عن فلسفة التعليم ومناهجه
الثلاثاء / 16 / ذو القعدة / 1444 هـ - 22:20 - الثلاثاء 6 يونيو 2023 22:20
هذا موضوع واسع عويص، سبق أن تناولت بعضا منه في مقالات عديدة، ولكني أريد التحدث هنا في الأطر العامة لقضايا التعليم من خلال تساؤلات محددة، تتعلق برؤيتنا للتعليم وللمناهج التي يمكن أن تكفل لنا تحقيق تلك الرؤية في واقعنا العربي. وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكننا الإجابة عن هذه التساؤلات في هذا المقال، وإنما حسبنا طرح السؤال وخلخلة الأسس التي يعتمد عليها وضع التعليم في عالمنا العربي، وهذا في حد ذاته يمكن أن يوجهنا إلى الطريق الذي يمكن أن نسير فيه.
السؤال الأول والأعم، أعني الذي ينبغي أن يسبق غيره من التساؤلات، هو: التعليم من أجل ماذا؟ وبصيغة أخرى: ما الغاية من وراء التعليم؟ لو سألت هذا السؤال لأحد من المشتغلين بجودة التعليم في عالمنا العربي، فإنه في الأغلب الأعم سوف يرتبك، وسوف يجيبك بعبارات مقتضبة من قبيل: التعليم من أجل التطوير، ومن أجل إعداد الخريج القادر على خدمة الدولة، ومواكبة التطورات المتسارعة في العالم، وخاصة في مجال الحوسبة والتكنولوجيا، وما إلى ذلك. ولكنك حينما تسأله: وكيف يصنع التعليم هذا التطور؟ فلن تجد غالبا سوى إجابات هزيلة لا تستند إلى فهم واع، أي لا تعي أن سؤالك أصلا هو سؤال عن «فلسفة التعليم»، ولكن أنَّى لمن لا يعرفون ما هي الفلسفة أن يحدثونا عن فلسفة التعليم! وأنا أود هنا أن أسوق ملاحظة عابرة ربما تكون صادمة، وهي: أن معظم أولئك الذين ساهموا في تشكيل مناهج التعليم في عالمنا العربي كانوا من خريجي معاهد المعلمين في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، وأولئك كانوا من الطلبة الذين لم يحصلوا على درجات في مرحلة الثانوية العامة تؤهلهم لدخول الجامعة المصرية قبل أن تصبح هذه المعاهد كليات منذ السبعينيات، بعد الطلب الهائل على خريجيها ورواج وظائفهم في الدول العربية آنذاك. نعم هناك من بين هؤلاء أساتذة كبار وخبراء أصحاب رؤية، ولكنهم قلة قليلة يمثلون الاستثناء من القاعدة. أعرف من هؤلاء- على سبيل المثال لا الحصر- الدكاترة: شبل بدران، وكمال نجيب، وكمال مغيث، وحسن البيلاوي. ولذلك فإن العظيمين طه حسين ولويس عوض، لم يريا أي داع أصلا لإنشاء هذه الكليات الهجينة؛ إذ يجب أن يكون المعلمون مؤهلين أصلا من خلال الكليات الجامعية المتخصصة، ويكفي خريج هذه الكليات المؤهَّل في تخصصه أن يمضي سنة واحدة في دراسة العلوم التربوية. ولقد تناولت بالتفصيل بعضا من هذه المسائل في سيرتي الذاتية الأولى بعنوان «نشيج على خليج» (التي ستظهر طبعتها المنقَّحة قريبا)، وفي سيرتي الفلسفية الثانية بعنوان «الخاطرات»، وفي غير ذلك من دراساتي المنشورة.
السؤال الثاني: كيف يخدم التعليم حاجة الدولة؟ لو وجهت هذا السؤال لأحد المشتغلين أو المسؤولين عن جودة التعليم في يومنا هذا، فسوف تجد أنه يكرر الإجابة نفسها: الهدف هو إيجاد الخريج القادر على التعامل مع تكنولوجيا العصر والوفاء بحاجة الدولة. ولكن هذا المسؤول لا يعرف أن هدف التعليم أبعد من ذلك بكثير، وهو حتى لا يعرف الطرائق والمناهج التي يمكن من خلالها تطوير التكنولوجيا ذاتها، وليس مجرد استخدامها والتعامل معها! وهذا يؤكد مجددا أن كليات التربية بمناهجها لا شأن لها بتطوير التكنولوجيا؛ لأنها لا تشتغل سوى بالتأكيد على أهمية الوسائط التكنولوجية في عملية التعليم! ذلك أن أساس مخترعات التكنولوجيا وتطويرها هو أساس نظري مجاله هو دعم وتطوير الأقسام العلمية في مجال الفيزياء والرياضيات!
