أعمدة

أنساغ.. عربة تتهادى بالذكريات: «الأموات» بين قلم جيمس جويس وكاميرا جون هيوستن «7 من 9»

 
هناك فروق أكبر، ولذلك فهي أكثر أهميَّة، بين نصِّ جويس وفيلم هيوستن؛ فالفيلم يضيف شخصيَّة غريس (التي لا وجود لها في السَّلف الأدبي)، والتي يقدِّم الفيلم بها مقاطع من التَّرجمة الإنجليزيَّة المعنونة «عهود مغدورة» التي أجرتها إيزابيلا أوغستا Isabella Augustaمن الأصل الإيرلندي/ الغَيْلِي/ السَّلْتِيّ «حزنُ قلب فتاة»، وذلك بتعديلات لا تكاد تُذكر ولا تعني الكثير خاصَّة بالنِّسبة للقارئ العربي غير المطَّلع على كامل الترجمة الإنجليزيَّة للنص (غير المنجزة نسختها العربيَّة لغاية الآن على حدِّ علمي)، والمتوافرة بكثرة في المصادر الورقيَّة والإلكترونية الإنجليزيَّة لمن أراد بعنوان Broken Vows ، وذلك في أمثلة من قبيل throughout بدلا من through ، وwith a market ، عوضا عن and a market.

والحقيقة أن هذه الإضافة قد تكون الأكثر إثارة للجدل في الفيلم كلِّه، وهي إضافة تقول عنها دِبْرَه سنغماستر Deborah Singmaster بصورة جازمة إن جويس «ما كان ليوافق عليها، فقد كان لديه قليل من الوقت لدُعاة إحياء الُّلغة السَّلْتِيَّة» (35). ومهما يكن من أمر وجاهته، فإنه يمكن لاحتجاج سنغماستر أن يُتَفَهَّم ويُبحث في العوالم البيوغرافيَّة وتلك الخاصة بسياسات اللُّغة أكثر من قبوله كما هو في كون البناء الدرامي في السِّينما؛ ذلك أن من المؤكَّد أنه سيكون من المفاجئ بصورة غير مقبولة أن تنغمس غريتا في حالة من القتامة العاطفيَّة بمحض تأثير «معشوقة أوغريم» وحدها فحسب (فبرغم كل شيء، «التَّجلي» مفهومٌ جويسيٌّ وليس هيوستِنيَّا). ولذلك فإن من الضَّروري، من وجهة نظر سينمائيَّة (خاصة بالنظر إلى كلاسيكيَّة هيوستن الإخراجيَّة)، تقديم إشارة تومئ إلى أن غريتا على وشك المرور بتجربة روحيَّة عميقة، وإلى أنها جاهزة داخليَّا لاستقبال تجربة كتلك، و«التَّجلي» بها. وإذ يردد السيد غريس كلمات «عهود مغدورة» فإن المونتاج يرينا تقطيعات بينيَّة (intercuttings) متعاقبة للقطات مقرَّبة لغابرييل وغريتا يبدو فيها الأول لامباليًا وروتينيًّا، بينما تبدو الثَّانية مستغرقة في التأمُّل والوجد. بوضوح شديد، تقدِّم «عهود مغدورة» تعليقًا مشبوبًا يخصُّ ذاكرة غريتا في مسرى استيقاظها الرُّوحي الذي سيبلغ ذروته مع غناء «معشوقة أوغريم».

وفي هذا السِّياق من البناء الدرامي التدرُّجي تتحرَّر كاميرا هيوستن للمرة الأولى في الفيلم بينما تغني الخالة جوليا «متزيِّنةٌ للزّفاف»، وتستكشف ذاكرة غريتا في ما لا أثر له البتَّة في نصِّ جويس بدخول غرفتها وإبراز تذكارات من سنوات طفولتها، ويفاعتها، وشبابها. وما هذه العودة إلى الماضي (أو عودة الماضي) إلا إيماء آخر إلى ذلك الحدث الجَلل الذي سيغمر غريتا قريبًا.

