هوامش ومتون : الموت وقوفا مثل شجرة معمّرة
الأربعاء / 23 / ذو الحجة / 1444 هـ - 23:01 - الأربعاء 12 يوليو 2023 23:01
رغم مرور سنوات طويلة على مشاهدتي مسرحية «الأشجار تموت واقفة» التي كتبها الشاعر الإسباني أليخاندرو كاسونا، بقي عنوانها محفورا في ذاكرتي، لدلالته العالية التي تؤكّد على الثبات، وقوّة الإرادة، وفي قصيدة قصيرة للشاعر عبد الأمير جرص رثى بها الكاتب يوسف الحيدري الذي توفي إثر نوبة قلبية وسط سوق بيع الكتب، يتساءل الشاعر:
«أليس القصيدة أن يموت الرجل يوم الجمعة وفي سوق السراي؟
متى سنتعلّم الشعر؟»
تذكّرت هذين النصّين، حين عرفتُ أن الدكتور محمود علي الداوود الذي غادر عالمنا، قبل أيام، عن (93) سنة، لفظ أنفاسه الأخيرة، خلال مداخلة له في ندوة أقامها قسم الدراسات القانونية في بيت الحكمة تناولت الحماية القانونية للاقتصاد العراقي في ظل التحديات الإقليمية والدولية، إثر نوبة قلبية، ورغم أن الموت باغته فجأة إلّا أنه ظلّ ممسكا بالمايكرفون حتى فقدانه الوعي، ولم يمهله الموت نقله إلى المستشفى القريب.
هذا الرحيل الباسل يليق بدبلوماسي مخضرم مثل د. محمود الداوود، نال لقب «شيخ الدبلوماسيين العرب» بجدارة، فقد أمضى عقود عمره التي زادت على التسعة في العمل، فلم يتوقّف عن مزاولته، ولم يخطر بباله التوقّف عن الكتابة وإلقاء المحاضرات، وإنجاز البحوث، والتقاعد من الوظيفة، فكان حتّى ساعة رحيله، يشغل موقع رئيس قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية ببيت الحكمة، متوّجا سيرته المهنية الطويلة المرصّعة بالإنجازات، فإلى جانب عمله الأكاديمي بعد حصوله على الدكتوراه في التاريخ الدولي العام 1957 من جامعة لندن، تبوّأ مناصب عديدة في وزارة الخارجية العراقية منها مساعد ممثل العراق بالأمم المتحدة من العام 1959 ولغاية العام 1965، ومدير شعبة الخليج 1960 ومدير عام للدائرة العربية عام 1964م ومدير عام بالوكالة لدوائر المنظمات الدولية والمراسم، وكان الممثل الشخصي للرئيس العراقي عبدالسلام عارف في قضايا الخليج العربي ومستشارا لمجلس الوزراء في شؤون الخليج، ورئيسا لديوان مجلس الوزراء، في الستينيّات، وسفيرا للعراق في تركيا 1971- 1979، وبحكم تخصّصه وعمله، كرّس جهوده البحثية لدراسة تاريخ منطقة الخليج الحديث، وله عدة كتب أهمّها: أحاديث عن الخليج العربي 1959، الخليج العربي والعلاقات الدولية 1961- 1964، المنظور السياسي لقضية عمان 1964، الخليج العربي والعمل العربي المشترك 1968، وسعى خلال عمله الدبلوماسي لمعالجة الأزمات التي تتعرّض لها منطقة الخليج، وأبرزها عروبة الخليج من خلال مساهماته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ما بين 1963 - 1971 واجتماعات الجامعة العربية.
ولعلاقته الوثيقة بسلطنة عمان قام بعدّة زيارات لمسقط، من بينها زيارة له في عام 2010م عندما ألقى محاضرة تناولت «النفوذ البحري العماني في زمن السيد سعيد بن سلطان» وفي عام 2013 م زارها خلال مشاركته في «مؤتمر رأس المال الفكري العربي» الذي نظمته وزارة الخدمة المدنية، وسنحت لي فرصة اللقاء به وكنت برفقة الدكتور محمد الحجري، وفي الطريق إلى مقرّ إقامته في الفندق الكائن في الخوير، وكنا في ساعة متأخرة من الليل، سألت الحجري: أليس من غير المناسب زيارة شيخ في منتصف العقد الثامن من عمره بهذا الوقت ؟ فقال لي: هو الذي اختار هذا الوقت، وكانت المفاجأة أنّنا وجدناه يتمشّى خارج الفندق، بنشاط شاب ثلاثيني!
