عمان الثقافي

«تغريبة القافر» بين منطق النُدرة وغرائبية الوفرة!

 
مكان واحد لا يغادرونه»! وهنا يتبدى لنا «الوعري» في صورة مُشابهة لصورة الماء الذي لا يسكن في مكان بل يسمح لنفسه بالتدفق، وهذا ما نلمسه أيضا في التركيبة النفسية لشخصية «سالم» المغامر الحر وراء ضجيج الأرض وأسرارها، ومن قبلهما ارتحل كثير من الرجال على نقيض الحالة السكونية التي تشوب نساء القرية فيما لو استثنينا المرضعة آسيا.

من ابن لغريقة إلى قافر ماء

خمسة عشرة عاما مرّت منذ وفاة مريم، نشط فيها الفلج واخضرت الدنيا، وسالت الغدران واكتست الجبال بالخضرة. ذابت بيوت الناس وجرفت السيول كل شيء أمامها، فذهب الناس إلى الكهوف، لكن عقب هذه الوفرة العارمة استيقظ الناس مجددا على واقع النُدرة. هكذا نعيشُ كقراء النضال الذي خاضته قرية المسفاة، هي القرية التي يمكن أن تكون صورة طبق الأصل من قرى كثيرة في عُمان في تلك الفترة الزمنية البعيدة. النضال من أجل الماء هو الذي يوحد أهل القرية رغم فرقتهم. المطرقة الكبيرة التي تشق القنوات، «البتك» و»المشجب» وفصوص الثوم، وقانون الطبيعة الذي ينصّ على أنّ «من يُحي الأرض فهي له».

علينا ألا نغفل تغير الدلالة عندما تمّ استبدال اسم «سالم» من «ابن الغريقة» إلى «القافر»، من الوفرة إلى الندرة، من الوجود إلى البحث، من سبب للموت إلى سبب للحياة! كما علينا أن نتأمل دلالة انصات سالم لضجيج قلبه عندما امتلأ بالحبّ، لقد سكن الحب فيه كما يسكن ينبوع ماء. بل إنّ صوت الحبّ صار أقوى من صوت الماء «فحتى نداء الحبّ يأتي من عروق الأرض البعيدة».

المطارق والمخيلة والأحلام

تصعد مريم لتأخذ ماء الفلج من ممر جبلي طويل أكثر من مرة في اليوم، وتعهد إليها الأسر الميسورة بتطريز الملابس. لكن ترافق مع حملها المتأخر صداع وحشي، بدا كطرق في الرأس، ولم تكن ترتاح إلا عندما تضع رأسها في الماء، حتى أنّ الكي بالنار لم يكن يدفع عنها الأوجاع. وكأن المطارق التي طرقت رأس الأمّ، هي نفسها المطارق التي سيحملها «سالم» ليقرع بها قنوات الماء وصخورها الصلبة.

ولأنّ الناس يريدون قصّة تُحكى، فقد اخترعوا قصّة الساحرة التي أكلت الزوجة وغيبت عقل الزوج والابن. إذ لا يمكن لأهل القرية أن ينظروا للأشياء إلا من منطق خيالهم الساذج، كما حدث عندما شاهدوا سالم يُصغي لهدير الماء تحت الأرض، فقالوا: «أهل الأرض يكلموه» ؟

وبشكل غرائبي تتقاطع قصّة «غانم» الذي ناداه طبل الرحماني فلم يتمكن من صده مع قصّة الفتاة في إحدى القصص العالمية التي لم تقاوم الحذاء الذي أخذها في جولة رقص مميتة، حيث لم يتوقف الحذاء عن دفعها للرقص كما لم يتوقف غانم عن طرق الطبل، فقطع الطرقات والفيافي والجبال إلى أن اختفى من الوجود!

وليست هي المخيلة وحسب من تحكم بسطوتها البلاد، فثمّة علاقة وطيدة بين أهالي القرية وأحلامهم المرتبطة بالماء أيضا، فالمرضعة آسيا حلمت بيد طفل تخرج من صفحة الماء تطلب المساعدة، وسالم حلم بأمّه الغريقة عندما سُجن في قناة الماء، وقد رأى حميد بو عيون في منامه أنّ النار تأكل كل شيء في طريقها، وأنّ مياه الينابيع والوديان تبخرت، فاختفت الدعة ولم يعد الناس يشعرون بالارتواء!

