أثر المستشرق ناللينو في فكر طه حسين
السبت / 5 / ذو الحجة / 1444 هـ - 19:16 - السبت 24 يونيو 2023 19:16
أعتقد أن لغتنا العربية تمر بأزمة حقيقية صنعناها بأنفسنا حينما أهملنا العناية بها في مدارسنا وجامعاتنا، ليس من حيث قواعدها النحوية والبلاغية فقط وإنما من حيث تأويلها وتحليلها، ولعل القضية برمتها لا تختلف كثيرًا عما يحدث في مدارسنا ومعاهدنا منذ أكثر من قرن حينما لخصها طه حُسين بفلسفته المعهودة قائلا: «إنني مدين بحياتي العقلية لأستاذين عظيمين سيد علي المرصفي الذي كنت أسمع دروسه في الأزهر في أول النهار بعدها أذهب إلى الجامعة المصرية (الأهلية تأسست 1908م)، فاستمع إلى المستشرق الإيطالي كارلو الفونسو ناللينو Nalino, Carlo Alfonso (1872-1938م)، فالأول علّمني كيف أقرأ النص العربي القديم وكيف أفهمه، وكيف أتمثله في نفسي، وكيف أحاول محاكاته، وعلّمني الثاني كيف أستنبط الحقائق من النص، وكيف أوفق بين النصوص المختلفة، وكيف أصوغها آخر الأمر علمًا يقرأه الناس فيفهمونه ويجدون فيه شيئًا ذا بال».
لعل ما قاله طه حسين قد لخص الأزمة برمتها فمناهج اللغة العربية في معاهدنا ومدارسنا تستغرق في القواعد النحوية والبلاغية بعيدًا عن الدلالات الفنية للنص اعتقادًا من القائمين على تدريس اللغة بأن اللغة تعني القواعد بينما اللغة تستقي أهميتها من فهم النصوص أيًا كانت هذه النصوص فالأدب، أو التاريخ، أو الفلسفة... إلخ. وهي قضية كانت من أولويات اهتمامات طه حسين وخصوصًا في النقد الشعري الذي لا يختلف باختلاف فنونه التقليدية مدحًا ورثاءً ووصفًا وهجاءً فحسب، وإنما يختلف باختلاف موضوعاته التي قيل فيها والظروف التي أحاطت به حين قيل والمؤثرات المختلفة التي أثرت في قائليه وفي سامعيه أيضًا، وأثر السياسة في ظهور فنون مختلفة من الشعر العربي في مختلف العصور. لعل العقد الأول من القرن العشرين يُعد البداية الحقيقية لظهور مدارس النقد الأدبي في الثقافة العربية اعتمادًا على أن الأدب «شعرًا ونثرًا» هو مرآة للحياة ولا يمكن دراسة أي نص إلا إذا وقفنا على العصر الذي قيل فيه أو سبقه.
يعترف طه حسين بأن كل هذه المعاني لم نتعرف عليها إلا من خلال محاضرات الأستاذ «ناللينو»، فقد كان كل ما يمليه علينا من دروسه يعد جديدًا على أسماعنا وهو ما أحدث في نفوسنا أثرًا عميقًا وطبع حياتنا العقلية بفلسفة النقد الحديث وبفضل هذا الرجل وزميله «دافيد سانتلانا» david santillana. (1855-1931م) تأسست نهضة كبيرة في علوم اللغة والفلسفة والتاريخ تلقفها جيل من خريجي الجامعة المصرية وتعمقوا في دراساتهم وقد اكتشفوا أشياء لم تكن معروفة في مجال الأدب العربي فضلًا عن المعارف الإنسانية الأخرى، ويضيف طه حسين: «من الطبيعي أن يُحدث هذا التواصل مع المدارس الغربية أكبر الأثر في نفوسنا، وأن يطبع حياتنا بطابع النقد الحديث، لهذا تغيرت الكثير من الحقائق في التاريخ الأدبي وفي علوم الفلسفة وغير ذلك من المعارف التي كنا ندرسها».
قد يتساءل البعض لماذا كان طه حسين مختلفًا عن أقرانه من دارسي الأدب والفلسفة والتاريخ؟، لقد أتيح لهذا الشاب الذي كُف بصره منذ فترة مبكرة من حياته إلى أن يستمع إلى اساتذته بعقله وقلبه لا يهدأ له بال إلا إذا فهم دلالة كل نص وقارن بين مختلف النصوص وعرض كل ما سمعه أو قُرئ له على عقله ولم يستسلم لوجهة نظر لم يَقنع بها وقد حباه الله رؤية ثاقبة واعية مدركة لكل المعاني بدلالتها وسياقاتها لهذا، لم يرفض كل ما هو قديم وإنما راح يختار منه بعناية فائقة محللًا وناقدًا ومفسرًا لكل نص وفقًا لسياقاته التاريخية والاجتماعية وهو ما دفعه إلى أن يخوض في دروب شائكة رآها البعض مروقًا على كل ماهو أصيل بل مروقًا على الدين نفسه.
لم يقنع طه حسين بما كان يُنشر من كتب التراث التي لا تخضع للبحث ودراسة علماء النقد وبصراحة الرجل المعهودة يقول: «إن محاضرات ودروس الأستاذ ناللينو والأستاذ سانتلانا في الجامعة المصرية كانت الموجه الأول لنهضتنا العلمية في دراسة الأدب مباشرة أو بالواسطة، فقد وجهت الذين سمعوا منهما فبحثوا وتعمقوا وأحسنوا التفقه فيما درسوا أو قرأوا، ثم وجهت أجيالا من الشباب سمعوا على هؤلاء الطلاب حين أصبحوا أساتذة وقرأوا لهم حين أصبحوا مؤلفين». أعتقد أن الأستاذ ناللينو كان أكثر تأثيرًا على طه حسين من زميله رغم أن عمله في الجامعة لم يستغرق أكثر من عامين (1910-1911م) إلا أنه ترك أثرًا عظيمًا في أجيال متعاقبة من دارسي النقد الأدبي والشعري، ولعل ما كتبه طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي كان من تأثير هذا الأستاذ العظيم وإن لم يعترف بذلك.
يعد المستشرق الإيطالي ناللينو من أكثر العلماء الأوروبيين عناية بدراسة الآداب والعلوم العربية بعضها عبارة عن محاضرات باللغة العربية ألقاها في الجامعة المصرية أهمها: تاريخ الآداب العربية، وتاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى، بالإضافة إلى العديد من الكتب والمقالات لعل من أهمها: منتخبات من القرآن، وتكوين القبائل العربية، وقواعد ومفردات العربية العامية في مصر، والتنجيم الشعبي عند العرب، وشعر ابن الفارض والتصوف الإسلامي، ودراسة في المفردات والحركات العربية، والفلسفة الشرقية لابن سينا...إلخ. ومن هنا نلاحظ أن الرجل قد أوقف جُل حياته لدراسة آداب العرب وفنونهم وثقافتهم، وكان يجيد العربية بلغة فصيحة لا يُخطئ فهمها السامع وهو يلقي محاضراته على تلاميذه، ولعل من بين ما رواه طه حسين حينما تظاهر الطلاب وامتنعوا عن حضور دروسه بسبب الحرب الإيطالية-العثمانية (1911م) رغم محبتهم لهذا الأستاذ إلا أنه بمجرد أن دخل قاعة الدرس تحلّق حوله الطلاب وقال لهم بلغته العربية الفصيحة: «أنتم مثل الرجل الذي أراد أن يغيظ امرأته فخصى نفسه وكان السهم صائبًا».
لقد عرضت «مريم ناللينو» ابنة الأستاذ «ناللينو» على طه حسين أصول المحاضرات التي كان يلقيها والدها على طلاب الجامعة المصرية، وقد تحمس طه حسين لنشرها في دار المعارف المصرية (1955م) وقد كتب مقدمتها المؤلف نفسه، ويبدو أنه كان يعتزم نشرها إلا أن طه حسين قد أضاف إليها مقدمة جديدة غاية في الدقة والبلاغة، ولعل أهم ما يمكن أن نشير إليه فيما كتبه «ناللينو» في مقدمته ناصحًا طلابه: «لا تقتصروا أيها الطلاب على جمع أقوال أساتذتكم وتكرارها بل اعملوا فيها أنظاركم وقوة فطنتكم فإن سمعتم ما لم يقنعكم فاسألوا أستاذكم واطلبوا منه شرحا وافيا فالعصمة لله وحده، فليس من المستحيل أن يزل الأستاذ أحيانًا في كلامه، أو لا يدرك غاية الوضوح في بيانه».
لعل تدريس اللغة العربية وآدابها في مدارسنا وجامعاتنا في حاجة إلى هذا الفيض من المعارف النقدية تحفيزًا للطلاب على التفكير فيما يدرسونه من نصوص وعلى الأساتذة أن يعرضوا على طلابهم مختلف الآراء وعلى الطلاب أن يختاروا ما يناسب فهمهم وفقًا لمداركهم وهي وظيفة المعلم والأستاذ شريطة أن يكون هذا الأستاذ متسلحا بهذا القدر من المعارف والمدارس النقدية.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
لعل ما قاله طه حسين قد لخص الأزمة برمتها فمناهج اللغة العربية في معاهدنا ومدارسنا تستغرق في القواعد النحوية والبلاغية بعيدًا عن الدلالات الفنية للنص اعتقادًا من القائمين على تدريس اللغة بأن اللغة تعني القواعد بينما اللغة تستقي أهميتها من فهم النصوص أيًا كانت هذه النصوص فالأدب، أو التاريخ، أو الفلسفة... إلخ. وهي قضية كانت من أولويات اهتمامات طه حسين وخصوصًا في النقد الشعري الذي لا يختلف باختلاف فنونه التقليدية مدحًا ورثاءً ووصفًا وهجاءً فحسب، وإنما يختلف باختلاف موضوعاته التي قيل فيها والظروف التي أحاطت به حين قيل والمؤثرات المختلفة التي أثرت في قائليه وفي سامعيه أيضًا، وأثر السياسة في ظهور فنون مختلفة من الشعر العربي في مختلف العصور. لعل العقد الأول من القرن العشرين يُعد البداية الحقيقية لظهور مدارس النقد الأدبي في الثقافة العربية اعتمادًا على أن الأدب «شعرًا ونثرًا» هو مرآة للحياة ولا يمكن دراسة أي نص إلا إذا وقفنا على العصر الذي قيل فيه أو سبقه.
يعترف طه حسين بأن كل هذه المعاني لم نتعرف عليها إلا من خلال محاضرات الأستاذ «ناللينو»، فقد كان كل ما يمليه علينا من دروسه يعد جديدًا على أسماعنا وهو ما أحدث في نفوسنا أثرًا عميقًا وطبع حياتنا العقلية بفلسفة النقد الحديث وبفضل هذا الرجل وزميله «دافيد سانتلانا» david santillana. (1855-1931م) تأسست نهضة كبيرة في علوم اللغة والفلسفة والتاريخ تلقفها جيل من خريجي الجامعة المصرية وتعمقوا في دراساتهم وقد اكتشفوا أشياء لم تكن معروفة في مجال الأدب العربي فضلًا عن المعارف الإنسانية الأخرى، ويضيف طه حسين: «من الطبيعي أن يُحدث هذا التواصل مع المدارس الغربية أكبر الأثر في نفوسنا، وأن يطبع حياتنا بطابع النقد الحديث، لهذا تغيرت الكثير من الحقائق في التاريخ الأدبي وفي علوم الفلسفة وغير ذلك من المعارف التي كنا ندرسها».
قد يتساءل البعض لماذا كان طه حسين مختلفًا عن أقرانه من دارسي الأدب والفلسفة والتاريخ؟، لقد أتيح لهذا الشاب الذي كُف بصره منذ فترة مبكرة من حياته إلى أن يستمع إلى اساتذته بعقله وقلبه لا يهدأ له بال إلا إذا فهم دلالة كل نص وقارن بين مختلف النصوص وعرض كل ما سمعه أو قُرئ له على عقله ولم يستسلم لوجهة نظر لم يَقنع بها وقد حباه الله رؤية ثاقبة واعية مدركة لكل المعاني بدلالتها وسياقاتها لهذا، لم يرفض كل ما هو قديم وإنما راح يختار منه بعناية فائقة محللًا وناقدًا ومفسرًا لكل نص وفقًا لسياقاته التاريخية والاجتماعية وهو ما دفعه إلى أن يخوض في دروب شائكة رآها البعض مروقًا على كل ماهو أصيل بل مروقًا على الدين نفسه.