السؤال الثالث: هل يكون التعليم من أجل تخريج موظفين يخدمون في الدولة؟ ربما نتفهم ذلك في عصر محمد على حينما أراد تخريج موظفين يعملون في سائر قطاعات الدولة بدءا من الجيش ومجالات الهندسة والزراعة والتعليم نفسه. ولكن في عصرنا الراهن الذي يموج بكثير من التطورات والتغيرات وصراعات الهويات، لا يمكن أن نختزل هدف التعليم في هذه الحدود على الرغم من أهميتها القصوى؛ فلا بد أن نتساءل عن التعليم الذي يؤسس هوية الأمم، وعن دور الفكر والفلسفة والفن والأدب في هذا السياق. بل ينبغي أن نتساءل عن دور الفلسفة ذاتها في مجال الفن وعلوم البيئة، بل في علوم الطب والهندسة والتكنولوجيا، وتلك أمور دقيقة وتفصيلية لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقام. كيف إذن يمكن أن نتحدث عن جودة التعليم من دون حضور حقيقي للفلسفة في تعليمنا؟!
السؤال الرابع: كيف نقيس معايير جودة التعليم؟ يشتغل المسؤولون في بلداننا بمعايير جودة الخريج، ولكنهم لا يعرفون أن جودة الخريج غير ممكنة من دون جودة الأستاذ (وهذا حال جودة التعليم في كل الجامعات المرموقة): فالأستاذ هو الذي يصنع الخريج المؤهل في أي مجال من المجالات المتخصصة التي تحتاجها الدولة، بل هو الذي يصنع المعلم نفسه.
السؤال الآن: هل المشهد كله مظلم في عالمنا العربي؟ لو قلنا بذلك لكان حكمنا محبطا وظالما إلى حد ما: فالحقيقية أننا يمكن أن نجد بوادر نهضة حقيقية في التعليم في عالمنا العربي، وتلك النهضة تتبدى الآن بدرجات متفاوتة في المغرب العربي أكثر مما تتبدى في مشرقه. وربما يرجع السبب في ذلك إلى انفتاح دول المغرب العربي على المعرفة والثقافة والفنون في أوروبا؛ فهذا الانفتاح هو ما يشكل الأرضية التي يمكن أن يقوم عليها النقد، ومن بعد ذلك الإبداع. كما يمكننا ملاحظة أن دولة الكويت لا تتقيد بالمعايير الشكلية للجودة (التي أسميها «الجودة الورقية ») الشائعة في مصر ومعظم بلدان المشرق العربي؛ إذ تترك الجامعة للأستاذ حرية تدريس ما يرى أنه يعبر عن الجودة، بشرط أن يبرهن على جودته هو نفسه من خلال ما ينشره من بحوث ومقالات علمية، وتلك حكمة بالغة أظنها تصلح معيارا أساسيّا للجودة.
السؤال الأول والأعم، أعني الذي ينبغي أن يسبق غيره من التساؤلات، هو: التعليم من أجل ماذا؟ وبصيغة أخرى: ما الغاية من وراء التعليم؟ لو سألت هذا السؤال لأحد من المشتغلين بجودة التعليم في عالمنا العربي، فإنه في الأغلب الأعم سوف يرتبك، وسوف يجيبك بعبارات مقتضبة من قبيل: التعليم من أجل التطوير، ومن أجل إعداد الخريج القادر على خدمة الدولة، ومواكبة التطورات المتسارعة في العالم، وخاصة في مجال الحوسبة والتكنولوجيا، وما إلى ذلك. ولكنك حينما تسأله: وكيف يصنع التعليم هذا التطور؟ فلن تجد غالبا سوى إجابات هزيلة لا تستند إلى فهم واع، أي لا تعي أن سؤالك أصلا هو سؤال عن «فلسفة التعليم»، ولكن أنَّى لمن لا يعرفون ما هي الفلسفة أن يحدثونا عن فلسفة التعليم! وأنا أود هنا أن أسوق ملاحظة عابرة ربما تكون صادمة، وهي: أن معظم أولئك الذين ساهموا في تشكيل مناهج التعليم في عالمنا العربي كانوا من خريجي معاهد المعلمين في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، وأولئك كانوا من الطلبة الذين لم يحصلوا على درجات في مرحلة الثانوية العامة تؤهلهم لدخول الجامعة المصرية قبل أن تصبح هذه المعاهد كليات منذ السبعينيات، بعد الطلب الهائل على خريجيها ورواج وظائفهم في الدول العربية آنذاك. نعم هناك من بين هؤلاء أساتذة كبار وخبراء أصحاب رؤية، ولكنهم قلة قليلة يمثلون الاستثناء من القاعدة. أعرف من هؤلاء- على سبيل المثال لا الحصر- الدكاترة: شبل بدران، وكمال نجيب، وكمال مغيث، وحسن البيلاوي. ولذلك فإن العظيمين طه حسين ولويس عوض، لم يريا أي داع أصلا لإنشاء هذه الكليات الهجينة؛ إذ يجب أن يكون المعلمون مؤهلين أصلا من خلال الكليات الجامعية المتخصصة، ويكفي خريج هذه الكليات المؤهَّل في تخصصه أن يمضي سنة واحدة في دراسة العلوم التربوية. ولقد تناولت بالتفصيل بعضا من هذه المسائل في سيرتي الذاتية الأولى بعنوان «نشيج على خليج» (التي ستظهر طبعتها المنقَّحة قريبا)، وفي سيرتي الفلسفية الثانية بعنوان «الخاطرات»، وفي غير ذلك من دراساتي المنشورة.
السؤال الثاني: كيف يخدم التعليم حاجة الدولة؟ لو وجهت هذا السؤال لأحد المشتغلين أو المسؤولين عن جودة التعليم في يومنا هذا، فسوف تجد أنه يكرر الإجابة نفسها: الهدف هو إيجاد الخريج القادر على التعامل مع تكنولوجيا العصر والوفاء بحاجة الدولة. ولكن هذا المسؤول لا يعرف أن هدف التعليم أبعد من ذلك بكثير، وهو حتى لا يعرف الطرائق والمناهج التي يمكن من خلالها تطوير التكنولوجيا ذاتها، وليس مجرد استخدامها والتعامل معها! وهذا يؤكد مجددا أن كليات التربية بمناهجها لا شأن لها بتطوير التكنولوجيا؛ لأنها لا تشتغل سوى بالتأكيد على أهمية الوسائط التكنولوجية في عملية التعليم! ذلك أن أساس مخترعات التكنولوجيا وتطويرها هو أساس نظري مجاله هو دعم وتطوير الأقسام العلمية في مجال الفيزياء والرياضيات!
السؤال الثالث: هل يكون التعليم من أجل تخريج موظفين يخدمون في الدولة؟ ربما نتفهم ذلك في عصر محمد على حينما أراد تخريج موظفين يعملون في سائر قطاعات الدولة بدءا من الجيش ومجالات الهندسة والزراعة والتعليم نفسه. ولكن في عصرنا الراهن الذي يموج بكثير من التطورات والتغيرات وصراعات الهويات، لا يمكن أن نختزل هدف التعليم في هذه الحدود على الرغم من أهميتها القصوى؛ فلا بد أن نتساءل عن التعليم الذي يؤسس هوية الأمم، وعن دور الفكر والفلسفة والفن والأدب في هذا السياق. بل ينبغي أن نتساءل عن دور الفلسفة ذاتها في مجال الفن وعلوم البيئة، بل في علوم الطب والهندسة والتكنولوجيا، وتلك أمور دقيقة وتفصيلية لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقام. كيف إذن يمكن أن نتحدث عن جودة التعليم من دون حضور حقيقي للفلسفة في تعليمنا؟!
السؤال الرابع: كيف نقيس معايير جودة التعليم؟ يشتغل المسؤولون في بلداننا بمعايير جودة الخريج، ولكنهم لا يعرفون أن جودة الخريج غير ممكنة من دون جودة الأستاذ (وهذا حال جودة التعليم في كل الجامعات المرموقة): فالأستاذ هو الذي يصنع الخريج المؤهل في أي مجال من المجالات المتخصصة التي تحتاجها الدولة، بل هو الذي يصنع المعلم نفسه.
السؤال الآن: هل المشهد كله مظلم في عالمنا العربي؟ لو قلنا بذلك لكان حكمنا محبطا وظالما إلى حد ما: فالحقيقية أننا يمكن أن نجد بوادر نهضة حقيقية في التعليم في عالمنا العربي، وتلك النهضة تتبدى الآن بدرجات متفاوتة في المغرب العربي أكثر مما تتبدى في مشرقه. وربما يرجع السبب في ذلك إلى انفتاح دول المغرب العربي على المعرفة والثقافة والفنون في أوروبا؛ فهذا الانفتاح هو ما يشكل الأرضية التي يمكن أن يقوم عليها النقد، ومن بعد ذلك الإبداع. كما يمكننا ملاحظة أن دولة الكويت لا تتقيد بالمعايير الشكلية للجودة (التي أسميها «الجودة الورقية ») الشائعة في مصر ومعظم بلدان المشرق العربي؛ إذ تترك الجامعة للأستاذ حرية تدريس ما يرى أنه يعبر عن الجودة، بشرط أن يبرهن على جودته هو نفسه من خلال ما ينشره من بحوث ومقالات علمية، وتلك حكمة بالغة أظنها تصلح معيارا أساسيّا للجودة.