فتأكّدتُ من صدق مقولة «العقل السليم في الجسم السليم»، وعلى الفور، أخذنا بالأحضان، وتحدّث بموضوعات شتّى تتصل بعلاقته بسلطنة عمان والخليج، وطرح فكرة تنظيم ندوة تبحث في تاريخ العلاقات العمانية، بالتعاون مع (بيت الحكمة)، وبعد جهود أقيمت الندوة في نهاية عام 2013 وحملت عنوان (العلاقات العراقية « العُمانية » ماضيا وحاضرا ومستقبلا)، وظلّت علاقته بالسلطنة مستمرّة، وهذه العلاقة أكّدتها كتبه وبحوثه ومحاضراته، ففي محاضرة له ألقاها في مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية ببغداد يوم 21/2/2016 قال «إن سلطنة عُمان سليلة تراث عريق وعلاقات خليجية ودولية واسعة تم تحقيقها سلما وليس حربا، ويرجع الفضل إلى العمانيين الرواد في نجاحهم في أوسع حملة فكرية وثقافية في التاريخ لنشر الإسلام عن طريق الحوار والثقافة والتجارة»، مؤكدا «إن تجربة عُمان في بناء الوحدة العمانية وتجربتها في المقاربة بين التراث والحداثة وسياستها الخارجية الحكيمة جديرة بأن تدرس من قبل كافة الجامعات والمراكز البحوث في المنطقة العربية للاستفادة منها في خطط التنمية وبناء العمل العربي المشترك على أسس علمية حديثة».
آخر لقاء جمعنا به، كان قبل رحيله بثلاثة أسابيع، عندما استقبلنا يوم الخميس الموافق ٨ من الشهر الماضي، في مكتبه ببيت الحكمة ببغداد، ضمن وفد النادي الثقافي الذي ترأّسه د. محمود السليمي، وكان في قمّة حيويته، وبقي هكذا، نشيطا، كما أخبرني العاملون في مكتبه، حتى ساعة رحيله واقفا مثل شجرة معمّرة.
«أليس القصيدة أن يموت الرجل يوم الجمعة وفي سوق السراي؟
متى سنتعلّم الشعر؟»
تذكّرت هذين النصّين، حين عرفتُ أن الدكتور محمود علي الداوود الذي غادر عالمنا، قبل أيام، عن (93) سنة، لفظ أنفاسه الأخيرة، خلال مداخلة له في ندوة أقامها قسم الدراسات القانونية في بيت الحكمة تناولت الحماية القانونية للاقتصاد العراقي في ظل التحديات الإقليمية والدولية، إثر نوبة قلبية، ورغم أن الموت باغته فجأة إلّا أنه ظلّ ممسكا بالمايكرفون حتى فقدانه الوعي، ولم يمهله الموت نقله إلى المستشفى القريب.
هذا الرحيل الباسل يليق بدبلوماسي مخضرم مثل د. محمود الداوود، نال لقب «شيخ الدبلوماسيين العرب» بجدارة، فقد أمضى عقود عمره التي زادت على التسعة في العمل، فلم يتوقّف عن مزاولته، ولم يخطر بباله التوقّف عن الكتابة وإلقاء المحاضرات، وإنجاز البحوث، والتقاعد من الوظيفة، فكان حتّى ساعة رحيله، يشغل موقع رئيس قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية ببيت الحكمة، متوّجا سيرته المهنية الطويلة المرصّعة بالإنجازات، فإلى جانب عمله الأكاديمي بعد حصوله على الدكتوراه في التاريخ الدولي العام 1957 من جامعة لندن، تبوّأ مناصب عديدة في وزارة الخارجية العراقية منها مساعد ممثل العراق بالأمم المتحدة من العام 1959 ولغاية العام 1965، ومدير شعبة الخليج 1960 ومدير عام للدائرة العربية عام 1964م ومدير عام بالوكالة لدوائر المنظمات الدولية والمراسم، وكان الممثل الشخصي للرئيس العراقي عبدالسلام عارف في قضايا الخليج العربي ومستشارا لمجلس الوزراء في شؤون الخليج، ورئيسا لديوان مجلس الوزراء، في الستينيّات، وسفيرا للعراق في تركيا 1971- 1979، وبحكم تخصّصه وعمله، كرّس جهوده البحثية لدراسة تاريخ منطقة الخليج الحديث، وله عدة كتب أهمّها: أحاديث عن الخليج العربي 1959، الخليج العربي والعلاقات الدولية 1961- 1964، المنظور السياسي لقضية عمان 1964، الخليج العربي والعمل العربي المشترك 1968، وسعى خلال عمله الدبلوماسي لمعالجة الأزمات التي تتعرّض لها منطقة الخليج، وأبرزها عروبة الخليج من خلال مساهماته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ما بين 1963 - 1971 واجتماعات الجامعة العربية.
ولعلاقته الوثيقة بسلطنة عمان قام بعدّة زيارات لمسقط، من بينها زيارة له في عام 2010م عندما ألقى محاضرة تناولت «النفوذ البحري العماني في زمن السيد سعيد بن سلطان» وفي عام 2013 م زارها خلال مشاركته في «مؤتمر رأس المال الفكري العربي» الذي نظمته وزارة الخدمة المدنية، وسنحت لي فرصة اللقاء به وكنت برفقة الدكتور محمد الحجري، وفي الطريق إلى مقرّ إقامته في الفندق الكائن في الخوير، وكنا في ساعة متأخرة من الليل، سألت الحجري: أليس من غير المناسب زيارة شيخ في منتصف العقد الثامن من عمره بهذا الوقت ؟ فقال لي: هو الذي اختار هذا الوقت، وكانت المفاجأة أنّنا وجدناه يتمشّى خارج الفندق، بنشاط شاب ثلاثيني!
فتأكّدتُ من صدق مقولة «العقل السليم في الجسم السليم»، وعلى الفور، أخذنا بالأحضان، وتحدّث بموضوعات شتّى تتصل بعلاقته بسلطنة عمان والخليج، وطرح فكرة تنظيم ندوة تبحث في تاريخ العلاقات العمانية، بالتعاون مع (بيت الحكمة)، وبعد جهود أقيمت الندوة في نهاية عام 2013 وحملت عنوان (العلاقات العراقية « العُمانية » ماضيا وحاضرا ومستقبلا)، وظلّت علاقته بالسلطنة مستمرّة، وهذه العلاقة أكّدتها كتبه وبحوثه ومحاضراته، ففي محاضرة له ألقاها في مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية ببغداد يوم 21/2/2016 قال «إن سلطنة عُمان سليلة تراث عريق وعلاقات خليجية ودولية واسعة تم تحقيقها سلما وليس حربا، ويرجع الفضل إلى العمانيين الرواد في نجاحهم في أوسع حملة فكرية وثقافية في التاريخ لنشر الإسلام عن طريق الحوار والثقافة والتجارة»، مؤكدا «إن تجربة عُمان في بناء الوحدة العمانية وتجربتها في المقاربة بين التراث والحداثة وسياستها الخارجية الحكيمة جديرة بأن تدرس من قبل كافة الجامعات والمراكز البحوث في المنطقة العربية للاستفادة منها في خطط التنمية وبناء العمل العربي المشترك على أسس علمية حديثة».
آخر لقاء جمعنا به، كان قبل رحيله بثلاثة أسابيع، عندما استقبلنا يوم الخميس الموافق ٨ من الشهر الماضي، في مكتبه ببيت الحكمة ببغداد، ضمن وفد النادي الثقافي الذي ترأّسه د. محمود السليمي، وكان في قمّة حيويته، وبقي هكذا، نشيطا، كما أخبرني العاملون في مكتبه، حتى ساعة رحيله واقفا مثل شجرة معمّرة.