عمان العلمي

الثانية الأولى في عمر الكون

بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير، انطلق في الكون وابل هائل من الجزيئات، ومنذ ذلك الحين وهي تتدفق عبر الفضاء، حاملة معها أسرارا منذ فجر الزمان. وكم نود لو ننجح في التقاط واحد منها، لولا أن أولئك الرسل مراوغون عسيرو المنال. فهذه الجزيئات تعبر بالمادة دون أن تمسها، وجسمك نفسه تمر به مائة مليون منها في الثانية ولا تنتبه لذلك أبدا.

هذه الأشياء الشبحية تسمى النيوترينوات، وهي جسيمات أولية نعرف أنها موجودة لكن استكشافها أمر عسير للغاية. وقد أجريت تجارب حول العالم يمكنها التقاط النيوترينوات المنبعثة من الشمس، في مصائد ضخمة مدفونة على بعد أكثر من كيلومتر تحت الأرض، على سبيل المثال. غير أن النيوترينوات التي انبعثت إثر الانفجار العظيم مباشرة لديها من الطاقة قدر أقل بكثير، فاستحال استكشافها حتى الآن تماما.

غير أن بانتظارنا جائزة رائعة في حال التمكن من استكشافها. فهي سترسم لنا صورة غير مسبوقة للكون في أولى لحظاته، قبل مئات الآلاف من السنين مما كنا قادرين على رؤيته من قبل. ومن شأن ذلك أن يغير علم الكونيات كله.

على مدار عقود من الزمان، تطلبت جميع خطط استكشاف هذه الجسيمات المراوغة تقنيات تتجاوز أقصى خيالنا جموحا. لكن الأمور تطورت الآن، وعندي اقتراح بطريقة قد تمكننا من اصطيادها. لقد كنا في الماضي ننتظر أن تأتي إلينا هذه النيوترينوات، ولكن قد توجد طريقة لأن نطاردها نحن الآن بأجهزتنا الاستكشافية.

إن كل ما نلاحظه اليوم كان في يوم من الأيام متكدسا في حيز أصغر. فالكون، في غضاضته، كان يتألف من ذرة بلازما شديدة السخونة والكثافة. وقد بلغ من تكدس الأشياء أن الجسيمات دون الذرية كانت تتنافر باستمرار عن بعضها بعضا بتردد وقوة شديدين إلى حد أنه لم يكن بوسع الذرات أن تتشكل دون أن تتفكك مرة أخرى على الفور. كانت هذه البلازما البدائية عديمة الشفافية تماما. فلم يكن بوسع الفوتونات، أي جزيئات الضوء، أن تنتقل لمسافات طويلة دون أن يجري امتصاصها من جسيم آخر أو تناثرها عنه.

ومع استمرار الكون في التمدد والبلازما في البرودة، أصبحت الفوتونات أقل كثافة وأقل احتمالا لأن تتعرض للتشتت أو الامتصاص من جسيمات أخرى. واستمر هذا إلى حين بلوغ لحظة حاسمة، بعد 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، عندما تمكنت الفوتونات أخيرا من الإفلات. وإذ ذاك بات بوسع الضوء أن ينتقل دون عائق عبر الكون. ولم يزل بإمكاننا اليوم رؤية الفوتونات المنبعثة في تلك اللحظة: فهي تشكل أقدم ضوء في الكون، ذلك الذي نسميه الخلفية الكونية الميكروموجية (CMB). كان اكتشاف الخلفية الكونية الميكروموجية وليد الصدفة. ففي عام 1964، عندما أنشأ روبرت ويلسون وأرنو بينزياس هوائيهما البوقي -الذي بات شهيرا الآن- لاكتشاف موجات الراديو من أوائل الأقمار الصناعية البالونية، كانت فكرة الانفجار العظيم بأكملها سؤالا مفتوحا إلى حد كبير. وحتى بعد أخذ جميع مصادر الضوضاء المحتملة في الحسبان، سمع الاثنان إشارة خلفية مستمرة محيرة قادمة من جميع الاتجاهات. كانت موجودة ليل نهار. وقد أدركا في النهاية أنهما كانا يكتشفان الخلفية الكونية الميكروموجية وكان تلك هي اللمحة الأولى لنا لضوء الكون الأول.

الفجر الكوني

منذ ذلك الحين، قمنا بقياس فوتونات الخلفية الكونية بدقة عالية، ولم نزل نقوم بذلك. فيعطينا هذا صورة للكون عندما بلغ من العمر 380 ألف سنة - فهو محض وليد بالمقارنة مع عمره البالغ الآن 13.8 مليار سنة. نرى بقعا كثيفة تطورت لاحقًا إلى مجرات، وأنماطا تخبرنا بالكميات النسبية للإشعاع والمادة والمادة السوداء في الكون المبكر.

تمثل الخلفية الكونية الميكروموجية أقدم ما رأيناه من ضوء - والأقدم مما سوف نراه على الإطلاق. ولكن ثمة مصدرا آخر غير مستغل للمعلومات حول الكون المبكر وهو مصدر متاح بوسعه أن يساعدنا على النظر إلى زمن بعيد.

على الرغم من غرابة النيوترينوات الأكيدة، فقد عرفناها منذ أمد بعيد. إذ عرفناها على سبيل الافتراض للمرة الأولى في عام 1930 ثم استكشفتها التجارب في عام 1956. وهي تتكون طوال الوقت نتيجة للنشاط الإشعاعي - فحتى ثمرة الموز العادية تنتج تيارات من النيوترينوات مع تحلل ما بداخلها من ذرات البوتاسيوم. غير أن النيوترينوات خفيفة للغاية ولا تكاد تتفاعل مع أي شيء.

وبسبب نفورها الاجتماعي، كان يمكن للنيوترينوات أن تتحرك دون عائق في وقت مبكر في الكون المبكر مقارنة بالضوء. وفي حين كانت الفوتونات تصطدم باستمرار بجزيئات أخرى، كان بوسع النيوترينوات أن تتدفق بحرية عبر تلك البلازما الساخنة الكثيفة. تذهب نظرية الانفجار الأعظم إلى أن النيوترينوات الناشئة في الثانية الأولى من عمر الكون كانت قادرة على الفور على الإفلات من الضباب لتظل سارية عبر الكون حتى اليوم. وبدلا من الخلفية الكونية الميكروموجية، نسمي هذه بالخلفية النيوترينوكونية. سيكون اكتشاف الخلفية النيوترينوكونية أمرا ذا شأن عظيم.

ذلك أن من شأنه أن يمثل طريقة جديدة تماما لرؤية كيفية تطور الكون. ولكي نفهم السبب، نحتاج إلى معرفة المزيد عن النيوترينوات وكيفية انتقالها. والفارق الرئيسي بين الفوتونات والنيوترينوات هو أن الأولى عديم الكتلة، في حين أن الأخيرة لها كتلة، وإن كانت صغيرة للغاية. والواقع، أن للنيوترينوات ثلاثة أنواع مختلفة، لكل منها كتلة مختلفة قليلا. ولهذا السبب، سينتهي المطاف بنيوترينوات الخلفية إلى التنقل بمجموعة من السرعات، كلها أبطأ بنحو 1000 مرة من سرعة الضوء في سريانها باتجاهنا.

الكون بالألوان

بينما تسرع النيوترينوات الكونية عبر الكون، ينحني مسارها بفعل قوة جاذبية الأجسام الضخمة من قبيل المجرات التي تمر بها، وهو تأثير يسمى عدسة الجاذبية. يحدث هذا أيضا مع الضوء، ولكن نظرا لأن كل الضوء ينتقل بسرعة واحدة، فإن مساره ينحني بطريقة تعتمد على كتلة الجسم في وقت معين، عندما يمر شعاع الضوء. في المقابل، تنتقل النيوترينوات الكونية عبر الفضاء بسرعات مختلفة، وبالتالي تعبر بتلك الأجسام الضخمة في أزمنة مختلفة. وهذا يعني أنه إذا أمكننا مسح السماء بحثا عن نيوترينوات كونية، فيمكننا استخدامها لإلقاء نظرة خاطفة على بنية الكون واسعة النطاق في أزمنة مختلفة. فكروا في الأمر على هذا النحو: إذا أظهرت لنا الخلفية الكونية الميكروموجية صورة بالأبيض والأسود للكون المبكر، فإن النيوترينوات الكونية ستنتج فيلما ثلاثي الأبعاد بالألوان الكاملة.

على الرغم من أننا لم نرها من قبل، فإن لدينا سببا وجيها للاعتقاد بوجود النيوترينوات الكونية: فوجودها نتيجة حتمية للانفجار الكبير شأن الخلفية الكونية الميكروموجية. ولو أنها غير موجودة، فسيكون ذلك اكتشافا لا يصدق. سيكون تناقضا مباشرا للنموذج الراسخ للانفجار الكبير - وهو تناقض يتطلب فيزياء جديدة مثيرة لتفسيره. فكل ما في الأمر أن علينا أن نحاول استكشافها.

لكن ذلك لن يكون بالأمر اليسير. فبرغم أن التجارب كشفت عن بعض أنواع النيوترينوات ذات الطاقة العالية، مثل تلك الناتجة عن الشمس، فإن طاقة النيوترينوات الكونية ستكون أصغر بمليار مرة من أقل نيوترينو طاقة رأيناه حتى الآن من مصادر أخرى، مما يجعل إمساكها عسيرا بصورة لا تقدر. ظهر الطرح الأول لفكرة العثور عليها في عام 1962 على يد الفيزيائي الراحل ستيفن واينبرج الحائز على جائزة نوبل. وكان قد استوحى التكنولوجيا التي استعملت للمرة الأولى لاكتشاف النيوترينوات غير الخلفية في خمسينيات القرن العشرين واستخدمت لاحقا لاكتشاف النيوترينوات الشمسية.

ويتبين أنه في حال اصطدام نيوترينو بذرة، فإن من الممكن التقاطها، ونقل طاقة كافية لتحويل أحد الجسيمات المكونة للذرة، أي البروتون، إلى نيوترون آخر. ويجري تحديد العناصر الكيميائية من خلال عدد البروتونات الموجودة فيها، لذلك في حال حدوث هذه العملية، فإنها تنتج عنصرا كيميائيا مختلفا - يمكن اكتشافه ويكون علامة مؤكدة على وجود نيوترينو. في عام 1970، شرع الفيزيائيان ريموند ديفيس الابن وجون باهكال في العثور على هذه العلامات عن طريق ملء خزان بـ380 ألف لتر من سائل غني بالكلور. في حال اصطدام نيوترينو بإحدى ذرات الكلور، فإنه يحولها إلى ذرة من الأرجون. وكانت المشكلة الوحيدة هي أن الأشعة الكونية القادمة -وهي جسيمات عالية الطاقة من الفضاء- يمكن أن تفعل الشيء نفسه. لذلك وضع الاثنان خزانهما في منجم ذهب هومستيك الذي تم إيقاف تشغيله في ساوث داكوتا، على بعد قرابة 1500 متر تحت الأرض. وفي حين تم حجب الأشعة الكونية، انطلقت النيوترينوات عبر الأرض وحولت بعض الكلور المدفون إلى أرجون. ومن خلال إحصاء العدد، تمكن ديفيس وباهكال من حساب معدل تدفق النيوترينوات الشمسية - وحصلا على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 2002.

كانت في ذهن واينبرج استراتيجية مماثلة لاكتشاف النيوترينوات الكونية. لكن لأن لديها مثل هذه الطاقات المنخفضة، فهي ببساطة لا تقوى بالقدر الكافي على تحويل البروتونات إلى نيوترينوات في أي نوع من الذرات المستقرة. ولهذا السبب، تحول واينبرج إلى التريتيوم، وهو نسخة مشعة من الهيدروجين تحتوي على اثنين من النيوترونات وبروتون واحد. والتريتيوم غير مستقر، بما يعني أنه يتحلل بشكل طبيعي عن طريق تحويل أحد نيوترينواته إلى بروتون، ويطلق إلكترونا في الوقت نفسه. ويأتي إطلاق الإلكترون مصحوبا بطاقة معروفة. ولكن إذا قامت نواة التريتيوم بامتصاص نيوترينو كوني قبل أن تتحلل، فإن طاقة الإلكترون التي تنبعث يمكن أن تتجاوز ما يمكن توقعه لأن النيوترينو يضيف بعض الجاذبية الإضافية. فاستنتج واينبرج أنه إذا ما أمكننا قياس طاقة الإلكترون بدقة متناهية واكتشفنا إلكترونات نشطة بشكل غير عادي يتم إنتاجها عن طريق تحلل التريتيوم، سنكون قد اكتشفنا خلفية النيوترينو الكونية.

سوف يمثل هذا كله تحديا غير عادي. فاستخدام 100 جرام من التريتيوم سوف ينتج عنه أربع امتصاصات للنيوترينو -ومن ثم أربع إلكترونات نشطة بشكل غير عادي- في السنة. وهذا ضئيل للغاية مقارنة بإطلاق 100 تريليون إلكترون ذي طاقة أقل في الثانية عبر التحلل الطبيعي. سيكون اكتشاف هذه الإلكترونات المارقة الأربعة أمرا شبه مستحيل، وحاليا، فإن التكنولوجيا محدودة على جميع الجبهات. ومع ذلك، هناك تعاون بحثي دولي نشط يسمى بطليموس PTOLEMY يهدف إلى بناء نموذج أولي لمستكشف كهذا.

في غضون ذلك، اقترح فيزيائيون آخرون طرقا مختلفة لاكتشاف النيوترينوات الكونية - وقد يثبت أن بعضها أنجح من بعض. في عام 1974، اقترح الفيزيائي الراحل روفين أوفير للمرة الأولى قياس الضغط الذي تمارسه النيوترينوات الكونية على مسبار خاص يسمى بندول الالتواء. ولكن نظرا لأن النيوترينوات لا تكاد تتفاعل مع المادة، فسيكون هذا الضغط ضئيلا وسنحتاج إلى تحسين حساسية أفضل القياسات لمثل هذا التكوين بعامل من المليار ليكون لدينا أمل في النجاح.

وهناك من بعد فكرة اقترحها الفيزيائي توماس ويلر في عام 1984، وتتضمن حساب الأشعة الكونية كبديل مختلف للنيوترينوات الكونية. حيث يتبين أن النيوترينوات عالية الطاقة يمكن أن تضرب الغلاف الجوي وتنتج شعاعا كونيا ينطلق بعد ذلك إلى الأرض. يمكننا الكشف عن هذه الأشعة الكونية بشكل موثوق.