أفكار وآراء

أخيرا يعلنون فشل البريكست

ترجمة: أحمد شافعي

لم يستغرق الأمر إلا ثانية، لكنها لحظة تساوي عصورا من الزمن. ففي مقابلة مع برنامج نيوزنايت في هيئة الإذاعة البريطانية يوم الاثنين، أدلى نايجل فاراج باعتراف من شأنه -إن صحت الأمور- أن ينهي الجدل الذي انقسم بسببه هذا البلد إلى نصفين على مدار الجزء الأكبر من العقد الماضي. فقبل شهر من حلول الذكرى السابعة لاستفتاء عام 2016 الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قال فاراج كلمات قلائل ذات بساطة وصدق لافتين للنظر: «لقد فشل البريكست».

يمكنكم أن تشاهدوا المقطع مرارا وتكرارا، فهو يستحق المشاهدة. فها هو نفسه القائل الأكبر بالبريكست، الرجل الذي كرس حياته لقضية الانفكاك عن الاتحاد الأوروبي، يعترف بأنه كان كارثة. وهو بالطبع، كما سنراه هو وزملاءه من أنصار البريكست، لا يلقون اللوم في هذا الفشل على الفكرة ذاتها، لكن الاعتراف هو المهم. وذلك ما يكفي أساسا لاحتفال المتواضع: فالآن، أصبح من الممكن أخيرا أن نتبين ملامح إجماع وطني ناشئ، إذ يمكن للباقين والمتراجعين على حد سواء أن يجتمعوا على اتفاق بأن هذا الأمر لم ينجح. ومع ذلك، فإن للأمر ثمنه، والثمن أيضا أصبح من الممكن تبين جهامته هذا الأسبوع.

لنبدأ بالحقائق التي لم يعد فاراج نفسه قادرا على التهرب منها. خلال حملة الاستفتاء وعد هو وحلفاؤه بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون بمثابة نعمة لاقتصاد المملكة المتحدة، يفصله عن بيروقراطية بروكسل ويطلقه إلى مستقبل مزدهر. وها نحن بعد سبع سنوات، يمكن أن نرى الواقع: بلد واقع في قبضة أزمة تكاليف المعيشة التي تعني عجز الملايين عن تحمل ما كانوا يرونه من جملة الأساسيات. أصبحت بريطانيا أفقر وباتت متأخرة عن قريناتها. من المتوقع الآن أن يكون اقتصادنا أحد أسوأ الاقتصادات أداء في العالم، فلا يكون فقط السابع في مجموعة السبعة ولكن العشرين في مجموعة العشرين ـ تاليا حتى لروسيا الخاضعة لعقوبات دولية شديدة ـ بحسب ما يقول صندوق النقد الدولي.

والعواقب الناجمة عن وضع الأفقر هذا محسوسة أنى نظرنا، سواء نظرنا إلى ثلاثة ملايين طرد غذائي قدمتها بنوك الطعام في العام الماضي، أو إلى الأسر التي لا تستطيع الحصول على موعد للصحة العقلية لطفل مضطرب، أو إلى المحاكم التي تعاني من الازدحام والتراكم منذ سنين. لوهلة، يمكن أن يلقي أنصار بريكست باللوم في كل مشكلاتنا على أي شيء عدا البريكست، فيلومون كوفيد أو أوكرانيا. ولكن الآن ما من مجال للاختباء من الحقيقة.

فقد جاء هذا الأسبوع تحذير من أن ترتيبات التجارة مع الاتحاد الأوروبي في ما بعد البريكست تهدد وجود صناعة السيارات بأكملها في المملكة المتحدة، وهي صناعة يعمل فيها ثمانمائة ألف شخص. وقد دعت شركات فورد وجاجوار لاند روفر وأصحاب شركة فوكسهول الحكومة إلى إعادة التفاوض بشأن اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويزداد الصوت الداعي إلى هذا المطلب ارتفاعا. إذ يجتمع، في الشهر المقبل، ألف شركة، إلى جانب ممثلين للزراعة وصيد الأسماك، في برمنجهام لحضور مؤتمر «فك قيود التجارة» Trade Unlocked، الذي سيقام من أجل مناقشة أفق ما بعد البريكست، ويقول معظمهم إنه أضفى على الحياة التجارية صعوبة لا حدود لها وجعلها أكثر بيروقراطية. وقد قال لي أحد المنظمين إن «الشركات بدأت تجد صوتها». لكنها ليست أرقاما اقتصادية وحسب. وتذكروا أن فاراج والآخرين قد احتجوا بأن تعرض إجمالي الناتج المحلي لضربة ثمن مقبول طالما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يفي بوعوده الأخرى - وأعزها لديهم هو تخفيض عدد المهاجرين إلى المملكة المتحدة. ولكنكم لو كنتم من بين المقتنعين ـ برغم الأدلة ـ بأن الهجرة عبء، وليست ذات فائدة للبلد، فقد فشل البريكست حتى بموجب هذا المقياس. فقد ارتفعت الهجرة، ولم تنخفض، منذ خروجنا من الاتحاد الأوروبي، مع إشارة أحد التحليلات إلى أن صافي أرقام الهجرة السنوية التي ستنشر الأسبوع المقبل قد يشهد ارتفاعا إلى 700000 أو حتى إلى مليون. بما يتبين منه أن بريطانيا بحاجة إلى مهاجرين - لكن عليهم الآن أن يأتوا من أماكن بعيدة، وليس في حركة متبادلة بيننا وبين أقرب جيراننا.

في ضوء هذا كله، ما الذي يجب أن يفعله أنصار البريكست؟ لم يزل البعض منهم ينكر الواقع إنكارا تاما، ويصر على أننا يجب أن نكفر بالأدلة التي نراها بأعيننا. ويعترف الباقون بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد فشل، ثم يواجهون أحد خيارين. فإما أن يكفِّروا عن دورهم في إزال هذه النكبة بالأمة ويمضوا في طريق تصحيحها. أو يمكنهم إلقاء اللوم على آخرين لعدم تنفيذهم للخروج بشكل صحيح.

في برنامج نيوزنايت، لجأ فاراج إلى الخيار الأخير. نعم، لقد كان صحيحا أن بريطانيا بالفعل «لم تستفد من الخروج اقتصاديا» ولكن ذلك يرجع إلى أن سياسيين «لا نفع لهم» قد «أساؤوا إدارة هذا الأمر تماما». وهذه هي المناورة التي أتقنها الشيوعيون الغربيون في حقبة سابقة عند مواجهة الحقائق الوحشية للاتحاد السوفيتي، إذ دأبوا على القول إنه ما من خطأ في الفكرة الشيوعية لكن الأمر ببساطة أنه لم يجر تنفيذها بشكل صحيح.

لكن هذا المنطق مخادع بالنسبة لأنصار البريكست، لأنهم هم الذين كانوا في موقع المسؤولية. إذ تم توقيع اتفاق الخروج وختمه ودفعه عبر البرلمان على يد أحدهم، وهو بوريس جونسون، وإدانة البريكست حاضرة في داونينج ستريت الآن على هيئة ريشي سوناك. لذلك يجب إلقاء اللوم على شخص آخر باعتبار أنه الذي خان القضية، أو على قوى غامضة أخرى.

يشير البعض إلى سوناك نفسه، بمساعدة كيمي بادنوش، الذي أوقف هذا الشهر تمزيق مخطط له لآلاف اللوائح الملوثة بلمسة الاتحاد الأوروبي. والبعض يشير إلى النخبة المصرة على خطأ البريكست، وتتألف هذه النخبة من الخدمة المدنية، وهيئة الإذاعة البريطانية، والجامعات، والنقابات، إذ يمكن إلقاء اللوم على أي شخص، حتى اللاجئين اليائسين في القوارب الصغيرة، وتحميله مسؤولية الحيلولة بين بريطانيا وبين جنة البريكست الموعودة.

وليست هذه بالديناميكية الجديدة. فالقومية، بوعدها المستحيل بمستقبل مثالي، تحتاج دائما إلى خائن يلام على تأخر وصول الكمال. ومثل هذا هو ما نشهده الآن إذ نشهد الرعاية المستمرة لأسطورة طعنة الظهر التي تلقاها البريكست. ويعلمنا التاريخ أن البحث عن صاحب هذا الخنجر الغادر سوف يزداد شرا. وهذا هو سبب الانزعاج المستحق من الكثيرين من تجمع هذا الأسبوع تحت اسم «المحافظة القومية»، حيث أعلن الكاتب دوجلاس موراي أن القومية لم تعد بحاجة إلى إخفاء وجهها لمجرد أنها فشلت على يد الألمان في القرن الماضي ـ وهذه طريقة جديدة لوصف السجل الدموي للاشتراكية الوطنية. كان ذلك المؤتمر عبارة عن بحث استمر ثلاثة أيام عن أولئك الذين يمكن إلقاء اللوم في فشل البريكست على خيانتهم.

سوف يحتدم هذا السعي مع تراكم الأضرار الناجمة عن البريكست. كلما ازداد الاقتصاد سوءا، وارتفعت أسعار الفائدة، وتقلص الدخل، ستزداد حدة الهجمات على من يفترض أنهم الجناة الحقيقيون، وذلك فقط لتغييب الفكرة الواضحة: وهي أن البريكست نفسه هو الذي يستحق اللوم.

يعني هذا أن من عارضوا هذا الجنون منذ البداية لديهم الآن سببان لكسر عهد الصمت السائد في وستمنستر حول البريكسيت، وهو عهد مفهوم وغريب في الآن نفسه. السبب الأول هو الحاجة إلى الإشارة إلى مصدر مرضنا الوطني: فلو أن المريض يفقد الدم، لا يمكن الاستمرار في تجاهل الجروح التي ألحقها بنفسه إذ أطلق الرصاص على كلتا قدميه. وأقل من هذا وضوحا، وإن لم يكن أقل إلحاحا، هو الحاجة إلى الاعتراف بأن فشل البريكست يضخ سما جديدا في النظام، وهو سم سوف ينتشر كلما ازداد وضوح هذا الفشل - وسينتشر بشكل أسرع إذا رفضنا إعلان السبب الحقيقي.

جوناثان فريلاند روائي بريطاني وكاتب عمود في صحيفة الغارديان ومضيف بودكاست السياسة الأسبوعية في الجارديان.

عن ذي جارديان البريطانية