ممرات جديدة للتاريخ قراءة في كتاب «العلماء والسلطة في عمان» لناصر السعدي
تاريخ
الاحد / 6 / ذو الحجة / 1444 هـ - 15:02 - الاحد 25 يونيو 2023 15:02
تقديم وأسئلة:
اختار الباحث ناصر بن سيف السعدي في كتابه «العلماء والسلطة في عمان» الصادر عام 2022 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، ممرا ومضيقا جديدا شقه وافترعه من بحر التاريخ العماني، وهو بحر واسع متلاطم الأمواج لا قرار لمحيطه، تاريخ تتعدد حوله المعلومات وتختلف وتتناقض، ولكن الباحث، اجتنابا لكثير من المزالق المنهجية، حصر اشتغاله في رصد العلاقة بين العلماء والسلطة، عبر مختلف أزمنة الدراسة المحصورة بين النصف الأول من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن العشرين. وبذلك وجه اشتغاله وحصره لغاية التركيز والخروج بنتائج مفيدة، وقد اجتهد الكاتب أن ينظر إلى فتات مادته البحثية نظرة موضوعية مستفيدا ليس فقط من الكتب المطبوعة التي وثقت مختلف مراحل التاريخ العماني، إنما كذلك اجتهد في نبش مخطوطات طي النسيان، كان لها دور في ترقيع مساحات بحثه إلى جانب تعريف القارئ بتفاصيل جديدة في إطار إشكالية البحث المحدد بقطبي الرحى في تجاذب مسار التاريخ العماني، وهما العلماء والسلطة.
يمكن القول إن العالِم قديما كان يشكل سلطة اجتماعية، أقول قديما أي ما قبل زمن التخصصات التي نعيش، فلم يكن العالم كما هو الحال عليه الآن محددا في تخصصه، سواء في الفقه أو غيرها من العلوم الإنسانية والدقيقة، بل كان العالم قديما طبيبا وفقيها وقاضيا وفلكيا ومستقبليا بل أحيانا كان قائد جيوش كما رأينا في بعض فقرات هذا الكتاب. لذلك فإنه كان يشكل سلطة موازية ومعادلة للسلطة السياسية، أخذ التعامل معها أشكالا وأطوارا بين الاحتواء والتنكيل. لذلك جاء هذا الكتاب أقرب إلى الفكر منه إلى التاريخ، وذلك لأنه مبني على «فكرة» اصطادها الباحث من بحر هذا التاريخ وتتبع منطلقاتها وتكونها ثم بنى عليها استنتاجاته. وقد وفق إلى حد بعيد في إبراز مختلف أوجه هذه العلاقة بين قطبيها المحركين لدفاف الحياة في تاريخ الدولة العمانية القديمة (تحديدا في الفترة من 1749 إلى 1913) وهنا أطرح سؤالا على حواف المنهج، يتعلق بالقرن السابق لمنطلق الدراسة، أي القرن السابع عشر، حيث انتهى عهد النباهنة في 1624 كما تذكر مختلف المصادر، بالتالي هل الكاتب بدأ بالقرن اللاحق لنهاية عهد النباهنة هروبا وتكاسلا من التعرض لتلك الفترة الغامضة؟ وهل غياب المصادر يعتبر عذرا للباحث وسماحا له من الخوض في مزيد من التقصي؟ ألا يمكن تلمس شيء من النتائج تتعلق بموضوع الدراسة، لو أضاف الباحث - مثلا- منهجا استنباطيا يمكن به استنتاج علائق تاريخية ثاوية (إضافة إلى المنهجين التي أعلن عنهما في بداية الدراسة، وهما المنهج الاستقرائي والمنهج التحليلي) وذلك عبر قراءة الوثيقة الأدبية الوحيدة - تقريبا - التي وصلتنا من تلك الفترة وهو الشعر ذو الطابع النظمي بما يحتويه من منعرجات تغطي مجموعة من المناسبات الاجتماعية والسياسية، خاصة وأنه في طيات كتابه «العلماء والسلطة في عمان» يستشهد ببعض الأبيات الشعرية لتثبيت معلومات تاريخية، ألا يمكن بالتالي أن نجد وجوها لهذه العلاقة النبهانية بين عالم الدين والسلطة التي دامت فترة غير هينة، خمسة قرون، وذلك بقراءة متون شعراء مثل الستالي والكيذاوي وسليمان النبهاني، وغيرهم؟ ربما سنجد ما يمكن أن يشكل تمهيدا لفهم العلاقة الغامضة في عصر النباهنة بين العلماء والملوك، وبالتالي فهم مجموعة من التفاصيل التي نجهلها عن تلك الفترة الطويلة الغامضة في بحر التاريخ العماني. سؤال آخر يتعلق بالمحيط العربي العام لفترة الدراسة، حول البحث عن أمثال وأشباه لهذه العلاقة بين العلماء والسلطة عبر البحث في تاريخ جوامع عريقة في القاهرة وتونس والمغرب (الأزهر،الزيتونة، القرويين) حيث شكلت هذه الجوامع مادة خصبة لقراءة طبيعة العلاقة بين السلطة الحاكمة وعلماء الدين، في فترات متفرقة من التاريخ العربي. هذه الأسئلة أطرحها ليس لرمي البحث العميق والثري بالنقص والتقصير، إنما أطرحها لاستجلاء الفهم من باحث متخصص في التاريخ العماني، فاجأنا ببحث متمكن ممنهج جعل المركز الثقافي العربي للأبحاث ودراسة السياسات يتبنى طباعته.
مفاصل الكتاب وأقسامه:
بدأ الباحث كتابه بمسح بنيوي لطبيعة السلطة السياسية عبر التعريف بمجموعة من الجوانب التي تميز السلطة السياسية العمانية تاريخيا، مثل ألقاب الوجاهة (سلطان، إمام، سيد) ودلالات كل لقب وطبيعته المتقلبة عبر مراحل الزمن، حيث يأخذ لقب السيد مثلا صفة اجتماعية أكثر من الصفات الأخرى، ولقب السلطان صفة سياسية وتاريخية، والإمام صفة دينية. ثم تحدث الباحث عن طرق تداول الحكم الذي غلب عليه الطابع الوراثي سواء في الدولة اليعربية أو الدولة البوسعيدية، ثم جاء على ذكر أمراء المناطق من السادة والولاة وشيوخ القبائل، والفترة التي شابها الكثير من التقسيم داخل الدولة الواحدة حسب قوة وسلطة كل أمير ووالي وشيخ. ثم أفرد الباحث حديثا داخليا عن الأحوال الأمنية والمعيشية في كل مرحلة، ومقتضيات الشد والجذب انعكاسا لتلك الأحوال وطبيعتها في مراحل مختلفة من التاريخ قيد الدراسة، حيث يرصد الباحث في هذا الفصل مجموعة من النزاعات القبلية والمناطقية التي كانت تنشأ وما ترتب عنها من ضحايا وكوارث. وحسب الكاتب: يرصد المؤرخ ابن رزيق أكثر من 32 نزاعا، بينما يوثق لوريمر حوالي 35 نزاعا. يحمل الفصل الثاني عنوان «رؤى العلماء وأفكارهم السياسية» وقد أسهب الباحث في الحديث عن أربعة من العلماء العمانيين كان لهم دور مهم في مجموعة من الأحداث في تلك الفترة وهم الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ صالح بن علي الحارثي، والشيخ عبدالله بن حميد السالمي. رغم أن هؤلاء العلماء برزوا في أوقات زمنية متقطعة إلا أن الباحث استخدم طريقة استطاع بها تفريد بحثه وتمييزه باعتماده على الموضوعات ثم الأسماء، مبتعدا بالتالي عن التتابع الزمني الخطي التي سارت عليه معظم دراسات التاريخ العماني، وذلك حتى يتمكن من حصر وتكثيف فكرته المربوطة بين حبال شقي العلاقة، العلماء والسلطة، في مختلف مراحلها؛ ونتيجة لذلك سيجد القارئ نفسه أمام الأعلام أنفسهم ولكن منظورا إليهم في كل مرة حسب الفكرة التي يقترحها الباحث. فمثلا في موضوع موقف العلماء من التدخل الفارسي، يتحرك البحث في أكثر من نقطة زمنية راصدا حالة العلماء وموقفهم في كل فترة من فترات ذلك الصراع التاريخي الذي يأخذ أكثر من طبيعة، بين استنجادي واستعماري، وكان سببه استقواء بعض السياسيين بالخارج من أجل قمع التمردات الداخلية، كما فعل مثلا بداية الإمام سيف الصغير، من أئمة اليعاربة، حيث توسع الباحث في ذكر ظروف وإكراهات والتباسات مرحلة حكمه التي تميزت بالتضعضع، وطبيعة موقف العلماء في كل مرحلة من مراحل تلك الصراعات. والبحث اتسم بالموضوعة في هذا السياق، بارتهانه للمعطيات التي حصل عليها وتفاصيل الأحداث التي شابت كل مرحلة، حيث من أهم مآثر هذا البحث أن الباحث التجأ إلى مخطوطات عديدة لتوسيع مادة بحثه، ولم يكتف بالكتب المطبوعة. كما أن بحثه اتسم بالتأمل التفكيكي في ذكر مواقف علماء وحكام، وذلك وفقا للأحداث المسطرة عن كل فترة، يقول مثلا في الصفحة 99: «في عهد الإمام عزان بن قيس (نتيجة للتمرد) سممت موارد المياه في وادي الجزي وهناك كثير من حالات التردي التي تعرضت لها البلدات والمناطق العمانية» ولكنه يعود في صفحة أخرى من الكتاب، إلى ذكر أمثلة عن عدالته في ما يتعلق باسترداد الأموال وإيداعها بيت المال. استطرد الباحث كذلك في «قسم العطايا والهبات» في ذكر مجموعة من الحوادث التي تتعلق بقبول العلماء العطايا من الحكام وطبيعة هذه العطايا، يقول في صفحة 159 «تشير النصوص السابقة إلى فطنة العلماء والفقهاء، وإلى إدراكهم الغايات التي تقف وراء عطايا السلاطين، ومنها محاولة كسب مواقفهم السياسية، أو منعهم من الخروج على حكمه. ومع ذلك، فإن قبول العطاء من عدمه مسألة تباينت فيها آراء الفقهاء والعلماء أنفسهم ومواقفهم، فقبل بعضهم متذرعين بحجج كثيرة، منها أنه كان مقابلا لممارسة القضاء أو مناصب أخرى». يختتم البحث بباب موسع حمل عنوان «العلاقة بين العلماء والإمامين أحمد بن سعيد وعزان بن قيس» حيث يشتمل هذا الفصل على مجموعة من المعلومات حول حياة الإمامين قبل السلطة وأثناءها وبعدها، ودور العلماء في تثبيت كل منهما، وطبيعة الأحوال السياسية والاقتصادية في ما يتعلق الموانئ وفرض الضرائب، حيث وضع في الميزان مجموعة من الصراعات والإكراهات الداخلية والخارجية التي اضطر الإمامان إلى خوضها كلا على حدة، ووفق ظروف كل زمن ومرحلة، حيث عدد المؤرخ ابن رزيق مثلا خمسة حروب اضطر الإمام أحمد بن سعيد إلى خوضها قبل أن تستقر له أمور الدولة.
خلاصة:
في قراءتنا لكتاب «العلماء والسلطة في عمان» نقف أمام بحث لمّاح يأخذ طابع الثورية في قراءة التاريخ، في حين أخذت قراءة التاريخ العماني سواء من قبل المؤرخين الرواد أو الباحثين الجدد طابعا كرونولوجيا من ناحية الشكل وتعظيميا طهرانيا من ناحية المضمون، اشتق السعدي له طريقا يتسم بالنزوع إلى التفكيك والتساؤل الموضوعي، مع الاحتفاظ بالجانب التقديري والتفهمي لطبيعة كل مرحلة وإكراهاتها، مع عدم الارتهان للنتائج الجاهزة بغرض اكتشاف مناطق جديدة وطرية للتاريخ، وهو في كل ذلك اختار مضيقه الخاص، متجنبا ما يقوم به حاطب ليل في استكناه مادته من بحر التاريخ العماني العريض والمتلاطم. وقد أسعفه المنهج الذي اختطه في حصر اشتغاله حول العلاقة التي ميزت السلطة السياسية ورجال الدين كما حصر بحثه في فترات معينة، منحت لبحثه صفة تبئيرية، لتنكشف لنا بالتالي تفاصيل علاقة لم تكن تأخذ منحى واحدا إنما طبعتها تقلبات عديدة حسب ظروف كل مرحلة وزمن.
