في الوعـي العربي الحديث بالزمن
الأربعاء / 24 / ذو القعدة / 1444 هـ - 22:42 - الأربعاء 14 يونيو 2023 22:42
في مقابل وعي عربي إسلامي حاد بالزمن، بل مسكون به إلى حد بعيد - على ما تظهرنا على ذلك آثار هذا الوعي في عهده الكلاسيكي-، تبدو العلاقة بالزمن في الوعي العربي الحديث والمعاصر على درجة من الفتور تستثير الاستفهام حول أسبابها في ثقافة ذات تقاليد عريقة في النظر التاريخي. والحق أن من يقرأ التاريخيات العربية الإسلامية الكلاسيكية أو يستحضرها، على أقـل تقدير، في معرض التفكير في هذه النازلة يفجؤه هذا الانزياح الكبير للوعي العربي عن سؤال الزمن الذي راود الأسلاف، الذي تدلنا عليه مكانة علم التاريخ في التراث العربي الإسلامي الكلاسيكي، ومكانة الهواجس التاريخية في علوم تدور على النص وتبدو بعيدة عن التاريخ وعن أحكام الزمن، مثل: علم التفسير وعلوم القرآن. يكاد الذهول عن هذا البعد، في تفكير عرب اليوم، أن يصبح السمة الرئيس التي بها ينماز عن التفكير المعاصر. هكذا يجد الوعي العربي المعاصر نفسه في حال من التراجع المزدوج عن الروح التاريخي: عن معدله في الثقافات المعاصرة، وعن معدله في الماضي الثقافي العربي الإسلامي.
ليس معنى ذلك أن الثقافة العربية المعاصرة تعاني نقصا في إنتاج النص التاريخي؛ فلقد شهدنا على اندفاعة علمية كبيرة في ميدان التأليف التاريخي امتدت، في الزمان، منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى اليوم، بل لقد ظلت الكتابة التاريخية العربية الأعلى كعبا في التأليف العربي المعاصر إن قيست بغيرها في ميادين من الفكر أخرى. غير أن ازدهار هذا التأليف التاريخي لم يساوقه ارتفاع في معدل الحس التاريخي في مجالات المعرفة الأخرى، فبقي معزولا عن محيطه المعرفي وكأنه في جزيرة مهجورة فيما استمر الوعي ساردا في لاتاريخيـته، مضطرب العلاقة بالزمن. وهذه ظاهرة قابلة للمعاينة سواء من طريق النظر في الوعي العام (وعي الجمهور) أو في الفكر والثقافة العالمة. وإذا كان البحث السوسيولوجي قمينا بأن يطلعنا على تلك اللاتاريخية، على صعيد الوعي العام، بأدوات الاستقصاء المعتمـدة فيه، فإن تحليل مضمون التأليف العربي في مجالات الدراسات الفلسفية والإسلامية والسياسية والثقافية والاجتماعية كاف كي يظهرنا على فقره الحاد إلى التاريخية!
لهذا التراجع المروع لهاجس الزمن في الوعي العربي «أسباب نزول» ترفع عنه كل إبهام وتنفي، بالتالي، أي مفارقة فيه قد يحمل عليها القياس بين ما كانـته تاريخيـته في الماضي وما صارت إليه اليوم. وأول ما يفسره هو ذاك الفارق الكبير بين علاقة الفكر بالزمن والتاريخ في اللحظتين المومأ إليهما ضمن شرطيات متباينة أشد التباين. نحن، هنا، لا نرتل بديهية حين نقول إن تشبع ثقافة ما بالحس التاريخي، أو خلو ذلك الحس منها مردهما إلى حجم الأدوار التاريخية التي تنسب إلى أهل الثقافة تلك؛ إذ الأمة الفاعلة في التاريخ غير الأمة المنفعلة به، والأمة التي تصنعه غير الأمة التي يصنع لها -هـو- مصيرها. هي، نعم، ليست من بداهات العقل والمنطق، بل من حقائق التاريخ التي تواترت حتى باتت في حكم الناموس. وما أغنانا عن القول إن عرب الأمس غير عرب اليوم في مضمار صناعة التاريخ؛ فلقد صنعوا فصولا حارة من التاريخ الإنساني وهم يمتطون صهوة صعودهم الحضاري، أما اليوم فالمنحدر الذي يقطعه أحفادهم لا يعد بمغنم كبير، ولا يغري بمعاقرة آمال خادعات، وأقصى ما يعول عليه فيه أن يقف مسلسله الانحداري عند حد يحفظ البقاء...؛ وذلك أضعف الوجود!
العرب اليوم، خلافا لما كانوه أمس، لا ينتمون إلى تاريخهم الخاص الذي كفوا عن صنعه - والذي هو عينه التاريخ الكوني الذي تنزلوا فيه، يوما، منزلة السادة - وإنما هم ينتمون إلى تاريخ آخر: تاريخ غيرهم الذين صنعوه على سننهم. العرب مدعوون، فحسب إلى الدخول في فضاء هذا التـاريخ بوصفهم مجرد ضيوف ومتـفـرجة على ما يجري على مسرحه من هائل التحولات. وهـم - على ما يبدو - ارتضوا هذه الإقامة الرمزية التي هم فيها عالة على غيرهم مثلما هم عالة على أنفسهم (أو هكذا، على الأقـل، توحي سلبيتهم)! كيف، إذن، للثقافة العربية -والوعي العربي عموما- أن تتشبع بالقيم التاريخية وتهجس بالزمن في نصوص كتابها وهي عن التاريخ بمعزل؟ كيف لا يحضر التاريخ وأحكامه- في أي صورة من صور الحضور- في العلاقة بالذات والآخر: في العلاقة بماض يراد إما محوه أو تقديسه، من غير احتفال بأنه -في الحالين- وليد زمنه الخاص؛ ثم في العلاقة بآخر يراد استنساخه من غير انتباه إلى أن فكـره يطابق واقعه وقد لا يكون على قياس غيره؟ ثم كيف لا يصرف البال عن أزمنة الأفكار حين يستلها قارؤوها من سياقاتها التي استدعتها، ليقع النظر إليها بما هي كائنات معرفية مجردة وخارج التاريخ بحيث تقبل الاستعارة في هيئتها الجاهزة تلك؟ تلك جميعها مما ينبغي أن لا يستغرب لأمرها في الوعي والثقافة العربيين لخلوهما من كل روح تاريخي يعصم الفكر من السقوط في نظرة ميتافيزيقية، أو ميتا تاريخية، إلى العالم.
ولعله قد لا يكون ثمة من قرينة على اضطراب الوعي العربي المعاصر بالزمن - نتيجة خروج العرب من تاريخهم ودخولهم في تاريخ غيرهم - أفضل وأدل من أننا وجدنا أنفسنا، كأمة وثقافة، ننتقل انتقالة دراماتيكية سريعة، منذ قرنين، من التأريخ ليومياتنا بتوسل التقويم التاريخي الميلادي بدلا من التقويم التاريخي الهجري بعد نيف وألف ومائتي عام من العمل به. كان ذلك تجسيدا حيا لذلك الخروج، وتأسيسا لعلاقة من الاستلاب بالزمن أخرى...
ليس معنى ذلك أن الثقافة العربية المعاصرة تعاني نقصا في إنتاج النص التاريخي؛ فلقد شهدنا على اندفاعة علمية كبيرة في ميدان التأليف التاريخي امتدت، في الزمان، منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى اليوم، بل لقد ظلت الكتابة التاريخية العربية الأعلى كعبا في التأليف العربي المعاصر إن قيست بغيرها في ميادين من الفكر أخرى. غير أن ازدهار هذا التأليف التاريخي لم يساوقه ارتفاع في معدل الحس التاريخي في مجالات المعرفة الأخرى، فبقي معزولا عن محيطه المعرفي وكأنه في جزيرة مهجورة فيما استمر الوعي ساردا في لاتاريخيـته، مضطرب العلاقة بالزمن. وهذه ظاهرة قابلة للمعاينة سواء من طريق النظر في الوعي العام (وعي الجمهور) أو في الفكر والثقافة العالمة. وإذا كان البحث السوسيولوجي قمينا بأن يطلعنا على تلك اللاتاريخية، على صعيد الوعي العام، بأدوات الاستقصاء المعتمـدة فيه، فإن تحليل مضمون التأليف العربي في مجالات الدراسات الفلسفية والإسلامية والسياسية والثقافية والاجتماعية كاف كي يظهرنا على فقره الحاد إلى التاريخية!
لهذا التراجع المروع لهاجس الزمن في الوعي العربي «أسباب نزول» ترفع عنه كل إبهام وتنفي، بالتالي، أي مفارقة فيه قد يحمل عليها القياس بين ما كانـته تاريخيـته في الماضي وما صارت إليه اليوم. وأول ما يفسره هو ذاك الفارق الكبير بين علاقة الفكر بالزمن والتاريخ في اللحظتين المومأ إليهما ضمن شرطيات متباينة أشد التباين. نحن، هنا، لا نرتل بديهية حين نقول إن تشبع ثقافة ما بالحس التاريخي، أو خلو ذلك الحس منها مردهما إلى حجم الأدوار التاريخية التي تنسب إلى أهل الثقافة تلك؛ إذ الأمة الفاعلة في التاريخ غير الأمة المنفعلة به، والأمة التي تصنعه غير الأمة التي يصنع لها -هـو- مصيرها. هي، نعم، ليست من بداهات العقل والمنطق، بل من حقائق التاريخ التي تواترت حتى باتت في حكم الناموس. وما أغنانا عن القول إن عرب الأمس غير عرب اليوم في مضمار صناعة التاريخ؛ فلقد صنعوا فصولا حارة من التاريخ الإنساني وهم يمتطون صهوة صعودهم الحضاري، أما اليوم فالمنحدر الذي يقطعه أحفادهم لا يعد بمغنم كبير، ولا يغري بمعاقرة آمال خادعات، وأقصى ما يعول عليه فيه أن يقف مسلسله الانحداري عند حد يحفظ البقاء...؛ وذلك أضعف الوجود!
العرب اليوم، خلافا لما كانوه أمس، لا ينتمون إلى تاريخهم الخاص الذي كفوا عن صنعه - والذي هو عينه التاريخ الكوني الذي تنزلوا فيه، يوما، منزلة السادة - وإنما هم ينتمون إلى تاريخ آخر: تاريخ غيرهم الذين صنعوه على سننهم. العرب مدعوون، فحسب إلى الدخول في فضاء هذا التـاريخ بوصفهم مجرد ضيوف ومتـفـرجة على ما يجري على مسرحه من هائل التحولات. وهـم - على ما يبدو - ارتضوا هذه الإقامة الرمزية التي هم فيها عالة على غيرهم مثلما هم عالة على أنفسهم (أو هكذا، على الأقـل، توحي سلبيتهم)! كيف، إذن، للثقافة العربية -والوعي العربي عموما- أن تتشبع بالقيم التاريخية وتهجس بالزمن في نصوص كتابها وهي عن التاريخ بمعزل؟ كيف لا يحضر التاريخ وأحكامه- في أي صورة من صور الحضور- في العلاقة بالذات والآخر: في العلاقة بماض يراد إما محوه أو تقديسه، من غير احتفال بأنه -في الحالين- وليد زمنه الخاص؛ ثم في العلاقة بآخر يراد استنساخه من غير انتباه إلى أن فكـره يطابق واقعه وقد لا يكون على قياس غيره؟ ثم كيف لا يصرف البال عن أزمنة الأفكار حين يستلها قارؤوها من سياقاتها التي استدعتها، ليقع النظر إليها بما هي كائنات معرفية مجردة وخارج التاريخ بحيث تقبل الاستعارة في هيئتها الجاهزة تلك؟ تلك جميعها مما ينبغي أن لا يستغرب لأمرها في الوعي والثقافة العربيين لخلوهما من كل روح تاريخي يعصم الفكر من السقوط في نظرة ميتافيزيقية، أو ميتا تاريخية، إلى العالم.
ولعله قد لا يكون ثمة من قرينة على اضطراب الوعي العربي المعاصر بالزمن - نتيجة خروج العرب من تاريخهم ودخولهم في تاريخ غيرهم - أفضل وأدل من أننا وجدنا أنفسنا، كأمة وثقافة، ننتقل انتقالة دراماتيكية سريعة، منذ قرنين، من التأريخ ليومياتنا بتوسل التقويم التاريخي الميلادي بدلا من التقويم التاريخي الهجري بعد نيف وألف ومائتي عام من العمل به. كان ذلك تجسيدا حيا لذلك الخروج، وتأسيسا لعلاقة من الاستلاب بالزمن أخرى...