وفي هذا السِّياق من البناء الدِّرامي التدرُّجي أيضًا ينبثق افتراق شائق ينبغي ذكره بين نصِّ جويس وفيلم هيوستن، وهذا الافتراق يتطلب تأويلًا سينمائيًّا وليس إضافة فيلميَّة؛ فإذ تصبح الموسيقى والأوبرا موضوعًا لتجاذب أطراف الحديث على مائدة العشاء تتحدث الخالة كيت عن باركنسُن، الصَّادح الأوبرالي الوحيد الذي «كان يرضيني، لكنني أفترض أن أيًّا منكم لم يسمع به» (36). (وعليَّ الإشارة هنا إلى أن اسم باركنسُن يجلب صدى واضحًا لمرض باركنسُن العصبي الذي كان جيمس باركنسُن James Parkinson أول من وصفه في عام 1817، وهو مرض غير غريب على الإطلاق عن ثيمة الشَّلل المجازي الذي يحيق بشخصيَّات جويس). ووفقًا للخالة كيت فإن باركنسُن كان «صاحب أنقى صوت «صادح» أوبرالي يمكن أن يصدر من حنجرة رجل» (37). يُعبِّر هذا التذكُّر، في نصِّ جويس، عن نفسه من خلال صيغة الخطاب المباشر (direct discourse)؛ فالرَّاوي لا يدلي بتعليق حول مزاج الشخصيَّة أثناء تلفظ الخالة كيت بعبارتها، ولا يقدم أية إفادة عن استثمار عاطفي محتَمَل.

والفيلم «مخلصٌ» (إذا كان لا بد من هذه الكلمة) في تمثيل الحوار، لكنه يضيف إليه تأويله الخاص، وبذلك فإنه يمنحه معنى جديدًا؛ إذ حين تبدأ الخالة كيت في الحديث عن باركنسُن فإننا نراها أولًا من خلال لقطة ثنائيَّة (two-shot)، غير أن الكاميرا ما تلبث أن تُقَرِّب الصُّورة عبر تقنية «زوم إلى الداخل» (zoom in) ببطء لتعزل وجه الخالة كيت الذي يكتسي فجأة بمُحَيَّا حالم في لقطة مقرَّبة (CU)، وتتريث عليه. وحيث تتذكر باركنسن الذي كان «صوتًا إنجليزيًّا أوبراليًّا جميلًا، فيه صفاء، وعذوبة، وشجى» (38) فإن الخالة كيت تتأوَّه بصورة حنينيَّة وحنون حقًا. نسمع هنا موسيقى قادمة من خارج مادة الأحداث/ غير داياجيتي (nondiegetic) في ذات اللحظة التي يقطع فيها المونتاج البصري إلى غريتا المأخوذة عميقًا بتذكُّر الخالة كيت بينما تستمر الموسيقى في اللَّقطة الجديدة موحية بارتباط معيَّن بين ذاكرتَيْ المرأتين. وهنا تقاطعُ لِلِي تلك الحالة الجليلة لافتة انتباه غريتا إلى مسألة دنيويَّة باهتة تتعلق بأن الحلوى جاهزة، فتجيب غريتا بهزَّة مفاجئة برأسها وكأنها أفاقت من حلم عميق، ويقطع المونتاج إلى لقطة ثلاثيَّة (three-shot) نرى غابرييل في خلفيَّتها بينما يتساقط الثَّلج خلف النَّافذة.

محاججتي هنا أن تحقيق النُّسخة السِّينمائيَّة من تذكُّر الخالة كيت لباركنسُن تجعل من الجليِّ أنها كانت بصورة ما منجذبة رومانسيًّا إلى ذلك الصَّادح الأوبراليِّ؛ فتأوُّهها، ونبرة صوتها، وتعبير وجهها، وحركة عينيها، ولغة جسدها كلها تدلُّ على شيء أعمق من المرور العابر بباركنسُن في تصوير المشهد في نسخة جويس الأدبيَّة. وكما ترينا الكاميرا، فإن ردَّة فعل غريتا على تذكُّر الخالة كيت مماثلة لتلك التي أبدتها إبان الاستماع إلى «عهود مغدورة» في وقت أبكر من الفيلم. ومرة أخرى، فإن هذا تهيُّؤٌ آخر للحظة «التَّجلي» و«البوح».

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(35): اقتبست في:

Bachelor and Litz, 256.

(36): جيمس جويس، الأموات، عبدالمنعم المحجوب، 45. يعتمد الفيلم نفس العبارة في أصلها.

(37): نفس المصدر السابق، 46. يعتمد الفيلم نفس العبارة في أصلها.

(38): نفس المصدر السابق. يعتمد الفيلم نفس العبارة في أصلها.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني