أفكار وآراء

صناعة الترفيه في عُمان

لقد ارتكزت التحولات التي أحدثتها الأزمات الصحية والاقتصادية التي اجتاحت العالم خلال السنوات الأخيرة على ديناميكية حياة المجتمعات، وأنماط الصناعات القائمة على التقنية والإبداع والابتكار، الأمر الذي دفع دول العالم إلى النظر في تطوير تلك الصناعات بما يعزِّز دورها في دعم الدافعية، وتمكين المبدعين القادرين على تنمية تلك الصناعات وتطويرها، وتقديم نماذج إبداعية ذات طابع محلي خاص، يتناسب مع ثقافة المجتمع وتطلعاته المستقبلية.

فمنذ عام 2020 والعالم يشهد تحولات تقنية غير مسبوقة، الأمر الذي واكبه نقلات هائلة فيما يُعرف بصناعة الترفيه لارتباطها الوثيق بالصناعات الثقافية والإعلامية، بما تمثله من أهمية كبيرة في حياة المجتمعات، وما تعكسه من تحولات في السلوك والقيم والأخلاق من ناحية، والتغيير في الأنماط الاقتصادية وتوجيهها من ناحية أخرى، ولهذا فإن صناعة الترفيه واحدة من بين تلك الصناعات التي نمت وتطوَّرت في الكثير من الدول خلال جائحة كوفيد 19، حتى أصبحت من أهم الصناعات القادرة على إنتاج وابتكار نماذج ثقافية وإعلامية ذات هُوية مجتمعية تتناسب مع تراث المجتمعات وحضارتها.

إن التحولات التي تشهدها صناعة الترفيه اليوم تنطلق من تلك التغيرات التي أحدثتها الأزمات الأخيرة في سلوك المستهلك والمتلقي، واحتياجاته في ظل تغيُّر دينامكية العلاقات الإنسانية وتعقيداتها، والاهتمام المتزايد بالصناعات الثقافية والتقنية، الأمر الذي أحدث تطورات على مستوى الشركات المساهمة والمستثمرة في هذه الصناعات، وعلى مستوى الأعمال الفنية والإعلامية والثقافية عموما، مما أوجدت اتجاهات حديثة أكثر قدرة على جذب المتلقي، خاصة بعد ما توصلَّت إليه الحكومات من قناعة بأهمية هذه الصناعات في دعم العديد من القطاعات التنموية مثل التقنية والابتكار، والسياحة المحلية والداخلية، والتنمية الثقافية، وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى دعم الاقتصاد الوطني وغير ذلك.

قدَّم تقرير وجهات نظر في التوقعات العالمية للترفيه والإعلام (2021-2025)، (تحولات الطاقة. تغيير ديناميكية صناعة الترفيه والإعلام) الصادر عن (PWC) البريطانية، محاولة للإجابة على السؤال (كيف يمكن لصناعة الإعلام والترفيه في ظل التحولات والانفصالات المختلفة التي شهدها العالم أن تشكِّل ديناميكية في مختلف القطاعات؟)، وللإجابات عن هذا السؤال عمد التقرير إلى استقصاء حالة الركود والانتعاش الاقتصادي الذي شهده القطاع خلال المدة (2020-2022)، ثم التوقعات التي يمكن أن تحدث خلال الأعوام القادمة حتى عام 2025، وبناء على حالة الانتعاش التي تصاعدت خلال عام 2022، فإن التوقعات تسير نحو (معدل سنوي مركب صحي لمدة خمس سنوات بنسبة 5.0%...). وقد خلُص التقرير الذي شمل (53) إقليما بأن الإيرادات التي تشمل الإعلانات في كل بلد لن (ترتفع بأقل من معدل نمو سنوي مركَّب لمدة خمس سنوات بنسبة 3.0% حتى عام 2025)، ولهذا فإن التوقعات تظهِر الانتعاش الذي سيشهده هذا القطاع الحيوي على مستوى العالم، على الرغم من التغيرات الاقتصادية والصحية التي ما زالت تؤثر على الكثير من الدول، إضافة إلى التوترات السياسية، بما ينعكس على هذا القطاع وتحولاته وقدرته على الصمود والنمو، خاصة في تلك الدول التي ما زالت تستورد هذه الصناعة، أو يلجأ أفراد المجتمع فيها إلى السفر إلى البلدان الأخرى من أجل الترفيه.

لقد تسارعت التحولات والتغيرات التقنية والثقافية والإعلامية في العالم، وبدأت الدول تُنتج أنماط الترفيه الجاذبة لأفراد مجتمعها بفئاتهم وتطلعاتهم المتنوعة، حتى أصبحت وجهة أولى وأساسية للشركات المستثمرة في صناعة الترفيه في العالم، مما أسهم في نمو الأعمال التجارية والمنتجات الفنية والصناعات المساندة لها من ناحية، ودعم المبدعين وتنمية قدراتهم وتمكينهم من ناحية ثانية، وزيادة نسبة مساهمة أنماط هذه الصناعة في قطاع السياحة الثقافية والتنمية المجتمعية من ناحية ثالثة؛ ذلك لأن نمو صناعات الترفيه والإعلام يعزِّز من إمكانات نمو الأعمال الخاصة بالموسيقا، والدراما، وألعاب الفيديو، والمسرح، والطباعة والنشر والإعلانات وغيرها.

