أيضا عبر الآخرين، وكأنّ ذاته لا تُرى إلا باضمحلال أحدهم وتلاشيه من الوجود. هكذا يرى الموت نفسه ضروريا، وكأننا لا ندرك صورة الحياة إلا في ضدها ونقيضها، «فبعض التدمير ضروري للإلهام البشري».

يكتب الموت مناوراته، يكتب عن الهلع الذي يصيب الناس لمجرد تذكره، كما يمتلك حسا ساخرا من دأب الإنسان المستمر لتعطيل حصاده أو تأجيله! يسجل الموت حيله وكيف يغافل فرائسه المرتعبة، ثمّ كيف تقاوم وكيف تستلم، ومن مكانه في «الأفق الأعلى» يرى البشر كيف يسيرون كالعميان، فيأخذهم لمثواهم الأخير دون ضغائن وبلا ذاكرة!

وكما يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس: «عندما لا ندري ما الحياة، كيف يمكننا أن نعرف ما الموت»!

لكن الموت يعترف أيضا بوجود لحظات لا يتمكن من تبديدها، لحظات لا تُهزم بل تتعمق في أبعد ذرة من الروح.. يعني لحظات «الحبّ»، فتنهض منافسة شرسة بين الحبّ والموت من يهزم من! ففي لحظة ما يغدو «المدفون» أكثر حضورا من الأحياء، بفعل المحبة والتذكر.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى