أعمدة

الرواية بمدارات أعلى

 
«قراءة في روايات القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية»

ذلك التنافس ليكون هناك الأجدر كان منذ القدم، وعبر الملاحم والمحاورات الأفلاطونية الفلسفية، فعرف الإنسان بفطرته المفاضلة، وأن هناك من بين كل الأشياء المتاحة يوجد بينها ما هو أكثر جمالا وإبهارا، من بداية التشكل الأولي للخلق بدأ معها كل شيء بالتنامي بما فيها الحكاية، من تحاور بالرموز إلى كتابات الكهوف، ومن ثم تطورها إلى لغات مقروءة عبر الزمان، لتتنامى الحكاية والتي تنتقل عبرها الخبرات وذلك عبر الزمان، لتكون هناك ما هو عابر منها وما هو مسلٍّ ومدهش، وما هو مهم لاكتساب المعاني والخبرات، فتكونت المفاضلة بين أنواعها وتنامت وكانت الجائزة العالمية للرواية العالمية، والتي تأسست عام ٢٠٠٧م، وهي تابعة لجائزة البوكر العالمية، والتي اتخذت مقرا لها لندن، وبتمويل سخيّ من دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، من أجل النهوض بالأدب العربي، ليصل بذلك على نحو عالمي.

لتتوّج قائمة من الروايات بالقائمة الطويلة، ليتبقى على لائحة الجائزة على عرش القائمة القصيرة ستّ روايات فقط، في عرش ممتد من أقطاب عربية عديدة، فكانت هناك تغريبة القافر لزهران القاسمي، والأفق الأعلى لفاطمة عبدالحميد، وكونشيرتو لنجوى بن نشوان، وحجر السعادة لأزهر جرجس، وأيام الشمس المشرقة لميرال الطحاوي، ورواية منّا «قيامة شتات الصحراء»، للصديق حاج أحمد.

وليس تتبّع منشأ الجائزة واعتبارات تأسيسها هو ما يهم بهذا المقال، بل البحث عن رابط يجمع بين تلك الروايات، التي وصلت إلى القائمة القصيرة، لتتربّع على عرش جميع الروايات التي تنشر على مدار العام في كل أقطاب الدول، ولسبر اعتبارات ترابطية وتتبع ذلك الخيط الذي ألهب الروايات توهجا، فبلا شكّ فإنها جميعها موزونة بمعايير الرواية العامة المتعارف عليها لتكون أكثر اكتمالا، أو كما عبّرت عنه باربرا كينغسولفز «مالذي يجعل الكتابة جيدة؟ هذا سهل: الوصف الغنائي، والاستعارة اللافتة للنظر، والحوار الذي يسقط على الأذن بوقع حقيقي يكسر القلب، والحبكة التي تنتهي حيث يجب أن تنتهي بالضبط».

ولنقرأ بتمحيص أكثر تلك الروايات بإسقاطات على قوانين الإبداع ومبادئه، بداية من كونه ينطبق عليه ما يشابه الإبداع اصطلاحا، إلى اتصافه بصفات الإبداع، وإلى ما يبديه كتابه من سمات إبداعية في صفاتهم، وكل ذلك بقوام عمومي نتجاوزه لنلج عتبات قراءتي لتلك الروايات، ليتوارد إلى ذهني تقييم عشوائي بادئ ذي بدء، يميّز الأصالة والجدّة في العمل، مما يعلي من شأن العمل كونه يطرق أبوابا لمنظومات مجتمعية لم تسرد حكاياتها بعد، وذلك عبر انطباع أول يعتدّ به بلا شك، رغم رحلة البحث والتمحيص التي استمرّت لأسابيع عديدة من إعلان القائمة القصيرة للجائزة، وحيث إن وكما يقال «الانطباع الأول هو الانطباع الأخير»، ليكون بذلك عتبة الباب التي أنطلق منها نحو إسقاطاتنا الإبداعية لاعتبارات الجائزة العربية للروية في اعتباراتها.

لنبدأ برواية تغريبة القافر للكاتب العماني زهران القاسمي، والتي تحكي من المفتتح بالماء وتنتهي بالماء، حيث بطل الرواية يأتيه صوت الماء المندس والمسجون ما بين الصخور، كنداء يشبه الوحي لتنتهي الرواية بعد أن « تداعت الصخرة أمامه، انفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء »، ليترك للقارئ بذلك مقولة خابيير مارياس « إن الروائي ليس من المفترض حقا أن يرد على الأشياء، ولا حتى أن يجعلها أكثر وضوحا، بل بالأحرى أن يستكشف بنحو أعمى غالبا مناطق الظلمة الضخمة ويظهرها بنحو أفضل »، واستنادا على مقولة « العبقرية ما هي إلا تركيز الذهن »، يكون البطل بذلك معبّرا عن هوسه الفطري في استجلاب الماء، وسماع خريره من أعماق الأرض، ومن خلف الصخور الصماء « لا يدرك خطورة أن يكون مختلفا في بلاد كهذه البلاد ».