محمود الرحبي كاتب وروائي عماني
اختار الباحث ناصر بن سيف السعدي في كتابه «العلماء والسلطة في عمان» الصادر عام 2022 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، ممرا ومضيقا جديدا شقه وافترعه من بحر التاريخ العماني، وهو بحر واسع متلاطم الأمواج لا قرار لمحيطه، تاريخ تتعدد حوله المعلومات وتختلف وتتناقض، ولكن الباحث، اجتنابا لكثير من المزالق المنهجية، حصر اشتغاله في رصد العلاقة بين العلماء والسلطة، عبر مختلف أزمنة الدراسة المحصورة بين النصف الأول من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن العشرين. وبذلك وجه اشتغاله وحصره لغاية التركيز والخروج بنتائج مفيدة، وقد اجتهد الكاتب أن ينظر إلى فتات مادته البحثية نظرة موضوعية مستفيدا ليس فقط من الكتب المطبوعة التي وثقت مختلف مراحل التاريخ العماني، إنما كذلك اجتهد في نبش مخطوطات طي النسيان، كان لها دور في ترقيع مساحات بحثه إلى جانب تعريف القارئ بتفاصيل جديدة في إطار إشكالية البحث المحدد بقطبي الرحى في تجاذب مسار التاريخ العماني، وهما العلماء والسلطة.
يمكن القول إن العالِم قديما كان يشكل سلطة اجتماعية، أقول قديما أي ما قبل زمن التخصصات التي نعيش، فلم يكن العالم كما هو الحال عليه الآن محددا في تخصصه، سواء في الفقه أو غيرها من العلوم الإنسانية والدقيقة، بل كان العالم قديما طبيبا وفقيها وقاضيا وفلكيا ومستقبليا بل أحيانا كان قائد جيوش كما رأينا في بعض فقرات هذا الكتاب. لذلك فإنه كان يشكل سلطة موازية ومعادلة للسلطة السياسية، أخذ التعامل معها أشكالا وأطوارا بين الاحتواء والتنكيل. لذلك جاء هذا الكتاب أقرب إلى الفكر منه إلى التاريخ، وذلك لأنه مبني على «فكرة» اصطادها الباحث من بحر هذا التاريخ وتتبع منطلقاتها وتكونها ثم بنى عليها استنتاجاته. وقد وفق إلى حد بعيد في إبراز مختلف أوجه هذه العلاقة بين قطبيها المحركين لدفاف الحياة في تاريخ الدولة العمانية القديمة (تحديدا في الفترة من 1749 إلى 1913) وهنا أطرح سؤالا على حواف المنهج، يتعلق بالقرن السابق لمنطلق الدراسة، أي القرن السابع عشر، حيث انتهى عهد النباهنة في 1624 كما تذكر مختلف المصادر، بالتالي هل الكاتب بدأ بالقرن اللاحق لنهاية عهد النباهنة هروبا وتكاسلا من التعرض لتلك الفترة الغامضة؟ وهل غياب المصادر يعتبر عذرا للباحث وسماحا له من الخوض في مزيد من التقصي؟ ألا يمكن تلمس شيء من النتائج تتعلق بموضوع الدراسة، لو أضاف الباحث - مثلا- منهجا استنباطيا يمكن به استنتاج علائق تاريخية ثاوية (إضافة إلى المنهجين التي أعلن عنهما في بداية الدراسة، وهما المنهج الاستقرائي والمنهج التحليلي) وذلك عبر قراءة الوثيقة الأدبية الوحيدة - تقريبا - التي وصلتنا من تلك الفترة وهو الشعر ذو الطابع النظمي بما يحتويه من منعرجات تغطي مجموعة من المناسبات الاجتماعية والسياسية، خاصة وأنه في طيات كتابه «العلماء والسلطة في عمان» يستشهد ببعض الأبيات الشعرية لتثبيت معلومات تاريخية، ألا يمكن بالتالي أن نجد وجوها لهذه العلاقة النبهانية بين عالم الدين والسلطة التي دامت فترة غير هينة، خمسة قرون، وذلك بقراءة متون شعراء مثل الستالي والكيذاوي وسليمان النبهاني، وغيرهم؟ ربما سنجد ما يمكن أن يشكل تمهيدا لفهم العلاقة الغامضة في عصر النباهنة بين العلماء والملوك، وبالتالي فهم مجموعة من التفاصيل التي نجهلها عن تلك الفترة الطويلة الغامضة في بحر التاريخ العماني. سؤال آخر يتعلق بالمحيط العربي العام لفترة الدراسة، حول البحث عن أمثال وأشباه لهذه العلاقة بين العلماء والسلطة عبر البحث في تاريخ جوامع عريقة في القاهرة وتونس والمغرب (الأزهر،الزيتونة، القرويين) حيث شكلت هذه الجوامع مادة خصبة لقراءة طبيعة العلاقة بين السلطة الحاكمة وعلماء الدين، في فترات متفرقة من التاريخ العربي. هذه الأسئلة أطرحها ليس لرمي البحث العميق والثري بالنقص والتقصير، إنما أطرحها لاستجلاء الفهم من باحث متخصص في التاريخ العماني، فاجأنا ببحث متمكن ممنهج جعل المركز الثقافي العربي للأبحاث ودراسة السياسات يتبنى طباعته.
