أفكار وآراء

حق التعلم مدى الحياة

يشهد التعليم خلال السنوات الأخيرة نموا كبيرا من حيث مستويات تطوُّر الأنظمة التعليمية، ودورها الفاعل في دعم النمو الاقتصادي والازدهار الاجتماعي والثقافي، وبناء منظومة التنمية الإنسانية بشكل عام، من خلال تطوير المعرفة والمهارات والمواقف والقيم، مما أدى إلى زيادة التماسك الاجتماعي، وبالتالي تعزيز المواطنة الإيجابية من ناحية، ودعم التحوُّل المعرفي الموجَّه نحو الابتكار من ناحية أخرى.

إن الرفاه الاجتماعي والتقدم الاقتصادي لا يتحقَّق سوى بالتنمية التعليمية وتطوير منظوماتها التربوية؛ فالتحولات الاقتصادية ترتبط بسلاسل إقليمية وعالمية من المعلومات والإنتاج، كما أنها تتركز أيضا على بناء الميزة النسبية وتجديدها، ولهذا فإن المعرفة اليوم تكتسب قيمة مضاعفة في ظل التطورات الهائلة والتغيرات الاقتصادية والتقنية التي يشهدها العالم، وأثر ذلك على الانفتاح المرتبط بالفرص التعليمية، والوظائف المستقبلية التي يتنبأ بها العالم بناء على تلك التطورات والتغيرات، إضافة إلى تلك الاتجاهات المتطورة التي تأخذ المجتمعات نحو آفاق معرفية جديدة أكثر انفتاحا، تأتي في شكل اتجاهات متطورة تدريجيا أو تأخذ أنظمة الصدمات المفاجئة التي تتشكَّل وفقها مجموعة من الأدوات والأنساق التي تحتِّم على المنظومة التعليمية إعادة تعبئة مواردها المعرفية.

ولهذا فإن العالم ينطلق وفق تلك المتغيرات والاتجاهات نحو تمكين مجتمعه من التعلُّم مدى الحياة، ليكون أساسا مجتمعيا قادرا على تقديم فرص جديدة للتعلُّم وتنمية المهارات مدى العمر، من خلال مجموعة من الشراكات المتطورة وفقا لمتطلبات المرحلة التنموية ومستقبل تطلعات المجتمع وأهدافه، فبدلا من التحصيل الموجَّه، يأتي التعلم مدى الحياة ليقدِّم نفسه أساسا مجتمعيا مبتكرا يدعم متطلبات التعليم والمهارات ومقتضيات سوق العمل ومستقبل الوظائف.

لقد أحدث التحوُّل الرقمي والتغيير التكنولوجي تطوُّرا على مفاهيم التعليم، من حيث قدرته وانفتاحه وجرأته في مسايرة التطورات بل في استباقها من خلال تلك الطفرات الرقمية التي يحدثها الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والواقع الافتراضي، وأشكال الرقمنة المختلفة، والتي أصبحت تعيد تشكيل العالم، وتعزِّز أشكال المعرفة المتطورة وتؤسس مفاهيم جديدة قائمة على تلك النُظم التي ينتجها التحوُّل الرقمي، من خلال طرح مزايا وامتيازات حديثة لتلك المجتمعات التي تستطيع أن تؤسس عالما من مهارات التعلُّم وتطوِّر أنظمتها بما يتناسب مع تلك المتغيرات والتحوُّلات.

وعلى الرغم من أن أنظمة التعلُّم مدى الحياة تؤسسها المنظومة التربوية وفق متطلبات منهجية قادرة على تهيئة الأطفال والناشئة لمفاهيم هذا النوع من التعلُّم، إضافة إلى توفير المساحات والتوجيه نحو فرص التعلم وآفاقه، إلاَّ أن التعلُّم مدى الحياة وفقا لما يحتاجه إلى آفاق أرحب وأكثر اتساعا في ظل التطورات والتحولات الرقمية التي تسهِّل الوصول إلى التعلُّم مدى الحياة، وكذلك طرق التعرُّف على التعلُّم خارج أنظمة التعليم الرسمي؛ فقد أكَّد تقرير (بناء مستقبل التعليم)، الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، أن هذا النوع من التعلُّم لا يخضع لمتطلبات التعليم المؤسسي الذي يحتاج إلى وقت أطول في العادة حتى يستطيع مواكبة المتغيرات التي تحدث في الواقع التكنولوجي والاقتصادي، فهو نظام يحتكم إلى سرعة المواكبة، والقدرة على التغير والتعلُّم بما يُكسب المتعلِّم مهارات جديدة تتناسب ومتطلبات سوق العمل.

إضافة إلى ذلك فإن دور الأُسر والعلاقات الاجتماعية الشخصية يتعاضم في توفير فرص التعلُّم، وبيئات تعليمية مهمة تتعاون وتتشارك مع المؤسسات الاجتماعية والثقافية والإعلامية والاقتصادية، كما أن المجتمعات الحديثة تقدِّم دورا مهما في تنشئة الأفراد وتوفير فرص للتعلُّم، قائمة على متطلبات الواقع الذي تفرضه تطورات المجتمع نفسه وحاجاته، وقدرته على الحوار الاجتماعي والتشارك من ناحية، وتلك الإمكانات التي يقدمها التطور التقني والتنمية الإنسانية في المجتمع؛ فما يُطلق عليه تقرير (OECD) بـ (التعلم غير الرسمي)؛ هو ذلك التعلُّم المفتوح القائم على تطوير المعارف والمهارات مدى الحياة.

