التسول.. ذنب من؟
الأربعاء / 17 / ذو القعدة / 1444 هـ - 20:55 - الأربعاء 7 يونيو 2023 20:55
نشرتْ جريدة عمان الأسبوع الفائت تحقيقا بعنوان «التسول عند إشارات المرور.. إرباك لحركة السير ومخالفة للذوق العام». طالب التقرير بـ«ضرورة تعزيز الوعي المجتمعي لتجنب الوقوع في فخ التعاطف»، وبالإمكان تلخيص آراء الذين تمت مقابلتهم في الآتي: التسول هو طريقة محتالة للكسب (لاعتماده على تعاطف الآخرين)، التسول مصدر قلق وإزعاج (وهو يؤدي أحيانا إلى إرباك حركة المرور، وحتى الحوادث)، التسول سلوك غير حضاري (لأنه يجرح الذائقة)، وهو مسيء للمجتمع (لأنه يشوه صورة البلد).
قبل أن أُعلق على ما جاء في هذا التحقيق، أود مشاركة بعض الأفكار المهمة الواردة في مقال وقعت عليه -للمصادفة- قبل قراءة تقرير التسول بأيام.
كتب ناثان جي روبنسون (Nathan J. Robinson) للـ(Current Affairs) مقالا بعنوان (Whose Fault Is An Uprising)، ويُمكن ترجمته إلى «الانتفاضات.. ذنب من؟». يُعالج روبنسون فيه تلقي الإعلام لإضرابات عمال السكك الحديدية في بريطانيا، والتي بدأت العام الماضي، وتستمر حتى وقت كتابة هذا المقال. يُطالب عمال السكك بزيادة أجورهم للتعامل مع غلاء المعيشة. بينما تُقابل الحكومة البريطانية مطالبهم إما بعرض زيادات لا تتناسب مع التضخم الذي تشهده البلاد والعالم، أو بفرض شروط إضافية للزيادة كأن يعملوا أيام الآحاد. يرصد روبنسون السردية التي أنتجتها الحكومة في تناولها للموضوع، وكيف أنها صارت تُكرر في وسائل الإعلام. فقد قُدمت الإضرابات بوصفها متسببة في تعطيل الخدمات الأساسية، واتهم المضربون بالتسبب في خسارات بقطاعات الضيافة، ما يعني خسارة الوظائف أيضا، التسبب بخسارة الأرواح لمن لا يتمكنون من الوصول إلى المستشفيات، أو تلقي علاجاتهم الدورية في وقتها. و«يُطالب العمال المضربين بتبرير وضعهم مصالحهم الشخصية فوق مصالح عمال الخدمة العامة المضطرين لاستخدام شبكة السكك الحديدية».
يُعلق روبنسون على هذا بإعادة صياغة الجدل الدائر، ووضعه في إطار بديل: «القلقلة الحاصلة هي نتيجة رفض الحكومة لتقديم مستوى معيشي لائق لعمال السكك الحديدية، والإضرابات ما هي إلا نتيجة لفرض شروط عمل لا تطاق على العمال، ولولا شروط العمل غير اللائقة هذه، ما كانت الإضرابات أو الاضطرابات لتحصل. وإذن فيجب النظر إلى عواقب الإضرابات بوصفها نتيجة لسياسات الحكومة المناهضة للعمال، التي دفعتهم دفعا إلى خطوة الإضراب.» ويختم: «حين تَحرم الحكومة العمال من ظروف العمل اللائقة، والأجور العادلة، وإذا ما أضرب العمال، ليترتب على الإضراب عجز الناس عن الوصول إلى العمل أو إلى الطبيب، وحتى لو مات أحدهم لأنه لم يستقل القطار عندما احتاجه؛ فإن الاستنتاج بأن عمال السكك الحديدية هم سبب الوفاة؛ لهو استنتاج منحاز. من يتحمل المسؤولية دون شك هو الطرف الذي يُقدم طلبات غير معقولة يترتب عليها تفجر الإضرابات، أي الحكومة».
يسلط روبنسون الضوء على شكل من أشكال الانحياز الذي لطالما استُخدم للنيل من شرعية الاحتجاجات (أيا كان موضوعها)، وتأجيج جمهور العموم ضد المحتجين أو المضربين، إنها الأهلية الانتقائية، وما يتبعها من لوم انتقائي. أي «فكرة تحميل بعض الفاعلين مسؤولية مُخرَج ما، حتى لو كانت أفعالهم ناتجة بوضوح عن حالةٍ خلقها آخرون». ويقدم لنا مثالا؛ الجدل الدائر بعد مظاهرات «حياة السود مهمة»، والادعاء بأن المظاهرات أدت إلى زيادة معدل الجريمة. يقول متبنو هذه السردية إن تساهل الشرطة وتقليص أنشطتها، الذي تلا الاحتجاجات أدى لأن تمر الجرائم دون رادع ودون عقاب. من المحتمل أن الشرطة فعلت ذلك بعد أن شعرت بأنه تم التقليل من هيبتها واحترامها، لتُري الناس أهميتها. يُعلق روبنسون بالتساؤل لمَ يُحمل المتظاهرون في هذه الحالة مسؤولية ارتفاع معدل الجرائم (إن صح ذلك)، ولماذا تُنزع أهلية الشرطة وفق هذه السردية (أي لماذا لا تعتبر مسؤولة عن أفعالها السابقة أو اللاحقة)، وإن كان ثمة تهاون حاصل من قبل الشرطة، فمرد ارتفاع معدل الجرائم هو هذا التهاون. «القول بأن ‹الاحتجاجات سببت العنف› ما هي إلا دعاية منحازة. إذ يتم -على نحو انتقائي- تحديد المُساهمين في النتيجة، مع تجاهل مساهمات البعض الآخر. إليكم ما أعنيه: أتت الاحتجاجات ردا على وحشية الشرطة وعنصريتها. فما الذي يُبرئ الشرطة -وقد قتلت، وأثارت الاحتجاجات- من المسؤولية؟ فوق هذا، إذا ما تهاونت الشرطة بعدها في أداء واجبها كردة فعل على الاحتجاجات، فلماذا يُحمل المتظاهرون مسؤولية هذا التهاون؟».
من خلال الأدوات التي يمنحنا إياها روبنسون يُمكننا مواجهة السردية السائدة (يتسبب التسول في ازدحام المركبات وحوادث السيارات)، بسردية بديلة: السياسات التي لا تلتفت إلى الفئات المحتاجة، وتفشل في توفير حياة لائقة لكل من يعيشون في البلاد أيا كانت جناسيهم، هي المتسببة في الاضطرابات، وما التسول إلا محاولة للتعامل مع العوز.
إن كان ثمة شريحة في المجتمع تدفعها الحاجة للوقوف طويلا تحت شمس يونيو الحارة لبيع قنينة ماء، فهل الأولى بنا أن نهتم بالصورة «غير الحضارية» التي يعكسونها، أم بمصيرهم الإنساني؟ ما الذي يستحق قلقنا؟ معالجة الأسباب التي دفعتهم ليكونوا في هذا الموقف الذي لا يرجوه أي منا لنفسه، أم التعامل غير المنصف مع النتائج عبر سلبهم آخر حلولهم للتعامل مع أوضاعهم الاقتصادية المتردية.
التعاطف الذي يدعونا التقرير لأن لا ننصاع له، يُقدم وظيفة لا غنى عنها في المجتمعات الإنسانية، فهذا الشعور يدفعنا للنظر فوق أحوالنا الشخصية، ويثير فينا اهتماما بأولئك الأقل حظا في مجتمعاتنا، والدعوة إلى تجاهله لهي دعوة (فوق انحيازها، وضيق أفقها) أنانية. مشاعر التعاطف يجب الانصات لها، ويجب أن تدفعنا لأن نسعى لضمان حياة كريمة لمن هم محل تعاطفنا، وتحميل مسؤولية مآلاتهم للجهات التي يُفترض بها أن تضمن العيش الكريم لكل من يقعون تحت ظروف تدفعهم دفعا إلى التسول وسط انعدام الخيارات الأخرى.
يُمكن أن يُلاحظ أي منا، ممن كان جزءا من هذه التجربة (الحالات التي وردت بالتقرير)، أنه بالنسبة لأولئك الذين يبيعون الماء أو التحف عند إشارات المرور أو غيرها من الأماكن العامة الأخرى فالأمر لا يُعد تسولا. فهم غالبا -وعلى نحو جلي- ينفرون من قبول إعطائهم المال دون أخذ البضاعة التي يعرضونها. فلماذا بعد هذا يتم تخييلهم على أنهم شخوص لا يملكون عزة النفس التي نملك، ولا يُجرحون من التعامل معهم ككائنات أقل إنسانية، أو أقل تعقيدا.