مفاصل الكتاب وأقسامه:
بدأ الباحث كتابه بمسح بنيوي لطبيعة السلطة السياسية عبر التعريف بمجموعة من الجوانب التي تميز السلطة السياسية العمانية تاريخيا، مثل ألقاب الوجاهة (سلطان، إمام، سيد) ودلالات كل لقب وطبيعته المتقلبة عبر مراحل الزمن، حيث يأخذ لقب السيد مثلا صفة اجتماعية أكثر من الصفات الأخرى، ولقب السلطان صفة سياسية وتاريخية، والإمام صفة دينية. ثم تحدث الباحث عن طرق تداول الحكم الذي غلب عليه الطابع الوراثي سواء في الدولة اليعربية أو الدولة البوسعيدية، ثم جاء على ذكر أمراء المناطق من السادة والولاة وشيوخ القبائل، والفترة التي شابها الكثير من التقسيم داخل الدولة الواحدة حسب قوة وسلطة كل أمير ووالي وشيخ. ثم أفرد الباحث حديثا داخليا عن الأحوال الأمنية والمعيشية في كل مرحلة، ومقتضيات الشد والجذب انعكاسا لتلك الأحوال وطبيعتها في مراحل مختلفة من التاريخ قيد الدراسة، حيث يرصد الباحث في هذا الفصل مجموعة من النزاعات القبلية والمناطقية التي كانت تنشأ وما ترتب عنها من ضحايا وكوارث. وحسب الكاتب: يرصد المؤرخ ابن رزيق أكثر من 32 نزاعا، بينما يوثق لوريمر حوالي 35 نزاعا. يحمل الفصل الثاني عنوان «رؤى العلماء وأفكارهم السياسية» وقد أسهب الباحث في الحديث عن أربعة من العلماء العمانيين كان لهم دور مهم في مجموعة من الأحداث في تلك الفترة وهم الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ صالح بن علي الحارثي، والشيخ عبدالله بن حميد السالمي. رغم أن هؤلاء العلماء برزوا في أوقات زمنية متقطعة إلا أن الباحث استخدم طريقة استطاع بها تفريد بحثه وتمييزه باعتماده على الموضوعات ثم الأسماء، مبتعدا بالتالي عن التتابع الزمني الخطي التي سارت عليه معظم دراسات التاريخ العماني، وذلك حتى يتمكن من حصر وتكثيف فكرته المربوطة بين حبال شقي العلاقة، العلماء والسلطة، في مختلف مراحلها؛ ونتيجة لذلك سيجد القارئ نفسه أمام الأعلام أنفسهم ولكن منظورا إليهم في كل مرة حسب الفكرة التي يقترحها الباحث. فمثلا في موضوع موقف العلماء من التدخل الفارسي، يتحرك البحث في أكثر من نقطة زمنية راصدا حالة العلماء وموقفهم في كل فترة من فترات ذلك الصراع التاريخي الذي يأخذ أكثر من طبيعة، بين استنجادي واستعماري، وكان سببه استقواء بعض السياسيين بالخارج من أجل قمع التمردات الداخلية، كما فعل مثلا بداية الإمام سيف الصغير، من أئمة اليعاربة، حيث توسع الباحث في ذكر ظروف وإكراهات والتباسات مرحلة حكمه التي تميزت بالتضعضع، وطبيعة موقف العلماء في كل مرحلة من مراحل تلك الصراعات. والبحث اتسم بالموضوعة في هذا السياق، بارتهانه للمعطيات التي حصل عليها وتفاصيل الأحداث التي شابت كل مرحلة، حيث من أهم مآثر هذا البحث أن الباحث التجأ إلى مخطوطات عديدة لتوسيع مادة بحثه، ولم يكتف بالكتب المطبوعة. كما أن بحثه اتسم بالتأمل التفكيكي في ذكر مواقف علماء وحكام، وذلك وفقا للأحداث المسطرة عن كل فترة، يقول مثلا في الصفحة 99: «في عهد الإمام عزان بن قيس (نتيجة للتمرد) سممت موارد المياه في وادي الجزي وهناك كثير من حالات التردي التي تعرضت لها البلدات والمناطق العمانية» ولكنه يعود في صفحة أخرى من الكتاب، إلى ذكر أمثلة عن عدالته في ما يتعلق باسترداد الأموال وإيداعها بيت المال. استطرد الباحث كذلك في «قسم العطايا والهبات» في ذكر مجموعة من الحوادث التي تتعلق بقبول العلماء العطايا من الحكام وطبيعة هذه العطايا، يقول في صفحة 159 «تشير النصوص السابقة إلى فطنة العلماء والفقهاء، وإلى إدراكهم الغايات التي تقف وراء عطايا السلاطين، ومنها محاولة كسب مواقفهم السياسية، أو منعهم من الخروج على حكمه. ومع ذلك، فإن قبول العطاء من عدمه مسألة تباينت فيها آراء الفقهاء والعلماء أنفسهم ومواقفهم، فقبل بعضهم متذرعين بحجج كثيرة، منها أنه كان مقابلا لممارسة القضاء أو مناصب أخرى». يختتم البحث بباب موسع حمل عنوان «العلاقة بين العلماء والإمامين أحمد بن سعيد وعزان بن قيس» حيث يشتمل هذا الفصل على مجموعة من المعلومات حول حياة الإمامين قبل السلطة وأثناءها وبعدها، ودور العلماء في تثبيت كل منهما، وطبيعة الأحوال السياسية والاقتصادية في ما يتعلق الموانئ وفرض الضرائب، حيث وضع في الميزان مجموعة من الصراعات والإكراهات الداخلية والخارجية التي اضطر الإمامان إلى خوضها كلا على حدة، ووفق ظروف كل زمن ومرحلة، حيث عدد المؤرخ ابن رزيق مثلا خمسة حروب اضطر الإمام أحمد بن سعيد إلى خوضها قبل أن تستقر له أمور الدولة.
خلاصة:
في قراءتنا لكتاب «العلماء والسلطة في عمان» نقف أمام بحث لمّاح يأخذ طابع الثورية في قراءة التاريخ، في حين أخذت قراءة التاريخ العماني سواء من قبل المؤرخين الرواد أو الباحثين الجدد طابعا كرونولوجيا من ناحية الشكل وتعظيميا طهرانيا من ناحية المضمون، اشتق السعدي له طريقا يتسم بالنزوع إلى التفكيك والتساؤل الموضوعي، مع الاحتفاظ بالجانب التقديري والتفهمي لطبيعة كل مرحلة وإكراهاتها، مع عدم الارتهان للنتائج الجاهزة بغرض اكتشاف مناطق جديدة وطرية للتاريخ، وهو في كل ذلك اختار مضيقه الخاص، متجنبا ما يقوم به حاطب ليل في استكناه مادته من بحر التاريخ العماني العريض والمتلاطم. وقد أسعفه المنهج الذي اختطه في حصر اشتغاله حول العلاقة التي ميزت السلطة السياسية ورجال الدين كما حصر بحثه في فترات معينة، منحت لبحثه صفة تبئيرية، لتنكشف لنا بالتالي تفاصيل علاقة لم تكن تأخذ منحى واحدا إنما طبعتها تقلبات عديدة حسب ظروف كل مرحلة وزمن.
محمود الرحبي كاتب وروائي عماني