أفكار وآراء

طوق النجاة (القوى الناعمة في مواجهة الثقافات الوافدة) ؟

يشهد العالم الكثير من الصراعات من قبيل الحرب الروسية الأوكرانية، وتوتر العلاقات بين قطبين كبيرين (الولايات المتحدة الأمريكية والصين)، فضلا عن الصراعات التي تشهدها منطقتنا العربية وغيرها من الصراعات في مناطق كثيرة من العالم، كل هذه العقبات والمشاكل الإقليمية والدولية التي أدخلت العالم في أتون أزمات بدت مستعصية على الحل، لدرجة أن العالم برمته أصبح على درجة عالية من التوتر، بعد أن تعقدت الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي راحت تهدد منجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة، ولم تعد دولة واحدة مهما عظم شأنها بمنأى عن هذه المخاطر.

إذا كان الإنسان هو صانع هذه الحضارة التي قطع فيها شوطا كبيرا للغاية في كافة المجالات العلمية والتكنولوجية، لكن دولا أخرى تعثرت لأسباب لا تخفى على أحد، لعل من أهمها افتقاد ثقافة الوعي بمعناه العلمي والفكري في غيبة منظومة متكاملة للتعليم، ولا أقصد التعليم بمعناه التقني والفني فقط، وإنما التعليم باعتباره نمط حياة قوامها العقل، والذي انحرف بالبعض لدرجة استباحة دماء المخالفين، وهي قضية احتار العالم في احتوائها، ولم تعد الإجراءات الأمنية كافية لاحتواء هذا العنف الذي يتخذ من الدين مرجعية لممارساته.

أعتقد أن طوق النجاة في كل ما تعانيه البشرية وخصوصا في عالمنا الإسلامي هو العناية بالقوى الناعمة باعتبارها الوسيلة العملية لمواجهة الموجات العاتية من الجمود والتخلف. الأمر جد خطير حينما لم يلتفت واضعو السياسات التنموية في عالمنا الإسلامي إلى العناية بهذه الطاقة الإنسانية الهائلة بمعناها الإنساني والمدني، والتي تجاوزت كثيرا الأدب والشعر والفن، وإنما تستحق هذه القضية أن تكون نمطا للحياة بكل مفرداتها.

اختلف المثقفون وعلماء أنثروبولوجيا على وضع تعريف دقيق للقوى الناعمة بقدر اختلافهم على مفهوم الثقافة، وهي تعريفات لم تختلف كثيرا عن المعاني العامة التي تقترب من صلب القضية، رغم تباين كل هذه الاختلافات ما بين الثقافة والقوى الناعمة التي تُعنى بفكر الإنسان وتعليمه واندماجه في مجتمعه لكي يكون أداة بناء ومعرفة، بدلا من أن يكون أداة للهدم والفوضى. ويعتقد البعض أن القوى الناعمة جاءت كرد فعل للسياسات الخشنة في مجال العلاقات الدولية. وهو مفهوم يتجاوز كثيرا المعنى الحقيقي للقوى الناعمة، التي تنتجها الشعوب من خلال برامجها التعليمية والثقافية والاجتماعية، بهدف بناء الإنسان بصرف النظر عن توظيف هذا المصطلح في العلاقات الدولية، وقد بالغ البعض لدرجة القول بأن هذا المصطلح ظهر كرد فعل لتراجع التأييد العالمي للولايات المتحدة الأمريكية عقب الحروب التي خاضتها في أماكن كثيرة من العالم.

يقول البعض بأهمية القوى الناعمة في العلاقات الدولية، كل ذلك صحيح، لكن المعنى الحقيقي لهذه القوى ناجم عن سياسات داخلية لكل دولة بهدف العناية بالإنسان في تعليمه ووعيه وثقافته وتطوير نمط حياته لكي يكون الإنسان إنسانا بالمعنى الحقيقي، مثقفا وسياسيا، متذوقا للفنون ومختلف الثقافات، محترما القانون، منفتحا على الثقافات الأجنبية القديم منها والحديث.

القضية بهذا المعنى تتعلق ببرامج الدول وسياساتها في إدارة برامجها التنموية، صحيح أن بعض الدول الكبرى تعمل على توظيف القوى الناعمة في سياساتها الخارجية كالمنح الدراسية والتدريبية التي تقدمها حكومات دول العالم المتقدم إلى شباب العالم الثالث، لكن تبقى القضية في بعدها الثقافي قضية محلية ناجمة عن سياسات محلية لكل دولة، وهو ما يفسر نجاحات بعض الدول في التنمية وإخفاقات البعض الآخر، وهي الدول التي لم تعن بهذه البرامج التي تستهدف الوجدان والوعي وثقافة التسامح والانفتاح على كل الثقافات الأجنبية.

يعتقد البعض بأن القوى الناعمة بهذا المعنى الثقافي والاجتماعي هو مصطلح معاصر انتهجته الدول الأوروبية في برامجها التنموية، لكن القضية ترجع إلى عصور قديمة قدم الحضارة الأوروبية الحديثة منذ بداياتها في أوروبا في مطلع القرن السادس عشر، حينما انتقلت أوروبا من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وكان قوام نهضتها تلك القوى الناعمة في العلوم والفنون والآداب، من خلال أجيال حلقوا بفكرهم دون قيود، من قبيل دانتي وميكاڤيللي وتوماس مور وغيرهم من المؤسسين للفكر الأوروبي الحديث، وقد اعتمدت أوروبا على هذه الأفكار والإبداعات في برامجها التنموية، وهي سياسات أسست لنهضات أوروبية شارك فيها المجتمع بكل فئاته لكي تصل إلى قمة مجدها مع نهايات القرن الثامن عشر.

لم تعد عناصر القوى الناعمة كما كانت في القرون الماضية، وإنما أصبح للطفرة الهائلة التي أحدثتها تكنولوچيا المعلومات وخصوصا فيما يتعلق بسهولة التواصل الاجتماعي، كل ذلك كان له أكبر الأثر في شيوع أنماط جديدة للثقافة، اخترقت الحدود الإقليمية والجغرافية، في ظل موجة عاتية من وسائل التواصل الاجتماعي التي استهدفت الرأي العام العالمي في أية بقعة من العالم، بصرف النظر عن خصائصه الاجتماعية والثقافية، وهي برامج بقدر أهميتها إلا أنها أحدثت أثرا سلبيا على كثير من دول العالم الثالث.

إذا كنا لم نصل بعد إلى تعريف دقيق لمفهوم الثقافة أو مفهوم القوى الناعمة، فإن الأمر يتجاوز كثيرا التعريفات، لكي نصل إلى لب الحقيقة، وهي أن دول العالم الثالث إذا لم تتنبه إلى أهمية التعامل مع هذا الفيض المتدفق من المعلومات فإنها تكون قد وقعت في خطأ كبير، فعليها العناية بتعليم أبنائها وتثقيفهم وتحصينهم من الوافد الذي لا يفيد في أحيان كثيرة، وقد يُحدث ضررا بالغا بالثقافات وقيم وعقائد هذه الشعوب من خلال برامج حديثة تواكب العصر، تكون أكثر انفتاحا وأقدر على الإجابة عن كثير من التساؤلات التي تحتاج إلى رؤية واضحة.

أعتقد أن الثقافات الوطنية في كثير من دول العالم الثالث قد تأثرت كثيرا بهذه الموجة العاتية من الثقافات الوافدة، وهو ما يستوجب العناية بالثقافة الوطنية لكي تكون لها الأولوية في التعليم والحياة الاجتماعية مع عدم إغفال أهمية الثقافات الأجنبية، لكن وفق رؤية قوامها التعليم والإعلام حتى لا نضيع في عوالم متباينة من الثقافات الأجنبية، وفي جميع الحالات تبقى القوى الناعمة هي الطاقة المؤهلة لكل هذه المخاطر الوافدة.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.