الخطة والمفاتيح واللعنة

تُقدم الرواية زخما معرفيا حول الأفلاج، فتدخل المعرفة بخفة ودراية ضمن سياق مدروس دون أن يترهل السرد أو يضعف، فنذهب برفقة القافر للبحث عن «أمّ الفلج» الرئيسية ليرتاح الناس من محنة العطش، لنكتشف كم هو بحث شاق، فحتى عندما عثروا على «سواعد» الفلج و»فروضه» كانت ثمّة مخاوف أخرى في الطريق. نكتشف أيضا أنّ الأفلاج تختلف من قرية لأخرى باختلاف الطبيعة الجغرافية. تصفُ الرواية الدقة الهندسية في التوغل لعشرات الأمتار، تصف الميلان المناسب لتدفق الماء، التهوية والحواجز الحجرية لدعم سقف القناة من الانهيار. نعرف أيضا أنّ المياه أنواع: مياه كريمة، مياه مخادعة، ولكل مياه خطّة ومفاتيح. كان «سالم» يعشق المياه التي تتخفي تحت الصخر، دون أن يعلم أحد سر سيلانها حتى في سنوات المحل. ندركُ أيضا أنّ الفلج الذي به «خاتم»،هو مكان لا يستطيع ولوجه إلا أصحاب الأجساد النحيفة.

ولا ينسى القاسمي التعريج على الأساطير التي تتناول قصّة النبي سليمان الذي أمر بشق الأفلاج في عُمان. وعندما غزلت «نصرا» زوجة سالم الصوف ريثما يعود من غيابه الطويل، سمّت الخيوط بأسماء أفلاج دخلها «سالم»، خيط «السمدي»، خيط «العفريت» الذي حفره الجن... وكأنّ كل «خيط هو درب يأخذها إلى حبيبها».

تصف الرواية الخطّة البشرية التي تُدار باقتدار ليُحافظ الناس على حياتهم. لكن الأمر لا يخلو من مفاجآت قدرية مؤسفة. فالبحث عن الماء قد يكون ثمنه حياة أحدهم، كما حدث عندما أخذت الحجارة المتهاوية حياة «عبدالله بن جميّل»، «فالماء الذي يُعيد الحياة للقرى مصحوب بلعنة»، ولذا قرر القافر أن يترك مهمته المميتة، قبل أن يُدرك أنّ القفر هو قدره ولعنته، فتحرير الماء بطريقة أو بأخرى كان يعني تحرر سالم من خدمة الآخرين، يغدو حرا مُصغيا للصوت القادم من رأسه، ولذا ظل ينصتُ إلى هدير الأرض الذي يُناديه، بل يتوسل إليه أن يُخرجه.

حياة الفلج تضمر موته!

أكثر ما يُضفي المحلية على الرواية، ليست قصّة الأفلاج والمخيال الشعبي، وإنّما الحوارات التي سمح لها القاسمي بجرأة لأن تنمو بين ثنايا النصّ، تاركا للسياق مهمة الإلماح عن المعاني من قبيل: «طارش»، «الطوي» «الوقاية»، «البيدار»، «صوار الفلج»، شجرة السوقم، السدر، المناجير، النشوق، قنطرة الفلج، الهاندوة..إلخ. الأمر الذي يجعلنا نصدق ولوجنا المجازف لقرية المسفاة.

وكما بدأت الرواية بمشهد سينمائي لاهث راكض، نتيجة لغرق الأمّ «مريم» في البئر، تُغلق الرواية دائرتها بحدث لا يقل دراماتيكية عندما أوشك الابن «سالم» على الغرق في قناة الفلج التي كان يُعيد الحياة إليها، وكأن حياة الفلج تضمر موته. فحتى في لحظة النجاة المؤكدة، كان ثمّة ما يُعيده للماء في كل مرّة كلعنة لا فكاك منها. جرفه الماء إلى الأعماق، إلى الظلمات الحالكة ليعيش ظروفا قاسية، وفي وقت الجوع تمثلت له الحكمة العُمانية التي تقول: «بو أصغر منك كله».

لكن السؤال: هل مادة حياته هي مادة هلاكه؟ هل غرقه الأخير هو غرقه الأول؟ هل ظلمة الفلج هي ظلمة رحم أمّه؟ وهل المرأة التي أخذته إلى الغرق الأول هي المرأة التي أنجته من غرقه الأخير عبر حالة حُلمية متداعية؟

هدى حمد صحفية وروائية عمانية