ثم بعد ذلك تأتي رواية أيام الشمس المشرقة لميرال الطحاوي، الكاتبة والروائية المصرية، تتجسّد فيها الهجرة والترحال إلى الغرب، وما تحملها من معاناة إنسانية أزلية، لتبدأ الحكاية من بلدة الشمس المشرقة « التي كما وصفتها الكاتبة، تنام تحت أقدام سلاسل الجبال القرمزية على الساحل الغربي لتلك البلاد »، مع بطلة الحكاية « نغم الخبّاز »، لأتذكّر مقولة وليام آرثر وارد حول أولئك من يبدعون « الناس الذين يصلون للقمّة يفكرون بشكل مختلف »، فالكاتبة عبر هذه الرواية تسلّط ضوء الأحداث على ذلك الاغتراب الداخلي الذي يشعر به بعض الأفراد، ليتم تعويضه باغتراب آخر يكون أكثر احتواءً كما يظنون بذلك، فيكون هناك عناوين لافتة لسيدة ذات الأوجاع، ويتبعها بعد ذلك سيل من الأحداث أيضا ذات الأوجاع « الأنفاس الأخيرة مفرطة في قساوتها، ثقيلة ومصحوبة بحشرجة، ثم يتحول الجسد إلى خرقة ».

وفي رواية حجر السعادة للكاتب العراقي أزهر جرجس، يذكرنا بمقولة رونيه بواريل « لكي يكون هناك إبداع يجب أن تقوم مشكلة »، لتحكي الرواية عن رحلة كمال الذي هرب من منزله، حيث إن « المذعور لا يهب السكينة »، ليتحوّل بعدها بكاميرا ترصد أحداثا لم يسبق له أن عايشها، تعبّر عن ماهية الحياة خارج المنزل، « إن الأفكار تذهب وتجيء، تتوهج وتنطفئ، تستطيل وتتقزّم، لا قداسة للأفكار لا ترياق يحميها من الخمول والموت »، ويعود العنوان إلى حجر صغير خبأه البطل في جيبه، بعدما وجده ملقى في بستان الجن، ظنا منه أنه جالب للسعادة، إلا أنه « ما نفع التكريم بعد الموت ».

وبعدها رواية كونشيرتو للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان، تنقلنا في الأحداث لتعبّر عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية الثورية في ليبيا، والتي يعبّر عنوانها الذي يبدو غريبا للوهلة الأولى عن حفل موسيقي، لتفتتح الرواية بمقولة بوكوفسكي « كنا شبيهين تماما، كما يمكن أن نكون توأمين »، لنبدأ بسرد أحداث عن آمال ابنة أمزا مسعود أي ابنة عم مسعود في « بلاد يحتاج فيها المرء إلى لسانين كي يستطيع أن يأخذ حقّه »، لتحكي عن ذلك الإنسان الذي يكون « تحت الضغوط مرتابا من كل شيء ».

ورواية الأفق الأعلى للكاتبة فاطمة عبدالحميد التي تحكي على لسان راوٍ لم تعهده من قبل، وهو الموت الذي نقترب منه مع توالي الأحداث في الرواية، والذي يتعامل معها بنداءات خفيّة ليحملنا معه إلى الأفق الأعلى، « من هذا العلوّ، أرى البشر يسيرون كالعميان »، تبدأ الرواية بسليمان ابن الثلاثة عشر عاما، والذي يتزوج بمن هي بمثابة أمه التي تستجيب لنداءات الأفق الأعلى، فتتركه مجددا طفلا لكنه هذه المرة في الخمسين، ليبدأ بعدها قصة حب حقيقية في مفارقات مدهشة تحت كل حدث، أو كما يقول « تقول العبرة: عندما تهمّ بالتقاط حجر من الأرض، فعليك أن تستعدّ لما ستجده تحته، وإذا لم تكن مستعدا لذلك، فلا تفكر في التقاطه منذ البدء ».

أما رواية منّا « قيامة شتات الصحراء »، للكاتب الجزائري الصديق حاج أحمد، رواية بأحداث تحمل ثيمة الصحراء، وتحديدا في شمال مالي، والقبائل التي تعيش هناك متأصلّة في جذور الهويّة الجزائرية في ذكرى فجيعة الجفاف، بمصطلحاتها الثقافية المميزة التي لا تخطئها أبدًا، ولعل أبلغ الظن أن الكاتب أصرّ عن سبق إصرار أن تكون تلك المصطلحات التي تحمل الهويّة الجزائرية، كانت على نحو متعمّد للإبقاء على هاجس الانتماء والأصالة، ليأخذنا إلى فضاءات لاهبة حارقة، حيث الجفاف والترحال ما بين صحراء إلى فضاءات أرحب، «عرفت بعد سنين طويلة من محرقة الصحراء، أن هذه الإبل لم تكن تحمل متاعنا في هجرة الشتات فحسب، إنما وطننا المتأرجح على سنامها».

فكما أن للأقطار جائزتها؛ فإن للجائزة أقطارها أيضا، التي تنثر فيها عبيرها، لنتجاوز بذلك هدف الرواية المعنوَن تحت الخروج من العباءة الإقليمية باتجاه العالمية، لتكون بذلك جائزة إنسانية بالدرجة الأولى، تعتني بتلك القصص التي لم تُرو بعد، وعن تلك الأقطاب التي لم يزرها الأدب، فكما يقول تودورف «هدف الأدب هو تمثيل الوجود الإنساني»، فنزورها نحن عن طريقها بمخيال الأحداث وشخوصها، ولغتها الروائية التي تعبّر عن الهويّة الحقّة، والتي تعبّر عن قاطني تلك البلاد.

ليظل بذلك الأدب وعلى الدوام وسيلة يعتدّ بها للإجابة عن تلك التساؤلات الوجودية، ليس عبر الإجابة لحقيقة ما، إنما بتساؤلات أخرى تتولّد تباعا لتقرّبنا من الإجابة، وإن كانت بخطوات بسيطة أمام المسافات التي تقاس بالسنين الضوئية، وعن تلك القدرات الفطرية التي تفوق القدرات العادية، والتي تقودنا للتساؤلات عن مقدرة الإنسان الخارقة التي لم يعرفها بعد، وتجسيدا لذلك في رواية القافر، أم عن ذلك الاغتراب الذي مهما بدا مختصا لفئة معينة إلا أنه يظل من المشاعر الإنسانية الدفينة التي تستوجب الارتحال بأشكاله.

وإن كان ارتحالا داخليا عبر الحيرة والخبرات الدفينة، كهرب من قوى الطبيعة في رواية « منّا »، التي تشحّ بعاطفة من ماء، أو ذلك الاغتراب الذي قد يحدث بسبب أقرب الناس كروايتي « حجر السعادة »، ورواية « الأفق الأعلى »، لتعبّر الرواية بذلك وعبر رواياتها الستّ، والتي أصبحت على مقربة شديدة من الجائزة عن ذلك العدل بمفهومه العام، والذي لا يعنى بالمساواة في تقدير وتطبيق المعايير، بل تلك العدالة بمفهومها الأوسع، وببعده الكوني والإنساني الذي يرضخ لاشتراطات الإنسان وبيئته بالدرجة الأولى وقبل كل شيء، ليكون بذلك تتويجا للعدالة والإنسانية قبل كل شيء.

تلك العدالة التي تأخذ التساوي على محمل الجدّ، لكنها لا تتجاهل الاعتبارات الأخرى ، والمساواة التي تكون ليست بمسارات ثابتة، فهي تأخذ بالمنحنيات اعتبارات أخرى، مسابقة تمايز في ظاهرها، وفي باطنها تماثل وذلك عبر المعايير المرسومة، فالجائزة تنهض بالمعايير ولا تكبّلها، وتستقطب الكتّاب بمسير إبداعي أسرع، التي تعيد تكرار الحكايات التي قيلت لتمتلك الجرأة أن تُحكى ما لمْ يُرو بعد، أو كما عبّر عن ذلك أندريه جيد « كل ما يجب قوله قد قيل سابقا، لكن طالما لم ينصت أحد، فيجب قول كل شيء مجددا ».

لأجل ذلك الأدب الذي يخاطب الروح، التي لم تنل الاكتفاء من الحكايات وما حولها، والذي يعلي من شأن الشعور ليكون بذلك في صفّ الروح، وما يسمو بها من ركودها ويحرّك شغاف الدهشة في عقولنا، فنرتقي بدرجات محفّزة للتفكير والتمعّن، ليهدي الحواس وما يليق بذائقته، فتتغنّى اللغة وتكتسي لحْنا يطرب ما حوله.

ثم ماذا بعد الوصول للجائزة، والإعلان عن نتائجها؟ حيث الوصول الأول بالسير المتسارع، سوى طيران يحلّق عبر أفق أرحب، فتتّسع دائرة معنى الفنّ ورسالته الأسمى، لتتجاوز المألوف عبر معان تطرق باب المجهول، ليقدّم افتراضاته، فينافس بذلك العلوم المختلفة، فما لم يقال بالنظريات سيتغنّى به القلب والشعور، فيصبح عن طريق لحن اسمه « الأدب ».

فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية