أفكار وآراء

الثقافة الغربية ونقد السرديات

تشارك الثقافة الغربية الثقافة العربية في حضور أبنية السرديات فيها، وفي سلطة تلك السرديات على وعي المنتمين إلى تلك الثقافات؛ إذ السرديات سمة متلازمة مع ثقافة كل مجتمع وأمة. الفارق بين الثقافتين -وهو ليس تفصيلا صغيرا على كل حال- أن سلطان السرديات في الثقافة الغربية بدأ يخف ويتلاشى، بالتدريج، منذ بدايات العصر الحديث الأوروبي فيما لم يكـف يـقوى في الثقافة العربية ويجدد نفسه وأساليبه حتى اليوم. صحيح أن سرديات قديمة ذوت واضمحلت ثم تلاشت في الثـقافة الغربية وحلت محلها سرديات جديدة وقع إنشاؤها في شروط مناسبة، بيد أن الذي لا سبيل إلى الشك فيه أن تلك الثقافة الغربية أبدت، باستمرار، قدرة مذهلة على التحرر من سلطان سردياتها في مطلق الظروف...، الأمر الذي ما كانت الثـقافة العربية لتـقوى عليه دائما، وإذا ما قويت على قليله تعصى عليها كثيره.

ترد نجاحات الثـقافة الغربية في تبديد سردياتها الكبرى، في كل مرحلة من اشتداد سلطانها فيها، إلى أنها درجـت على تمرين نفسها على النـقد وإعماله في كل شيء يتصل بالمعارف الموروثة والمكتسبة، وصولا إلى تحلية نفسها بذلك الروح النـقدي الذي باتت تدين له بما استطاعته من فتوحات معرفية كبرى منذ القرن السابع عشر. في ميزان النقد فقط توزن السرديات؛ يبحث في لبها وقشورها، في الواقعي منها والمتخيـل، في التاريخي والأسطوري، وفيه وحده يقع تحديد نصابها ومن أي عيار هي. والنقد، هنا، ليس فعل هـدم ومحو للمعطى المدروس فحسب، بل هو فعل منتج وإيجابي: ينتج معرفة جديدة من حيث هو، بالأساس، فعل معرفي هو فعل التحليل.

والحق أن الثقافة الغربية أوسعت لفعل النقد مساحات إمبراطورية، فلم تقـفل عليه منطقة من المعارف والأشياء والعلاقات بدعوى أنها حـرم، وبالتالي، ممنوعة على أي مساءلة معرفية. لقد امتلكت جرأتها وصارت ربيطة الجأش منذ أن نجح العقل في اجتياز امتحان البقاء أمام البطش الإكليريكي به ومحاكم التفتيش والمقاصل المنصوبة لذوي الرأي الحر، والمستقل، عن سرديات الإكليروس. وليس ثمة ما يمكن أن يستدل به على سعة المساحات المتاحة للنقد في الثقافة الغربية أكثر -ولا أفضل- من صيرورة السرديات الدينية نفسها موضع مساءلة وتدقيق نقدي. ولا يتعلق الأمر في هذا بتفسيرات الكنيسة وتأويلاتها الرسمية فقط (وهي كانت عرضة للنقد الشديد حتى من داخل الكنيسة، ومن قـبل رجال دين، على نحو ما فعل مارتن لوثر في العقد الثاني من القرن السادس عـشر حين نـشر نقـده للبابا والكـنيسة مدشـنا بذلك حـركة الإصلاح الديني في المسيحية)، بل يتعلـق -أيضا- بالسرديات الدينية للكتاب المقـدس جملة (= العهد القديم والعهد الجديد)؛ هذه التي باتت موضوع افتحاص علمي من الفلاسفة والدارسين المتخصصين في دراسات الكتاب المقدس -وفيهم لاهوتـيون أيضا- ابتداء من أربعينيات القرن السابع عشر، ووراء تأسيس ما عرف باسم ميدان النقد الكتابي أو ميدان دراسات الكتاب المقـدس.

تحول هذا إلى ميدان علمي يعمل فيه متخصصون في تاريخ الأسفار (أسفار العهدين القديم والجديد). ولقد انقسم عمل علماء الكتاب المقدس إلى لحظتين من النقد الكتابي: لحظة نقد المصادر؛ وفيها يبحث في المخطوطات القديمة للأسفار، سواء في لغات التدوين الأصل (العبرية، اليونانية) أو في لغات ترجمت إليها -خاصة أسفار العهد الجديد- مثل السريانية والقبطية واللاتينية... وشاعت من خلالها. والهدف التأكـد من مدى مطابقة تلك الوثائق والمخطوطات الأولى للنصوص الرسمية، ومدى ما لحقها من تبديل وتحريف عبر النساخ أو غيرهم، وبيان الأصيل من تلك الأسفار والدخيل. ثم لحظة النقد التاريخي والأدبي؛ وفيها يقع الانصراف إلى البحث في تكوين كل سفر، ومما استقى موارده من المصادر السابقة له: الكتابية والشفوية. ويلجـأ في هذه اللحظة، أيضا، إلى التثـبت من نسبة الأسفار إلى كتابها من الأنبياء، وإلى محاولة تحديد تواريخ تدوينها؛ إما بمضاهاة بعضها بالبعض الآخر لمعرفة ما قد ينطوي عليه أحدها من إحالات إلى أخبار ترد في غيره، أو بمقارنة ما يرد فيها من أخبار بما ورد في مصادر التاريخ أو في النقوش. واللحظتان النقديتان شاقتان على صعيد العمل على تاريخ مصادر النص الديني، ولكن تحليله من الداخل، وفك ألغاز لغته، وإعادة كل بنية من التعبير اللغوي إلى حقبة تاريخية تطابقها، وبالتالي، بيان ما كتب منها لاحقا ثم ألحق بها، لهو أيضا عمل شاق للغاية لأنه يتطلب من الدارس ما يتجاوز موارد علم التاريخ ومناهجه إلى علوم أخرى للسان والبلاغة والنقد الأدبي...إلخ.

والحق أنه قبل أن يستقر هذا الميدان العلمي، في القرن الثامن عشر، ثم يشرع في الازدهار وفي إخصاب المعارف الأخرى (الفلسفة وفلسفة الدين تحديدا، الدراسات الهيرمينوطيقية أو التأويليات الحديثة، الدراسات التاريخية اليونانية والرومانية، وبعدها، دراسات الاستشراق...) -في القرنين التاسع عشر والعشرين- كان قد شهد على تدشين فلسفي ابتدائي مع اثنين من كبار فلاسفة العصر الحديث في القرن السابع عشر: الإنجليزي توماس هوبس، والنيذرلاندي باروخ سپينوزا. أعاد الأول منهما -وهو مسيحي- النظر في السرديات عن الكتاب المقدس جملة (وعن أسفار العهد الجديد خاصة)، في كتابيه: التنين والمواطن. وكان واضحا أنه كان في معرض مساجلة حادة مع الكنيسة في قراءته النقدية للنص الديني، وفي مسعى إلى التنظير لوجوب الفصل بين الديني والسياسي. لكن عمله العلمي -بمعزل عن هذه الخلفـية- يظل تأسيسيا في بابه، بل لعله هو الذي فتح الباب أمام عمل سپينوزا: هذا الذي ذهب بعيدا في نقد أسفار العهد القديم (كتب الشريعة -أو التوراة-؛ الكتب التاريخية؛ كتب الأنبياء...)، مميطا اللثام عن معرفة لاهوتية موسوعية بالتاريخ الديني اليهودي (على نحو ما يظهرنا على ذلك كتابه الرسالة اللاهوتية- السياسية)، ولكن -أيضا- عن جرأة استثنائية من فيلسوف عاش منبوذا وطريدا من طائفته الدينية اليهودية في نيذرلاند. ولعل سپينوزا أول مفكر أثبت أن النص الديني اليهودي كتب على أيدي كثيرين من الكتاب على مدى زمني طويل امتد قرابة الألف عام، وأن الكثير من الأسفار المنسوبة إلى أنبياء بني إسرائيل كتبت بعد وفاتهم بمئات السنين.

منذ ذلك الإبان، أسقطت الثقافة الغربية كل الخطوط الحمراء أمام سلطان العقل والنقد، وبات البحث في السرديات الدينية، عندها، يعادل البحث في أي سرديات أخرى أقـل قداسة. ولم يكن غير المعتقدين من العلماء وحدهم من انخرط في هذا المشروع النقدي، بل كان معهم العشرات من الدارسين المؤمنين -يهودا ومسيحيين- من الذين استقـر عندهم اليقين بوجوب التمييز بين حقين يمكن أن يحملهما المرء الواحد: الحق في الإيمان، والحق في البحث العلمي في نفس الآن.