رأي عُمان

بين نظامين.. تأملات آنية في نظرية «نهاية التاريخ»

 
يدور جدل كبير منذ سنوات حول مصير نظرية «نهاية التاريخ» التي صاغها المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما، والتي ترى أن «الديمقراطية الليبرالية الغربية» هي آخر ما يمكن أن يصل له التطور الأيديولوجي للعقل البشري، وأن الحروب والصراعات في المستقبل ستكون من أجل الحفاظ على نظم «الديمقراطية الليبرالية» وتنفيذها وليس لإقامة نظام عالمي جديد. ورغم أن هذه النظرية ظهرت مع سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة وفرحة الغرب بانتصاره «المطلق» وسيادته على العالم إلا أنها بقيت طوال السنوات التالية تثير الكثير من الأسئلة والنقاشات على كل المستويات السياسية والثقافية، ليس في الشرق وحده ولكن حتى في الكثير من الأوساط الغربية نفسها.

كانت نظرية فوكوياما ترى التاريخ على أنه عملية تطور منتظمة تقود نحو نقطة نهائية محددة. ولكن جوهر الجدل كان يدور حول ما إذا كانت الديمقراطية الليبرالية فعلا هي نهاية التطور الأيديولوجي، أم أنه من الممكن أن تظهر أنظمة وأيديولوجيات جديدة إمّا على أنقاض «الديمقراطية الليبرالية» أو تطويرا جذريا وجوهريا لها.

وفي العام الماضي عندما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية والتي بدا واضحا أنها حرب ليست ضد أوكرانيا وحدها ولكنها ضد «الغرب» والنظام العالمي الذي يعتمد على فكرة القطب الواحد وتمثله أمريكا بشكل أساسي ومن ورائها أوروبا، عندما بدأت تلك الحرب عاد الجدل قويا حول نظرية نهاية التاريخ، بل إن أكثر المفكرين في العالم اعتبروا هذه الحرب هي النهاية الفعلية لنظرية «نهاية التاريخ».

ومن الواضح أن الغرب الآن، وكما قال فوكوياما، يحشد كل طاقاته ليس للدفاع عن أوكرانيا، وحدها، ولكن للدفاع عن النظام العالمي الذي تقوضه هذه الحرب وتبحث خلالها عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب لا تكون الولايات المتحدة وأوروبا فيه إلا قطبا واحدا بين عدة أقطاب.

وبعيدا عن جدل الحرب نفسها التي مضى عليها حتى الآن أكثر من عام دون أفق واضح لحسمها في القريب العاجل، فإن الكثير من الأحداث التي شهدها العالم بعد ظهور النظرية مطلع تسعينات القرن الماضي أثبتت بالفعل أن التاريخ لم يتوقف، وأن الديمقراطية الليبرالية ليست نهاية التطور الأيديولوجي. ولا يمكن هنا إلا الاستدلال بالكثير من الشعبويات التي ظهرت في العديد من الدول «الديمقراطية الليبرالية»، والقوة المتزايدة لبعض الأنظمة الأوتوقراطية والشبه أوتوقراطية في مناطق مختلفة من العالم، بل إن البعض يرى أن الثورات العربية في جانب من جوانبها دليل قاطع أن حرية التاريخ بالمعنى «الفوكويامي» لا يتوقف. وهذا يضاف إلى التحديات المستمرة للديمقراطية الليبرالية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك ارتفاع مستويات الفقر والفوارق الاجتماعية، وصعوبات في تحقيق التكافؤ الاجتماعي والعدالة الاقتصادية، والأزمات البيئية العالمية التي تشكل تهديدا متزايدا لاستقرار النظام العالمي. وهذه العوامل التي رافقت النظرية تؤكد أن التاريخ لم يتوقف، وأن الديمقراطية الليبرالية ليست نهاية التطور الأيديولوجي، ولكنها ببساطة مرحلة في مسار التاريخ الذي يستمر في التطور والتغيير.

إن الغرب الذي يحشد كل قواه العسكرية والسياسية والاقتصادية من أجل الدفاع عن نظامه في وجه التغيير القادم والذي يتشكل الآن يحتاج أن يعي حجم الشرخ الكبير الذي شهده «النظام العالمي» طوال العقود الثلاثة الماضية والفوارق التي خلقها في الكثير من مناطق العالم وخاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط، كما عليه أن يعي أن الصراع الأيديولوجي والناس الذين يعيشون تحت أنظمة يصفها أنها «غير ديمقراطية» لا يزالون قادرين على التأثير بقوة على التاريخ وعلى مسارات، وأن القوى التي يصفها بأنها «أوتوقراطية» مثل روسيا، لا تزال قادرة على تحدي النظام الدولي، وتغييره.

وهذه المرحلة المهمة من مراحل التاريخ تطرح سؤالا مهما حول القدرة النسبية «للديمقراطيات الليبرالية» على الدفاع عن نفسها وعن الدول التي تسعى لتبني أفكارها أو النسخة الغربية «للديمقراطية»، كما يطرح الصراع أيضا تساؤلات حول مدى القدرة على زرع النسخة الغربية «للديمقراطية» في بقية المجتمعات التي لا ترى أن هذه النسخة متوافقة مع جميع المجتمعات والثقافات خاصة في ظل التوجه العالمي بهذه الدول لربط الديمقراطية الغربية بقبول قضايا ترى فيها الكثير من الدول تقويضا لأنظمتها الأخلاقية ومبادئها الدينية مثل موضوع قبول المثلية الجنسية وحتى موضوع الأسرة نفسها هل هي نواة المجتمع أم أن الفرد هو نواة المجتمع في تغييب لا تقبله كل المجتمعات لدور الأسرة.

وسواء انتصرت روسيا في هذه الحرب الفاصلة بين نظامين عالميين أم انتصر الغرب فإن التاريخ لن يتوقف وحركته ستبقى مستمرة على أيدي أولئك الذين يجرؤون على الحلم والتساؤل وتحدي الوضع الراهن، وسيبقى التاريخ متجددا والعقل البشري قادرا على إنشاء نظام أكثر عدالة وقدرة على استيعاب الثقافات الإنسانية مما استطاعته «الديمقراطية الليبرالية» إن كانت قد استطاعت فعل شيءٍ من ذلك خلال العقود الثلاثة المنصرمة.