أفكار وآراء

الصناعة إذ تتوحش

ينظر، عادة، إلى الصناعة والتصنيع الآلي ثم التكنولوجيا بوصفها رمزا لانتصار العلم وتجسيدا ماديـا له، وفتحا عظيما من فتوحات التقدم التي أنجزتها البشرية الحديثة. نعثر على هذه السردية مترددة، من غير انقطاع، في مجالات دراسية عدة: في العلوم الاقتصادية؛ في التاريخ؛ في دراسات التنمية...إلخ. لا يكتفي الباحثون وحدهم بترديدها، بل يشاركهم في ذلك رجال الصحافة والإعلام، والصناعيون والسياسيون وقطاعات عدة من الرأي العام. لا يعني أحدا من هؤلاء جميعا أن يفكر في التبعات الهائلة التي يفضي إليها ذلك التـقدم المحمول على صهوة الصناعة، وخاصة تبعاته على الطبيعة نفسها، لأن المعتقد المركوز في عميق الوعي لديهم يدور على فكرة أن الرشد الإنساني واكتمال الإرادة في الوجود إنما يكونان من طريق السيطرة على الطبيعة وإخضاعها، من حيث هما - في الوقت عينه - يرادفان فعـل التحرر من قيود أحكامها وضغوطها على الحياة الإنسانية؛ وليس مثل الصناعة - في هذه العقيدة - يملك أن يخضع الطبيعي ويحوله ويختصر زمنه... إلخ.

الطور الصناعي في التراكم الحضاري الإنساني مدين، في تكونه والصعود، إلى مقدمتين رئيستين كانتا العاملين الحاسمين في التمكين للصناعة: الثورة العلمية، وقد طالت ميادين من علوم الطبيعة عديدة، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونشوء الرأسمالية كنظام للإنتاج جديد واتساع نطاق سيطرة علاقات الإنتاج الرأسمالية في البنى الاجتماعية للبلدان المركزية في أوروبا. ولقد كان حدثا عظيما في التاريخ أن تتضافر هذه الفتوحات الثلاثة (الثورة العلمية، والرأسمالية، والثورة الصناعية) فتنتج المنعطف الأكبر الثاني في التاريخ الإنساني - بعد منعطفه الأول (نشوء الزراعة، والدولة، والكتابة) - وتفتح أمام الحياة الإنسانية ممكنات كانت منسدة...، (كان حدثا عظيما) لولا أن نتائج الثورات العلمية وإمكانيات الثورة الصناعية وضعت، جميعها، تحت تصرف النظام الرأسمالي ومنطقه المنفعي وأخلاقيات الربح فيه، وخاصة حين أمكن للطبقة الاجتماعية المالكة للرأسمال والثروة ووسائل الإنتاج ( البرجوازية)، والمتحكمة في عملية الإنتاج الرأسمالي، أن تنجز ثورات سياسية ناجحة فتقيم سلطة لها وتكرس، بالتالي، الرأسمالية نظاما إنتاجيا مسيطرا، لتخضع وجوه النشاط الصناعي كافة لمنطق الرأسمال والربح؛ المنطق الذي يبيح استغلال الطبيعة، نظير إباحته استغلال قـوة العمل الإنساني، والذي ظل يدور في فلك ذلك المعتقد الصـناعوي الذي سوغ فكرة السيطرة على الطبيعة وإخضاعها بالقوة!

حسن الثالوث المقدس الجديد (العلم، والرأسمال، والصناعة) شروط الحياة الإنسانية أكثر من ذي قبل: وفـر غذاء أكثر؛ وقضى على أمراض وأوبئة كانت تأخذ مدنا وقرى برمتها؛ وهيأ لاغتناء مادي أعلى بتأمينه فرص عمل للملايين؛ ووسع نطاق سيطرة الدولة على أراضيها وثروتها، ورفع من قدرتها على الإنفاق على قطاعات الاجتماع بما وفره من موارد... إلخ. وما كان لهذا كله سوى أن ينعكس اتساعا لدوائر الحياة والاجتماع؛ هكذا ارتفع معدل الإنجاب والنمو الديمغرافي، وتوسعت المدن بل تضخمت واتسع نطاق امتدادها الجغرافي، وبدأ التوازن بين البوادي والحواضر يختل، تدريجا، ليصب في مصلحة الديمغرافيا المدينية...إلخ، ولأول مرة في التاريخ كان مفهوم المدنية يكتسب معناه الكامل بحسبانه سيادة للمدينة ونظام قيمها داخل المجتمع. غير أن وراء هذه المكتسبات، وإلى جانبها، كان ثمن آخر فادح يدفع من الوجود الإنساني من خلال الأضرار التي لحقت بيئته الحاضنة، وشرعت في التأثير السلبي على شروط الحياة وفي إنتاج أوضاع كارثية لا تلبث هي نفسها أن تنتج ما هو أشد كارثية منها... وهكذا دواليك؛ فلقد كان على الطبيعة أن تدفع من نظامها واستقرارها ثمن صناعة مدفوعة، بجنون، إلى غزو كل شيء في العالم. من نتائج تزايد التمدين والتمـديـن، بالتوسع في بناء المدن وتوسيع القائم منها (وهو نفسه من ثمار الصناعة والتصنيع)، تقليص مساحات الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، من طريق التهامها في مشروعات البناء والتوسيع الحضري، والتوسع المهول في استنزاف مصادر المياه السطحية والجوفية، في أغراض الصناعة والاستخدام المديني العمومي والمنزلي، وحرمان الزراعة - بالتالي- منها. وفي كل مكان من العالم، الواقع تحت سلطان الصناعة، كانت الطبيعة تفقد شيئا عزيزا منها يقع بين أشداق النهب المنظم والعشوائي؛ عشرات ملايين الهكتارات من الأراضي المزروعة - أو القابلة للزراعة - التي التهمتها المدن والأوتوسترادات، وأضعاف أضعافها من الغابات التي التهمها الاستغلال الصناعي والمديني لأخشابها، وابتلعها التوسع المديني على حسابها. وفي الأثناء، كان على آلاف الأنواع من الحيوانات والنباتات أن تنقرض وعلى ما يعادلها أن يوشك على الانقراض نتيجة تدمير الشروط البيئية المناسبة لحياتها. وهكذا كانت البشرية تخوض في مفارقة غير مسبوقة في تاريخها: التقدم في السيطرة - بالعلم والصناعة - على مشكلات حادة مثل الحرمان، والأمراض والأوبئة، والشروط القاسية للعيش، والتقدم - في الوقت عينه - في إنهاك البنية المناعية للطبيعة عينها: أس الحياة وبنيتها التحتية. وإن قيل إن العلم أوجد ما يعتاض به عن النقص في الغـذاء - نتيجة الانفجارات الديموغرفية المتلاحقة - متوسلا نتائج الثورة في العلوم البيولوجية وتعديل الجينات...، فإن ذلك الإيجاد كان باهظا؛ حيث فقد الغذاء، مع ذلك التعديل الجيني، مقوماته الطبيعية وعناصره الحيوية ومعدلات الطاقة فيه...! وكما تهششت بنية الزراعة بالتصنيع ووقع إفقار منتوجها من موارده الطبيعية، كذلك دخلت البيئة الحيوية مسلسلا من التهوين والإتلاف، جراء تغـول التصنيع، تحللت به عرى التماسك فيها وانثلمت به حلقات نظامها الحيوي؛ فإلى تلويثه مياه البحار والمحيطات والأنهر والوديان بنفايات الصناعة، وتدميره مقومات الخصوبة في التربة المصابة بالمياه الملوثة بالسموم الصناعية، ينتقل الجنون الصناعي من مجرد تلويث الهواء بالأبخرة الصناعية، التي تغطي كبرى مدن العالم بسحابات دكناء بالأوساخ والسموم، إلى حيث يدمر- حثيثا - الغطاء الحيوي الدفاعي للكرة الأرضية، الذي تمثله طبقة الأوزون، ويرفع - بالتالي - درجة الحرارة فيها إلى الحد الذي يهدد الحياة رمة في الكوكب. وإذا كان من ذيول احترار الأرض، اليوم، موجات متلاحقة من الجفاف، بالتزامـن مع فيضانات مرعبة واختلال في نظام فصول الطبيعة، فالخبراء يتوقعون ذوبان جليد القطب في المستقبل، وارتفاع نسبة مياه المحيطات والبحار الذي قد يجر معه اختفاء بلدان وجزر من خريطة اليابسة، مع اختفاء أنواع حيوانية ونباتية عدة من الوجود!

هذا وجه وحشي للصناعة والتصنيع ينبغي أن يسلط عليه الضوء، في مقابل تلميع لصورتها - مدفوع الأجر- من فيالق من المصطنعين من قبل قوى المصالح في العالم. ليس نقد الصناعة والنزعة الصناعوية دعوة إلى العودة إلى الماضي، ولكن فيه دعوة إلى الاحتجاج على استخدامها ضد الإنسان والطبيعة.