أعمدة

قطايف رمضان..

كانت لنا أيام

 
فكرة الامتناع عن تناول الطعام عوض أنها فريضة لدينا في ثقافتنا الإسلامية، فهي أيضا رياضة لتهذيب النفس بالامتناع عن ملذات الحياة ومشهياتها. ولأنني نشأت في بيئة تربى مجتمعها على الدّين الإسلامي، فكان الصيام ممارسة اجتماعية تقليدية وفريضة ملزمة. في مراحل الطفولة مع تجربة الصوم الأول من حديث «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» لم أكن على دراية واسعة بمفهوم الصيام وفلسفته الدينية؛ فعندما كنا صغارا كنا نصوم لأننا رأينا آباءنا يفعلون ذلك ويأمروننا أن نفعل مثلهم، ويمكن قياس العبادات الأخرى كالصلاة والزكاة والحج والصدقة. وبعدما كبرنا وتقدمنا في مراحل المدرسة ثم الجامعة أخذ مفهوم الصيام وصلاة التراويح في المسجد أبعادًا روحانية جديدة، مختلفة وآسرة وحميمية.

كانت طقوس الوجبات الرمضانية وفكرة إعدادها أو تخيّلها بسيطة جدا، كنّا في حارة الحصن، حيث البيوت منفتحة والأطباق تطير بين البيوت محمّلة على أيادينا نحن الصغيرات بلذائذ الوجبات. كذلك لا يمكن تجاهل طقس بات من مخلفات الماضي إلّا من رحم؛ وأقصد به «المشاهرة» أي زيارة الأرحام من الدرجة الأولى فالأقارب. ثم انتقلنا إلى صلالة الجديدة، فاختلفت الحياة وتغيّرت وجوه الناس. عندما كان التلفزيون هو بوابتنا إلى الدراما كنا نهنأ بتجمّع كامل العدد لأفراد البيت المكوّن من أسرة ليست نووية تماما ولا ممتدة بعيدا، حيث تضم أبي وأخي محمد رحمهما الله وغفر لهما، وأمي نهلات، وأخوتي الشباب والبنات، وجدات يتنقلن بين الأجيال.

أتذكر حرص والدي على أن يصحبه أحد أبنائه أو بناته أثناء ذهابه إلى السوق لشراء النارجيل والزلابية والخُضرة والمُضرة كما كان يدّلعها. كنت أشمّ روائحَ الأطعمة الغارق بعضها بالزيت والأخرى في البهارات الهنديّة الحَارّة. كان اكتشاف البطاطا الهندية شيئا لافتا لنا. كذلك الحلويات والمشهور منها لقمة القاضي أو العوامة أو اللقيمات، إلى جانب طعامنا التقليدي الحلو كالسخانة والخبز المقصقص والفندال حيث لا يخلو منها بيت في ظفار.

لا أتذكر في حياتي كم مرة دخلت إلى المطبخ في رمضان لأعدّ طبق اللقيمات. أنا متواضعة أمامها. ومع مرور الزمن تصالحتُ مع فكرة أن تناولها أسلمُ وأهدأ وأبرك لي. أعتقد أن الكثيرين منكم -الذين تقرؤون المقال- قد شاهدتم عبر الواتساب ذلك الفيديو المعنون عن (المخلوقات الفضائية الغريبة التي ما تطلع إلا في شهر رمضان) وكانوا يعرضون صورا معوّجة للقيمات، والله عندما شاهدتها لم أتمالك نفسي من الضحك! كانت لقيماتي كائنات فضائية تشبهها.

في رمضان وقبل ظهور الصحون الفضائية (ستالايت) كان التلفزيون التقليدي مصدر بهجتنا. لم تكن هناك غير نشرة أخبار العاشرة الناقل الرسمي لأخبار الحرب والسلام في العالم، أما فيما وراء الخبر فكانت حكايات الجدات وحزاياهن عن بطولات التاريخ والسلف الصالح ومعاني الأمثال ورسائل الحِكم ومغامرات المفطرين بقصد أو عن غير قصد. كنتُ أستمتع مع أهلي بمشاهدة المسلسلات اللبنانية والأردنية البدوية (نمر بن عدوان، رأس غليص، وضحى وابن عجلان) لدرجة أن جميع أفراد البيت كان ينتظر المسلسل البدوي بلهفة كبيرة، ثم بعدها بأيام نجلس لنقلّد بعض الشخصيات الشريرة، وكم كان أبي يغضب منّا، ويخشى علينا من سوء الطالع. أزعم أن بعض شخصيات تلك المسلسلات صارت مع الوقت فردا من بيتنا، لذلك كان يَسهل تعاطفنا أو استفزازنا إذا دار حول طبائعها النقاش مع أحد غيرنا، كنا نحاذر ألا نسب أو نشتم متذكرين حُرمة الشهر الفضيل.

من جميل الذكريات في رمضان، كان الذهاب برفقة أمي إلى المسجد لصلاة التراويح. كنت أطرح عليها الأسئلة حول المسائل الدنيوية والأخروية، وإذ أعود إلى البيت إمّا الجلوس لقراءة وحفظ بعض السور إلى جانب قراءة رواية مثلا، أو انتظار أخي البكر، للنقاش وتدبر معاني الآيات ومقاصدها. لا شك أنني بوفاته في 5 يناير 2020م قد فقدت شيئا تأسيسيا في حياتي، فكانت نكهة الشهر الفضيل هي في الشعور الآمن بوجود الأخ الكبير بالرغم من اختلافي مع بعض قناعاته.

عندما سافرت إلى الدراسة في الجامعة الأردنية، كانت لرمضان حياة جديدة وطقوس منوّعة، تبدى بعضها في اكتشافي المحترم للقطايف، لقد أحببت هذه الأكلة كثيرا، وغدت طبقا رئيسا على المائدة. حصل ذلك أنني جربت أكلها في مطاعم عدة، لكن طعمها الأخير الذي لم يغادرني إلى اليوم كان طبق قطايف تعدُّه يَدّ والدة الصديقة الفلسطينية الإعلامية أماني أبو هنطش، كنّا نلتقي عندها في البيت، وكنت كما تصفني الأمهات «غريبة بلاد»، يهتمون بي ويرعونني ويدللونني، فكانت القطايف بالجوز والقهوة معًا من طقوس رمضان الآسرة.

لكن، وراء القطايف التي حاولت أن أتعلمها، ثم تراجعت عن هذا القرار ليس صديقتي وأمها أو الضيوف الآخرون الذين كنا نلتقي بهم في بيتها، لقد وقف وراء ذلك أيضا مسلسل نهاية رجل شجاع- 1994م، المأخوذ من رواية حنّا مينه، وموسيقى شارة المسلسل بتوقيع الموسيقار طارق الناصر، أما مطلع الكلمات التي لا أنساها:

يا روح لا تحزني

يا قلب ضلّك هنّي

زوار جينا عالدني

والعمر بحر ونهار

لا أبالغ إذا قلتُ بتصالح شديد مع النفس والوعيّ، إنّ رمضان الذي قضيته في مدينة عَمّان أثناء أيام الدراسة الجامعية وكان في سنة بثّ المسلسل هو من أجمل الذكريات التي عشتها، وأحنّ إليها، فالمسلسل كان مؤثرًا جدًّا، ومؤلمًا. كنا بعد أذان المغرب والصلاة، نفطر على التمر واللبن والقهوة، كانت وجبة العشاء عبارة عن أكلة تقليدية فلسطينية، ثم عندما يحين بث الحلقة نتابع بمتعة وثقافة، لا تكون الحلقة قد أوشكت على الانتهاء إلا وأم الجميع قد حضّرت القطايف بالجوز والقشطة، ثم نتوجه لتحضير القهوة، ويجلس كلٌ منا في مكانه، ونبدأ نناقش تفاصيل الحلقة، ومقارنة تطور الشخصيات، ولا ننسى أن نستعيد تاريخ الاحتلال الفرنسي ودور البطولة، ثم يكون ذلك السؤال المُّر: هل كنا سنفعل ما فعله مفيد الوحش؟

لا جواب، فطعم الحياة والناس والذكريات صارت أشدّ مرارة علينا من حلاوة القطايف.