خلاصة القول، أنه من الأهمية بمكان إعادة تركيز الانتباه، والالتفات لا إلى الآثار السلبية للتسول، بل إلى العوامل التي صنعت هذه الظاهرة، وتحويل اللوم ليُلقى على من خلقوا الظروف التي يأتي التسول ردا عليها.
قبل أن أُعلق على ما جاء في هذا التحقيق، أود مشاركة بعض الأفكار المهمة الواردة في مقال وقعت عليه -للمصادفة- قبل قراءة تقرير التسول بأيام.
كتب ناثان جي روبنسون (Nathan J. Robinson) للـ(Current Affairs) مقالا بعنوان (Whose Fault Is An Uprising)، ويُمكن ترجمته إلى «الانتفاضات.. ذنب من؟». يُعالج روبنسون فيه تلقي الإعلام لإضرابات عمال السكك الحديدية في بريطانيا، والتي بدأت العام الماضي، وتستمر حتى وقت كتابة هذا المقال. يُطالب عمال السكك بزيادة أجورهم للتعامل مع غلاء المعيشة. بينما تُقابل الحكومة البريطانية مطالبهم إما بعرض زيادات لا تتناسب مع التضخم الذي تشهده البلاد والعالم، أو بفرض شروط إضافية للزيادة كأن يعملوا أيام الآحاد. يرصد روبنسون السردية التي أنتجتها الحكومة في تناولها للموضوع، وكيف أنها صارت تُكرر في وسائل الإعلام. فقد قُدمت الإضرابات بوصفها متسببة في تعطيل الخدمات الأساسية، واتهم المضربون بالتسبب في خسارات بقطاعات الضيافة، ما يعني خسارة الوظائف أيضا، التسبب بخسارة الأرواح لمن لا يتمكنون من الوصول إلى المستشفيات، أو تلقي علاجاتهم الدورية في وقتها. و«يُطالب العمال المضربين بتبرير وضعهم مصالحهم الشخصية فوق مصالح عمال الخدمة العامة المضطرين لاستخدام شبكة السكك الحديدية».
يُعلق روبنسون على هذا بإعادة صياغة الجدل الدائر، ووضعه في إطار بديل: «القلقلة الحاصلة هي نتيجة رفض الحكومة لتقديم مستوى معيشي لائق لعمال السكك الحديدية، والإضرابات ما هي إلا نتيجة لفرض شروط عمل لا تطاق على العمال، ولولا شروط العمل غير اللائقة هذه، ما كانت الإضرابات أو الاضطرابات لتحصل. وإذن فيجب النظر إلى عواقب الإضرابات بوصفها نتيجة لسياسات الحكومة المناهضة للعمال، التي دفعتهم دفعا إلى خطوة الإضراب.» ويختم: «حين تَحرم الحكومة العمال من ظروف العمل اللائقة، والأجور العادلة، وإذا ما أضرب العمال، ليترتب على الإضراب عجز الناس عن الوصول إلى العمل أو إلى الطبيب، وحتى لو مات أحدهم لأنه لم يستقل القطار عندما احتاجه؛ فإن الاستنتاج بأن عمال السكك الحديدية هم سبب الوفاة؛ لهو استنتاج منحاز. من يتحمل المسؤولية دون شك هو الطرف الذي يُقدم طلبات غير معقولة يترتب عليها تفجر الإضرابات، أي الحكومة».
يسلط روبنسون الضوء على شكل من أشكال الانحياز الذي لطالما استُخدم للنيل من شرعية الاحتجاجات (أيا كان موضوعها)، وتأجيج جمهور العموم ضد المحتجين أو المضربين، إنها الأهلية الانتقائية، وما يتبعها من لوم انتقائي. أي «فكرة تحميل بعض الفاعلين مسؤولية مُخرَج ما، حتى لو كانت أفعالهم ناتجة بوضوح عن حالةٍ خلقها آخرون». ويقدم لنا مثالا؛ الجدل الدائر بعد مظاهرات «حياة السود مهمة»، والادعاء بأن المظاهرات أدت إلى زيادة معدل الجريمة. يقول متبنو هذه السردية إن تساهل الشرطة وتقليص أنشطتها، الذي تلا الاحتجاجات أدى لأن تمر الجرائم دون رادع ودون عقاب. من المحتمل أن الشرطة فعلت ذلك بعد أن شعرت بأنه تم التقليل من هيبتها واحترامها، لتُري الناس أهميتها. يُعلق روبنسون بالتساؤل لمَ يُحمل المتظاهرون في هذه الحالة مسؤولية ارتفاع معدل الجرائم (إن صح ذلك)، ولماذا تُنزع أهلية الشرطة وفق هذه السردية (أي لماذا لا تعتبر مسؤولة عن أفعالها السابقة أو اللاحقة)، وإن كان ثمة تهاون حاصل من قبل الشرطة، فمرد ارتفاع معدل الجرائم هو هذا التهاون. «القول بأن ‹الاحتجاجات سببت العنف› ما هي إلا دعاية منحازة. إذ يتم -على نحو انتقائي- تحديد المُساهمين في النتيجة، مع تجاهل مساهمات البعض الآخر. إليكم ما أعنيه: أتت الاحتجاجات ردا على وحشية الشرطة وعنصريتها. فما الذي يُبرئ الشرطة -وقد قتلت، وأثارت الاحتجاجات- من المسؤولية؟ فوق هذا، إذا ما تهاونت الشرطة بعدها في أداء واجبها كردة فعل على الاحتجاجات، فلماذا يُحمل المتظاهرون مسؤولية هذا التهاون؟».
من خلال الأدوات التي يمنحنا إياها روبنسون يُمكننا مواجهة السردية السائدة (يتسبب التسول في ازدحام المركبات وحوادث السيارات)، بسردية بديلة: السياسات التي لا تلتفت إلى الفئات المحتاجة، وتفشل في توفير حياة لائقة لكل من يعيشون في البلاد أيا كانت جناسيهم، هي المتسببة في الاضطرابات، وما التسول إلا محاولة للتعامل مع العوز.
إن كان ثمة شريحة في المجتمع تدفعها الحاجة للوقوف طويلا تحت شمس يونيو الحارة لبيع قنينة ماء، فهل الأولى بنا أن نهتم بالصورة «غير الحضارية» التي يعكسونها، أم بمصيرهم الإنساني؟ ما الذي يستحق قلقنا؟ معالجة الأسباب التي دفعتهم ليكونوا في هذا الموقف الذي لا يرجوه أي منا لنفسه، أم التعامل غير المنصف مع النتائج عبر سلبهم آخر حلولهم للتعامل مع أوضاعهم الاقتصادية المتردية.
التعاطف الذي يدعونا التقرير لأن لا ننصاع له، يُقدم وظيفة لا غنى عنها في المجتمعات الإنسانية، فهذا الشعور يدفعنا للنظر فوق أحوالنا الشخصية، ويثير فينا اهتماما بأولئك الأقل حظا في مجتمعاتنا، والدعوة إلى تجاهله لهي دعوة (فوق انحيازها، وضيق أفقها) أنانية. مشاعر التعاطف يجب الانصات لها، ويجب أن تدفعنا لأن نسعى لضمان حياة كريمة لمن هم محل تعاطفنا، وتحميل مسؤولية مآلاتهم للجهات التي يُفترض بها أن تضمن العيش الكريم لكل من يقعون تحت ظروف تدفعهم دفعا إلى التسول وسط انعدام الخيارات الأخرى.
يُمكن أن يُلاحظ أي منا، ممن كان جزءا من هذه التجربة (الحالات التي وردت بالتقرير)، أنه بالنسبة لأولئك الذين يبيعون الماء أو التحف عند إشارات المرور أو غيرها من الأماكن العامة الأخرى فالأمر لا يُعد تسولا. فهم غالبا -وعلى نحو جلي- ينفرون من قبول إعطائهم المال دون أخذ البضاعة التي يعرضونها. فلماذا بعد هذا يتم تخييلهم على أنهم شخوص لا يملكون عزة النفس التي نملك، ولا يُجرحون من التعامل معهم ككائنات أقل إنسانية، أو أقل تعقيدا.
خلاصة القول، أنه من الأهمية بمكان إعادة تركيز الانتباه، والالتفات لا إلى الآثار السلبية للتسول، بل إلى العوامل التي صنعت هذه الظاهرة، وتحويل اللوم ليُلقى على من خلقوا الظروف التي يأتي التسول ردا عليها.