لم يقنع طه حسين بما كان يُنشر من كتب التراث التي لا تخضع للبحث ودراسة علماء النقد وبصراحة الرجل المعهودة يقول: «إن محاضرات ودروس الأستاذ ناللينو والأستاذ سانتلانا في الجامعة المصرية كانت الموجه الأول لنهضتنا العلمية في دراسة الأدب مباشرة أو بالواسطة، فقد وجهت الذين سمعوا منهما فبحثوا وتعمقوا وأحسنوا التفقه فيما درسوا أو قرأوا، ثم وجهت أجيالا من الشباب سمعوا على هؤلاء الطلاب حين أصبحوا أساتذة وقرأوا لهم حين أصبحوا مؤلفين». أعتقد أن الأستاذ ناللينو كان أكثر تأثيرًا على طه حسين من زميله رغم أن عمله في الجامعة لم يستغرق أكثر من عامين (1910-1911م) إلا أنه ترك أثرًا عظيمًا في أجيال متعاقبة من دارسي النقد الأدبي والشعري، ولعل ما كتبه طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي كان من تأثير هذا الأستاذ العظيم وإن لم يعترف بذلك.
يعد المستشرق الإيطالي ناللينو من أكثر العلماء الأوروبيين عناية بدراسة الآداب والعلوم العربية بعضها عبارة عن محاضرات باللغة العربية ألقاها في الجامعة المصرية أهمها: تاريخ الآداب العربية، وتاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى، بالإضافة إلى العديد من الكتب والمقالات لعل من أهمها: منتخبات من القرآن، وتكوين القبائل العربية، وقواعد ومفردات العربية العامية في مصر، والتنجيم الشعبي عند العرب، وشعر ابن الفارض والتصوف الإسلامي، ودراسة في المفردات والحركات العربية، والفلسفة الشرقية لابن سينا...إلخ. ومن هنا نلاحظ أن الرجل قد أوقف جُل حياته لدراسة آداب العرب وفنونهم وثقافتهم، وكان يجيد العربية بلغة فصيحة لا يُخطئ فهمها السامع وهو يلقي محاضراته على تلاميذه، ولعل من بين ما رواه طه حسين حينما تظاهر الطلاب وامتنعوا عن حضور دروسه بسبب الحرب الإيطالية-العثمانية (1911م) رغم محبتهم لهذا الأستاذ إلا أنه بمجرد أن دخل قاعة الدرس تحلّق حوله الطلاب وقال لهم بلغته العربية الفصيحة: «أنتم مثل الرجل الذي أراد أن يغيظ امرأته فخصى نفسه وكان السهم صائبًا».
لقد عرضت «مريم ناللينو» ابنة الأستاذ «ناللينو» على طه حسين أصول المحاضرات التي كان يلقيها والدها على طلاب الجامعة المصرية، وقد تحمس طه حسين لنشرها في دار المعارف المصرية (1955م) وقد كتب مقدمتها المؤلف نفسه، ويبدو أنه كان يعتزم نشرها إلا أن طه حسين قد أضاف إليها مقدمة جديدة غاية في الدقة والبلاغة، ولعل أهم ما يمكن أن نشير إليه فيما كتبه «ناللينو» في مقدمته ناصحًا طلابه: «لا تقتصروا أيها الطلاب على جمع أقوال أساتذتكم وتكرارها بل اعملوا فيها أنظاركم وقوة فطنتكم فإن سمعتم ما لم يقنعكم فاسألوا أستاذكم واطلبوا منه شرحا وافيا فالعصمة لله وحده، فليس من المستحيل أن يزل الأستاذ أحيانًا في كلامه، أو لا يدرك غاية الوضوح في بيانه».
لعل تدريس اللغة العربية وآدابها في مدارسنا وجامعاتنا في حاجة إلى هذا الفيض من المعارف النقدية تحفيزًا للطلاب على التفكير فيما يدرسونه من نصوص وعلى الأساتذة أن يعرضوا على طلابهم مختلف الآراء وعلى الطلاب أن يختاروا ما يناسب فهمهم وفقًا لمداركهم وهي وظيفة المعلم والأستاذ شريطة أن يكون هذا الأستاذ متسلحا بهذا القدر من المعارف والمدارس النقدية.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.