يتأسَّس التعلُّم مدى الحياة على قدرة الأفراد على التوازن بين اكتساب المعارف والمهارات وتطبيقها في المجتمع وأماكن العمل، ولهذا فإن ما تقدِّمه المؤسسات التعليمية والأكاديمية يتطلَّب توفير فرص تعلُّم بطرق عالية الجودة وفاعلة وصديقة للابتكار، بما يضمن تحقيق نتائج اقتصادية واجتماعية وثقافية، تُسهم في دعم الرؤى الوطنية، وتحقيق الأهداف؛ فالأنظمة التعليمية عليها أن تجعل من توفير تلك الفرص لاكتساب المعرفة والمهارات هدفها الأصيل، لأن التحصيل الدراسي في حد ذاته ليس غاية بقدر ما تكون المعرفة التي تؤسس للمهارات التي يحتاجها سوق العمل وتتماشى مع متغيراته السريعة.

يحاول تقرير معهد اليونسكو للتعلُّم مدى الحياة (UIL)، الصادر هذا العام بعنوان (الاتجاهات الدولية للتعلُّم مدى الحياة في التعليم العالي)، الإجابة عن السؤال (كيف أسهمت مؤسسات التعليم العالي في دعم التعلُّم مدى الحياة؟)، من خلال استقصاء اعتمد على جهود 399 مؤسسة تعليمية من 96 دولة من العالم، في تهيئة سياساتها الداعمة لتعزيز هذا النوع من التعلم، إضافة إلى الحوكمة المؤسسية والتنفيذ، ومدى توسُّع هذه المؤسسات في الوصول إلى التنويع والمرونة، باعتبارها محركا لتطوير أنظمة التعلُّم مدى الحياة، والكشف عن فرص التعلُّم المتاحة.

لقد قدَّم هذا التقرير مجموعة من النطاقات الأساسية لفرص التعلُّم مدى الحياة، من خلال مفاهيم التنويع والمرونة، والانفتاح على أشكال جديدة أكثر ابتكارا؛ فهذه الفرص تحتاج إلى تحسين المهارات وإعادة تنظيمها وفق أشكال التعلُّم المعزز بالتكنولوجيا، فـ (تنمية المهارات المستقبلية والانتقال إلى عالم أكثر استدامة) لا يمكن تحقيقه سوى بوضع التعلُّم مدى الحياة في مركزية التنمية، وبذل الجهود الوطنية من قِبل المؤسسات التعليمية خاصة مؤسسات التعليم العالي والمؤسسات ذات العلاقة، لتصبح مهارات هذا التعلُّم مركزا لإنتاج المعرفة وبناء الكفاءات.

إن التعلُّم مدى الحياة ضرورة للتنمية المستدامة، فمن خلاله يتم تعزيز مهارات المستقبل وتطويرها، وتقديم أفضل الحلول وأسرعها لتلك المتغيرات والتحديات المفاجئة التي تواجه المجتمعات، إضافة إلى قدرته على تقييم التغيير الاجتماعي والمساهمة في توسيع المعارف واكتساب القدرات، والتفاعل مع أفراد المجتمع بفاعلية وإيجابية، ولهذا فإن التعلُّم مدى الحياة ضرورة لإنتاج مجتمع المعرفة لأنه يعزِّز تحمُّل مسؤولية إنتاج المعرفة وتطويرها ونشرها، وتقديم أفضل الوسائل والسبل من أجل إنتاج برامج ومبادرات جديدة تدعم تطوير البيئات التشاركية والتدريبية.

لقد فتحت التحولات الرقمية والأتمتة والأنظمة التكنولوجية الأخرى آفاق التعلُّم مدى الحياة، وأصبحت فرص التعليم والتعلُّم والتدريب متاحة ومتيَّسرة، إضافة إلى ما تقدمه مؤسسات التعليم والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية من فرص ومبادرات، حتى أصبح التعلُّم بدءا من المدارس والجامعات والأسر والمجتمع عموما وليس انتهاء بمؤسسات العمل، قادرا على فرض تغييرات في قدرة أفراد المجتمع على اكتساب المعارف وتطويرها وتنفيذها وفق معطيات التنمية وآفاق التحولات المجتمعية، ولذلك فإن بيئات التعلُّم المفتوحة المرنة وحدها القادرة على إنتاج أجيال من المواطنين القادرين على التعلُّم مدى الحياة، وبالتالي هم وحدهم الذين يتسمون بالمرونة والقدرة على التغيُّر بما يتوافق مع متطلبات مجتمعهم.

إن المواطنين الذين يتعلمون مدى الحياة، هم المواطنون الإيجابيون، الذين يمتلكون المهارات الأساسية ومهارات المستقبل، وهم الذين يتكيَّفون مع بيئات العمل ويساهمون بفاعلية في بناء مجتمعاتهم، ولهذا فإن علينا جميعا أفراد ومؤسسات أكاديمية وثقافية وإعلامية، تهيئة فرص التعلُّم مدى الحياة، ومساعدة الآخرين ومساندتهم لتيسير الوصول إليها، فهناك الكثير من أفراد المجتمع ممن تغيب عنهم هذه الفرص وتلك المبادرات حتى وإن كانت إلكترونية ومفتوحة.

وليكن التعلُّم مدى الحياة حقا أصيلا نسعى إليه عبر كافة الوسائل المتاحة، لنتمكَّن من تحقيق رفاهنا الاجتماعي والاقتصادي، ولنُسهم بفاعلية وإيجابية في بناء هذا الوطن الغالي.