أفكار وآراء

السودان.. جدل المأزق التاريخي

فيما يمر السودان اليوم بحرب اندلعت لأسباب لا يمكن أن يبررها الخلاف المعلن بين الجيش والدعم السريع حيال خلفيتها، كان واضحا أن الاهتزاز الذي صاحب أوضاع ما بعد التغيير الذي حدث في 19 ديسمبر 2018، سينبئ بردود فعل كارثية كالحرب نتيجة لتفريط النخب السياسية في إدارة واقع ما بعد تغيير العام 2018.

ذلك أن أفعال النخب السياسية في السودان، وكياناتها الحزبية المتمانعة تعكس ما لا يمكن توقعه حيال المستقبل القريب. وليس ذلك لامتناع المعادلات المؤسسة لسوية عمل السياسة فيه فحسب، بل كذلك لامتناع أسبق تؤسس له؛ بنيةُ وعي مأزوم في النخب السياسية. وهو وعي لا نجازف بالقول إذا ما رددنا امتناعه ذاك، إلى فوات فرص تاريخية كان يمكن، في زمن سابق، أن تقود السودان إلى الخروج من المأزق الذي وصفه المفكر السوداني محمد أو القاسم حاج حمد، بأنه «مأزق تاريخي» بحسب عنوان كتاب شهير ومهم له صدر قبل 40 عاما: «السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل».

وإذ يبدو الاستحقاق المهم، الآن وهنا هو؛ استرداد الدولة السودانية التي تم تخريب جهازها العام على نحوٍ بالغ السوء بيد النظام القديم لثلاثين سنة، إلا أن محاولات تجاهل النخب السياسية المركزية أعراض أزماتها المزمنة، فيما هي تمارس تجريبا سياسيا ضعيفا، لا يبدو اليوم منطقا لسوية عقلانية، كما لا يبدو إقرار تلك النخب بمظالم تاريخية لحقت أطراف السودان عبر سياسات المركز السوداني في الخرطوم، كافٍ بذاته للتحلل من استحقاق عمل سياسي مؤسس وجاد في ظل ما يتيحه اتفاق الفرصة الأخيرة الذي كان حتى الأمس بمثابة اتفاق الفرصة الأخيرة، لكن بدا واضحا أن خلفية الحرب التي تتصل به هي التي كانت خلاصة مأزق الانسداد السياسي الذي وصل إليه السودان بين عجز نخبه السياسية والعسكرية في الاستفادة من التغيير الإيجابي للعام 2018.

لقد ذهبت اليوم تلك الأزمنة التي اتفق أن يتشكل فيها قادة تاريخيون في العالم الثالث من طراز غاندي ومانديلا، حيث لعبت أجواء الحرب الباردة دورا في تعزز فرصهم التاريخية، وذلك مما لا يمكن أن يسمح به واقع اليوم ببروز أمثال أولئك القادة في السودان، وربما لا تسمح به البنية الاتصالية المعقدة لعالم اليوم كما كانت تسمح أوضاع القرن العشرين وأطواره السياسية.

وهكذا ما إن انفصل الجنوب؛ حتى ضمر التأسيس الفكري لمشروع «السودان الجديد» الذي طرح به القائد السوداني الراحل جون قرنق (مؤسس ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان - التي انقسمت اليوم إلى ثلاثة فصائل في الشمال) بعض الأفكار التأسيسية كإطار ناظم لهوية سياسية سودانية جديدة. لكن بدا واضحا اليوم؛ أن ما تروج له بعض الحركات المسلحة حول هذه الفكرة بات منحصرا في دعوى خطاب الهامش والمركز، كترويج سياسوي باهت ولا ينطوي على أي إطار فكري مؤسس وناظم لمرجعيات فكرة الهامش والمركز (سوى اجتهادات د.أبكر آدم إسماعيل مُنَظِّر الحركة الشعبية لتحرير السودان – جناح عبد العزيز الحلو) لاسيما بعد المواقف السياسية التي عبرت عنها بعض هذه الحركات مثل ما يسمى اليوم بـ«الكتلة الديمقراطية».

لذلك، نتصور أن الذي يحجب أفق التأمل في المأزق التاريخي والسياسي للسودان اليوم الذي خلف حربا لا ندري إلى أي مدى ستستمر، يكمن في أن النخب السياسية السودانية المأزومة تخلط بين أمرين، الأول: عدم تقديرها العميق لنتائج التغيير الذي حدث في 19 ديسمبر 2018، والثاني عدم إدراكها لهوية وطبيعة الخراب الشامل والمميت الذي أصاب بنية الدولة السودانية على يدي النظام السابق.

هكذا، إذا ما تأمل مراقب أفق المأزق السياسي والعسكري السوداني جيدا، فلا يمكنه أبدا أن يتحاشى إدراج القوى السياسية السودانية اليوم ضمن مشمولات البنية الراهنة لأزمة الواقع السياسي، بالرغم من التسليم بضرورة وجود تلك القوى السياسية كضرورة لا بد منها، حتى وإن كانت على ذلك النحو من الهشاشة، بطبيعة الحال. لكن اليوم مع اندلاع الحرب كتعبير عن فشل النخب السياسية والعسكرية ستبدو آفاق المستقبل ملبدة بغيوم الحرب التي نأمل أن تنتهي بجهود المجتمع الدولي وخصوصا الجهود الحثيثة للرباعية الدولية (أمريكا – السعودية – الإمارات - بريطانيا) فواقع الداخل السياسي للسودان أصبح اليوم واقعا صانعا للأزمات وعاجزا عن إنتاج الحلول!