جوردن بيترسون مرة أخرى
الثلاثاء / 16 / ذو القعدة / 1444 هـ - 21:01 - الثلاثاء 6 يونيو 2023 21:01
لطالما خضت حوارا مع أحد أقرب أصدقائي، عن جوردن بيترسون، عالم النفس الكندي، فعلى الرغم من أننا نقف على أرضية مشتركة في كل ما يتعلق بمواقفنا من الحياة والحقوق إلا أنه بدا في أكثر من مناسبة متحمسا لبيترسون الذي وجدته يمينيا متطرفا ويعادي النساء والأقليات، يقول بيترسون: «إن الروح الذكورية تتعرض للهجوم كما أن الغرب فقد إيمانه بفكرة الذكورة، وهذا لا يختلف عن موت الإله. فبالنسبة لبيترسون، لا شيء اسمه النظام الأبوي، ولا تمييز ضدّ النساء تاريخيا. أمّا تسلسل الهرمية الاجتماعية، فهو نتاج التطوّر وليس الاستغلال الرأسمالي.
كان ذلك مثيرا للاهتمام بالنسبة لي، هل يمكن أن أكون قد تلقيت بيترسون بطريقة خاطئة؟ هل تحمل بعض أطروحاته قدرا من الموضوعية حقا؟ لكنني في كل مرة كنت أتفاجأ بقدرة بيترسون على لي عنق الحقائق وتقديم سرديات عنصرية ومتطرفة بنعومة بالغة تكاد لا تميزها بسهولة، لكنني وجدت أنه يعتمد على فكرة مهمة، أشعر بأن الناس بعد مرور قليل من الوقت ستنتبه لها أكثر وستضعها في واجهة الجدل المتعلق بحصول الأقليات والمهمشين على حقوقهم، إنه ما أسميه «الأدائية»، لقد أصبحت الكثير من الخطابات الحقوقية بمثابة «هوية» يتم اتخاذها للت عريف بالذات، «أكسسوار» يظهرك تقدميا أو أكثر تعقيدا مما أنت عليه. وبغض النظر عن أن هذه الفكرة بحد ذاتها تجعلني أفكر في الدوافع العميقة التي تجعلنا نتخذ من لبوس أيدلوجيات ومواقف حقوقية مظهرا للتعريف بأنفسنا، إلا أن اليمينيين يقفون دوما على الجانب الذي يجعلهم ينددون بصدق المطالبات وأهميتها فيما يتعلق بأعدائهم. كما يعتمد بيترسون على مفهوم «الهشاشة النفسية» إزاء هذا الذي يبدو سعارا من رفض الحياة كتحد وكرحلة تحتاج إلى التماسك والنضال بدلا من تطبيع حالات اليأس والهزيمة والتذمر والسخط والغضب منها ومن السلطات المقيدة فيها تكتب رهام مرشد «يدافع عن أفكاره مستخدما استعارة الكركند (Lobster). فالمهيمن هو مَن ينجو في حياة الكركند، كما في الحياة البشرية، ونحن نتشارك التركيبة الكيميائية العصبية نفسها مع تلك الكائنات رغم انفصالنا عنها منذ 600 مليون سنة: الكركند أقل تعاطفا وليس اجتماعيا؛ لذا عليك أن تكون مثله قاسيا».
في عام 2021 كتب ناثان جي روبينسون مدير تحرير مجلة « Current Affairs مقالا في غاية الأهمية عن بيترسون وعنوانه: «جوردان بيترسون.. المثقف الذي نستحقه» وترجمه للعربية موقع «كتب مملة» فند روبينسون كثيرا من أطروحات بيترسون، باقتباس بعضها بشكل مباشر وتفكيكها، كما دعاه لمناظرة فردية. بالنسبة لروبينسون فإن استراتيجية بيترسون يمكن تلخيصها في التالي: « تحدث بكل ثقة ممكنة، كما لو أنك تشارك حقيقة من عند الله. لا تقبل أي نقد: كن مصرا على أن أي تشكيك ينشأ إما من سوء تفسير لكلامك وإما أنه يُقر في الواقع بالفعل أنك على حق. تحدث كثيرا قدر الإمكان، واستمع قليلا قدر الإمكان. اتبع هذه الخطوات وسيكون نجاحك مضمونا» إلا أن ما بدأت به مقالي هذا استمر في تشكيك روبينسون بالذين يتلقون بيترسون ويحتفون به، ما الذي يجعل شخصا حساسا وذكيا ويريد أن ينتصر للآخرين عرضة لتصديق زيف بيترسون؟
قبل ثلاثة أيام نشر روبينسون بعد أكثر من عامين على مقاله الأول، مقابلة مهمة جدا أتمنى أن تصبح متاحة بالعربية قريبا، يلتقي فيها بمن كان تابعا لبيترسون في وقت من الأوقات، الذي لم يترك أطروحاته فحسب، بل أنشأ موقعا إلكترونيا عنوانه الرئيسي «بيترسون مخطئ» يكتب روبينسون في مقدمة حواره: «أردت أن أرى كيف بدا بيترسون لا من وجهة نظري بصفتي يساريا ولكن من منظور شخص كان معجبًا بفكره فبالنظر إلى أنني أعتقد أن رؤية بيترسون المروعة للعالم بالأسود والأبيض هي خطيرة للغاية ووهمية، فما الذي يمكن فعله لفهم وإزالة تطرف أتباعه؟».
بدأ حديث بينامين هوارد مع روبينسون حول ما يميز بيترسون عن غيره، كان هذا الأخير قد بدأ مشروعه من خطاب «تحسين الذات» والملاحظ أن كتابه المعني بقواعد الحياة ليس سياسيا على الإطلاق، إذ أنه تبنى رأي (قبل أن تنتقد العالم، لابد وأن ترتب منزلك بشكل مثالي. «لطالما استخدم بيترسون أسلوب الأمر للتوكيد على القواعد التي يراها لازمة لتحسين الحياة، لم يكن يشجع أو يقترح، كان أسلوبه القائم على الأمر حاسما في وصول رسالته. ولم يستدرك بيترسون أوامره تلك بمحاولة التخفيف عن المتلقي شعوره بالذنب لأنه لا يمتثل لتلك الأوامر كما هو شائع في خطابات «التنمية البشرية الرائجة» على العكس من ذلك كان يقول وبكل صراحة: لا بد وأن تشعر بالضيق، لا بد وأن تحس بالذنب. إنه وبهذه الطريقة يقدم نصائح أبوية يحتاجها الناس في عصر «الهشاشة النفسية» الذي أشرت له في بداية مقالي هذا. لا بد أن نكون أكثر صلابة لا بد أن نذنب.
يتحدث بنيامين عن فرادة بيترسون في قدرته على تحويل كل شيء إلى قصة عميقة ومهمة. فبالتأكيد أننا جميعا نعرف أن علينا أن ننظف غرفتنا، لكن ربما نمر بمرحلة من حياتنا لا ندرك أهمية ذلك بشكل مباشر حقا، يعتمد بيترسون على شرح أهمية ذلك يبدو كما لو أنه يصفعك ليقول: «مرحبا هذا مهم للغاية، قم بتنظيف غرفتك فورا» إن بيترسون يقدم لك رسائل واثقة «إليك ما عليك القيام به لإصلاح حياتك».
لكن مشكلة بيترسون ليست في خطاب «التنمية البشرية الذي يتبناه» بل في مواقفه اليمينية المتطرفة التي تعادي اليساريين والاشتراكيين وتعتبرهم تهديدا للنظام الاجتماعي من بين فئات أخرى عديدة. يقول بنيامين: إن المدخل الرئيس لفلسفة بيترسون كانت قائمة على رفض «الصوابية السياسية» ولقد فعل ذلك بطريقة فريدة ومختلفة. تصبح تجربة الاستماع لبيترسون عند حديثه حول هذه الموضوعات كما لو أنك ترى كل شيء في مكانه، تشعر كما لو أنك تتعلم شيئا عميقا عن العالم، وتفهم كيف تحدث الأشياء وتعمل.
يعتمد بيترسون أيضا على تقديم سردية متماسكة حول مواقفه، فهنالك مدخلات من التنمية البشرية والدين وعلم النفس والسياسة، إنه قادر على توليفها معا بحيث تبدو لا مقنعة فحسب بل جذابة وممتعة. إنه يمنحنا ذلك الشعور بأنه «رائع» ويعرف كل شيء، إن لديه بصيرة عميقة لا يمتلكها الآخرون عادة. فتخضع لمن تظن أنه يملك رؤى عبقرية. إنه يبالغ بثقته بنفسه ومعلوماته مما يجعله يبدو محقا على الدوام.
تطرق روبينسون إلى أهمية وجود مناهج التفكير الناقد في التعليم، لكي تستطيع الأجيال الجديدة مجابهة هذا النوع من الدعوات البغيضة، لكنه كان يؤكد باستمرار على أهمية أن لا نقصي الآخرين ممن يتبعون شخصية كبيترسون مثلا، بل علينا أن نؤمن بأن الأشخاص قادرون على تغيير آرائهم.
بدا لي أن نرجسية بيترسون وميله الذي يمكن أن يكون «سايكوباثيا» له قدرة هائلة على استغلال كل الفجوات العميقة التي تصنعها لنا الحياة غير الموثوقة التي نعيشها اليوم، وإننا بحاجة ملحة للالتفات يمينا ويسارا لمن نعتبرهم «رائعين» و«عباقرة» لأسباب لا تتعلق بقدرة أطروحاتهم على تحسين وجودنا في العالم بل لأسباب ترتبط بالطريقة التي يقولون فيها ما يقولونه، ولثقتهم المفرطة بأنفسهم وشكنا وترددنا المستمر بذواتنا.
كان ذلك مثيرا للاهتمام بالنسبة لي، هل يمكن أن أكون قد تلقيت بيترسون بطريقة خاطئة؟ هل تحمل بعض أطروحاته قدرا من الموضوعية حقا؟ لكنني في كل مرة كنت أتفاجأ بقدرة بيترسون على لي عنق الحقائق وتقديم سرديات عنصرية ومتطرفة بنعومة بالغة تكاد لا تميزها بسهولة، لكنني وجدت أنه يعتمد على فكرة مهمة، أشعر بأن الناس بعد مرور قليل من الوقت ستنتبه لها أكثر وستضعها في واجهة الجدل المتعلق بحصول الأقليات والمهمشين على حقوقهم، إنه ما أسميه «الأدائية»، لقد أصبحت الكثير من الخطابات الحقوقية بمثابة «هوية» يتم اتخاذها للت عريف بالذات، «أكسسوار» يظهرك تقدميا أو أكثر تعقيدا مما أنت عليه. وبغض النظر عن أن هذه الفكرة بحد ذاتها تجعلني أفكر في الدوافع العميقة التي تجعلنا نتخذ من لبوس أيدلوجيات ومواقف حقوقية مظهرا للتعريف بأنفسنا، إلا أن اليمينيين يقفون دوما على الجانب الذي يجعلهم ينددون بصدق المطالبات وأهميتها فيما يتعلق بأعدائهم. كما يعتمد بيترسون على مفهوم «الهشاشة النفسية» إزاء هذا الذي يبدو سعارا من رفض الحياة كتحد وكرحلة تحتاج إلى التماسك والنضال بدلا من تطبيع حالات اليأس والهزيمة والتذمر والسخط والغضب منها ومن السلطات المقيدة فيها تكتب رهام مرشد «يدافع عن أفكاره مستخدما استعارة الكركند (Lobster). فالمهيمن هو مَن ينجو في حياة الكركند، كما في الحياة البشرية، ونحن نتشارك التركيبة الكيميائية العصبية نفسها مع تلك الكائنات رغم انفصالنا عنها منذ 600 مليون سنة: الكركند أقل تعاطفا وليس اجتماعيا؛ لذا عليك أن تكون مثله قاسيا».
في عام 2021 كتب ناثان جي روبينسون مدير تحرير مجلة « Current Affairs مقالا في غاية الأهمية عن بيترسون وعنوانه: «جوردان بيترسون.. المثقف الذي نستحقه» وترجمه للعربية موقع «كتب مملة» فند روبينسون كثيرا من أطروحات بيترسون، باقتباس بعضها بشكل مباشر وتفكيكها، كما دعاه لمناظرة فردية. بالنسبة لروبينسون فإن استراتيجية بيترسون يمكن تلخيصها في التالي: « تحدث بكل ثقة ممكنة، كما لو أنك تشارك حقيقة من عند الله. لا تقبل أي نقد: كن مصرا على أن أي تشكيك ينشأ إما من سوء تفسير لكلامك وإما أنه يُقر في الواقع بالفعل أنك على حق. تحدث كثيرا قدر الإمكان، واستمع قليلا قدر الإمكان. اتبع هذه الخطوات وسيكون نجاحك مضمونا» إلا أن ما بدأت به مقالي هذا استمر في تشكيك روبينسون بالذين يتلقون بيترسون ويحتفون به، ما الذي يجعل شخصا حساسا وذكيا ويريد أن ينتصر للآخرين عرضة لتصديق زيف بيترسون؟
قبل ثلاثة أيام نشر روبينسون بعد أكثر من عامين على مقاله الأول، مقابلة مهمة جدا أتمنى أن تصبح متاحة بالعربية قريبا، يلتقي فيها بمن كان تابعا لبيترسون في وقت من الأوقات، الذي لم يترك أطروحاته فحسب، بل أنشأ موقعا إلكترونيا عنوانه الرئيسي «بيترسون مخطئ» يكتب روبينسون في مقدمة حواره: «أردت أن أرى كيف بدا بيترسون لا من وجهة نظري بصفتي يساريا ولكن من منظور شخص كان معجبًا بفكره فبالنظر إلى أنني أعتقد أن رؤية بيترسون المروعة للعالم بالأسود والأبيض هي خطيرة للغاية ووهمية، فما الذي يمكن فعله لفهم وإزالة تطرف أتباعه؟».
بدأ حديث بينامين هوارد مع روبينسون حول ما يميز بيترسون عن غيره، كان هذا الأخير قد بدأ مشروعه من خطاب «تحسين الذات» والملاحظ أن كتابه المعني بقواعد الحياة ليس سياسيا على الإطلاق، إذ أنه تبنى رأي (قبل أن تنتقد العالم، لابد وأن ترتب منزلك بشكل مثالي. «لطالما استخدم بيترسون أسلوب الأمر للتوكيد على القواعد التي يراها لازمة لتحسين الحياة، لم يكن يشجع أو يقترح، كان أسلوبه القائم على الأمر حاسما في وصول رسالته. ولم يستدرك بيترسون أوامره تلك بمحاولة التخفيف عن المتلقي شعوره بالذنب لأنه لا يمتثل لتلك الأوامر كما هو شائع في خطابات «التنمية البشرية الرائجة» على العكس من ذلك كان يقول وبكل صراحة: لا بد وأن تشعر بالضيق، لا بد وأن تحس بالذنب. إنه وبهذه الطريقة يقدم نصائح أبوية يحتاجها الناس في عصر «الهشاشة النفسية» الذي أشرت له في بداية مقالي هذا. لا بد أن نكون أكثر صلابة لا بد أن نذنب.
يتحدث بنيامين عن فرادة بيترسون في قدرته على تحويل كل شيء إلى قصة عميقة ومهمة. فبالتأكيد أننا جميعا نعرف أن علينا أن ننظف غرفتنا، لكن ربما نمر بمرحلة من حياتنا لا ندرك أهمية ذلك بشكل مباشر حقا، يعتمد بيترسون على شرح أهمية ذلك يبدو كما لو أنه يصفعك ليقول: «مرحبا هذا مهم للغاية، قم بتنظيف غرفتك فورا» إن بيترسون يقدم لك رسائل واثقة «إليك ما عليك القيام به لإصلاح حياتك».
لكن مشكلة بيترسون ليست في خطاب «التنمية البشرية الذي يتبناه» بل في مواقفه اليمينية المتطرفة التي تعادي اليساريين والاشتراكيين وتعتبرهم تهديدا للنظام الاجتماعي من بين فئات أخرى عديدة. يقول بنيامين: إن المدخل الرئيس لفلسفة بيترسون كانت قائمة على رفض «الصوابية السياسية» ولقد فعل ذلك بطريقة فريدة ومختلفة. تصبح تجربة الاستماع لبيترسون عند حديثه حول هذه الموضوعات كما لو أنك ترى كل شيء في مكانه، تشعر كما لو أنك تتعلم شيئا عميقا عن العالم، وتفهم كيف تحدث الأشياء وتعمل.
يعتمد بيترسون أيضا على تقديم سردية متماسكة حول مواقفه، فهنالك مدخلات من التنمية البشرية والدين وعلم النفس والسياسة، إنه قادر على توليفها معا بحيث تبدو لا مقنعة فحسب بل جذابة وممتعة. إنه يمنحنا ذلك الشعور بأنه «رائع» ويعرف كل شيء، إن لديه بصيرة عميقة لا يمتلكها الآخرون عادة. فتخضع لمن تظن أنه يملك رؤى عبقرية. إنه يبالغ بثقته بنفسه ومعلوماته مما يجعله يبدو محقا على الدوام.
تطرق روبينسون إلى أهمية وجود مناهج التفكير الناقد في التعليم، لكي تستطيع الأجيال الجديدة مجابهة هذا النوع من الدعوات البغيضة، لكنه كان يؤكد باستمرار على أهمية أن لا نقصي الآخرين ممن يتبعون شخصية كبيترسون مثلا، بل علينا أن نؤمن بأن الأشخاص قادرون على تغيير آرائهم.
بدا لي أن نرجسية بيترسون وميله الذي يمكن أن يكون «سايكوباثيا» له قدرة هائلة على استغلال كل الفجوات العميقة التي تصنعها لنا الحياة غير الموثوقة التي نعيشها اليوم، وإننا بحاجة ملحة للالتفات يمينا ويسارا لمن نعتبرهم «رائعين» و«عباقرة» لأسباب لا تتعلق بقدرة أطروحاتهم على تحسين وجودنا في العالم بل لأسباب ترتبط بالطريقة التي يقولون فيها ما يقولونه، ولثقتهم المفرطة بأنفسهم وشكنا وترددنا المستمر بذواتنا.