ولأن سلطنة عُمان واحدة من الدول التي تعتني بالقطاعين الثقافي والإعلامي، فإنها تشهد نموا ملحوظا في أنماط تلك القطاعات وتطورها، خاصة في ظل العناية بالقطاع التقني وتطبيقاته وبرامجه، إضافة إلى الرعاية والدعم الذي يحظى به قطاع الإبداع والابتكار، ولهذا سنجد الكثير من المؤسسات الثقافية والإعلامية تقدِّم العديد من البرامج والفعاليات التي تندرج ضمن (الترفيه) أبرزها دار الأوبرا السلطانية، وما يشهده برنامجها الحافل من قدرة على جذب المتلقين ضمن أنماط ثقافية فنية معينة، وتلك الفعاليات أو المهرجانات السنوية التي تقدمها المؤسسات الحكومية والخاصة بشكل متفرِّق خلال العام، إلاَّ أن ذلك كله بما يمثلِّه من حِراك ثقافي، ورياضي، وسياحي، وإعلامي، فإنه يحتاج إلى المراجعة والتقييم استنادًا إلى مفاهيم (صناعة الترفيه)، وقدرة هذه الصناعة على جذب الجماهير محليا ودوليا، بل وقدرتها على جذب الشركات المستثمرة في مجالات هذه الصناعة.

فعلى الرغم مما تزخر به ثقافتنا من مقومات، وما نشهده من تطورات على المستوى التنموي، وما تقوم به المؤسسات من جهود مشكورة، غير أن هذا القطاع ظل يقوم على اجتهادات المؤسسات كل حسب صلاحياته وتخصصات عمله، لا يحكمه إطار إداري قادر على تنظيمه باعتباره صناعة وقوة اقتصادية، بل أنه ما زال يقدم نفسه بوصفه خدمات مجتمعية عامة. والحال أن هذا القطاع يشهد على مستوى العالم تطورات هائلة خاصة في ظل النقلات التقنية والابتكارات التي أسهمت في تحوُّله من قطاع خدمي إلى قطاع تنموي قادر على الجذب، إضافة إلى ما يقدمه من فرصٍ لدعم الصناعات التجارية والاستهلاكية المختلفة، وفي ظل التفاؤل العالمي بمستقبل هذا القطاع وقدرته الاقتصادية، فإن إعادة النظر في هيكلة هذا القطاع ودراسة الإمكانات الاقتصادية والتنموية التي يمكن أن يفتح آفاقها ورؤاها، سيُسهم في إحداث تغييرات ليس على مستوى تحولات القطاع وحسب، بل أيضا في الحد من هجرة الأموال وإنفاقها في الخارج، ودعم تطلعات المبدعين وتمكينهم بما يهيئ لهم البيئة الخصبة للتطوير، وإنعاش سوق العمل الفني والصناعات المساندة له.

إن إيجاد منظومة لصناعة الترفيه في عُمان، وما يرتبط بها من صناعات رديفة، سيُسهم في إنعاش الصناعات الثقافية، والسياحية، وسيقدِّم محتوى قادر على تعزيز القيم الإنسانية والإمتاع، بما يعزِّز قيم السعادة والتفاؤل والإقبال على الحياة الإيجابية، ولهذا فإن توفر أنماط الترفيه في المدن والمحافظات، سيقدِّم فرصا للتنمية في كافة القطاعات، كما سيهيئ البيئة المناسبة لنمو الشركات الداعمة والمساندة لهذه التنمية في ظل الانتعاش والحِراك الثقافي والفني الذي سيكون له الأثر الكبير في دعم اقتصاداتها، وبالتالي فإن توفير البيئة المناسبة الداعمة لهذه الصناعة هو السبيل إلى إيجاد تلك الفرص وإنعاش الحِراك الترفيهي المُنظم والموجَّه لغايات واضحة، قادرة على احتواء فئات المجتمع في المواسم المختلفة.

ولهذا فإن التركيز على صناعة الإعلام والترفيه، وقدرتهما على المساهمة الفاعلة في دعم القطاعات التنموية، سيكون له الأثر البالغ في تعزيز الإقبال على الأنشطة والفعاليات الترفيهية والثقافية التي تُقدَّم في الدولة، وستدعم الأنشطة المساندة، وتُحفِّز الصناعات المحلية، فإذا كان (مُتوسط إنفاق واستهلاك الأسرة العمانية الشهري للأنشطة الترفيهية والثقافية 10.5 ريال عماني) - حسب إحصائية المركز الوطني للإحصاء والمعلومات 2022 -، فإن هذا يدل على أهمية هذه الصناعة وقدرتها على النمو، مما يدعم إمكانات ازدهارها خاصة في ظل انتعاش التقنية وتوفرها.

إن صناعة الترفيه قوة اقتصادية وثقافية وإعلامية، ولن تكون كذلك سوى بتنظيمها في إطار إداري، قادر على قيادة هذا القطاع واستثمار إمكاناته بما يُرضي تطلعات المتلقين والمستهلكين، ويجذب المستثمرين ويُنعش سوق التجارة الفنية والترفيهية.